منذ أن حسمت الجزائر خياراتها الاقتصادية باستبعاد اللجوء إلى الاستدانة الخارجية واعتماد الإصدار النقدي آلية تقنية وظرفية لمواجهة تداعيات انهيار أسعار المحروقات، لم يهدأ بال بعض الأوساط التي تراقب المؤشرات الاقتصادية والمالية فزادت من وتيرة إصدار تقاريرها السلبية وترويج قراءات موجهة من اجل تثبيط العزائم وكسر إرادة التحدي. صندوق النقد الدولي مثلا انساق من خلال تقاريره الأخيرة وراء «سيناريو كارثي» فضاعف من درجة التهويل بشأن تأكيد الجزائر على مبادئها الاجتماعية في صياغة قوانين المالية وضبط البرامج التنموية، ملوحا بتوقعات يقول انها قاتلة إذا ما تم التمسك بالدعم الاجتماعي غير آبه بالنتائج الايجابية التي يحققها على مختلف مستويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ووضع المجتمع في حالة اطمئنان يستظل تحت الاستقرار. أمام مواقف هي اقرب للتحريض على زعزعة الاستقرار بكل ما يحمله ذلك من تهديد للمكاسب والتطلعات، لم يتأخر الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين في اجتماع المؤتمر الثاني لفيدرالية البنوك والتأمينات المنعقد السبت الماضي، عن توجيه أصابع الاتهام للأفامي بكونه يستهدف القرار الاقتصادي والاجتماعي السيد للجزائر، جاعلا من توصيات خبرائه وسيلة للتشويش على التوجهات الوطنية ومحاولة إلحاق الأذى بها، في وقت تسجل فيه بلادنا خطوات بناءة، حتى ولو كانت متواضعة في بعض القطاعات، وسط أمواج الأزمة المالية الحادة. وأكد الأمين العام للمركزية النقابية سيدي السعيد بلغة واضحة أن القرار الوطني الاقتصادي والاجتماعي وكما في كل المجالات الأخرى لا يقبل مساومة ولا يخضع لمقايضة بل انه يصاغ بإرادة سيدة في ضوء الرؤية الإستراتيجية التي سطرها رئيس الدولة وفقا للمرجعية النوفمبرية التي تراهن على إرادة الشعب الجزائري في مواجهة الظروف الصعبة بكل اليقظة والحيطة من خلال انتهاج حلول تتم صياغتها ضمن خارطة طريق وطنية من حيث التشخيص والتوقعات. ويتضح جليا أن هذه الهيئة التي تجرعت الجزائر بمرارة وصفتها القاتلة مطلع التسعينات لما وقعت بلادنا في قبضة كماشة المديونية الخارجية ولم تنج منها إلا بتضحيات قاسية وإتباع حلول جريئة اتخذها رئيس الجمهورية تتمثل أساسا في التسديد المسبق للمديونية الخارجة المجدولة بفوائد مرهقة، موظفا حصيلة الأريحية المالية التي أثمرتها الطفرة النفطية لتحرير القرار الاقتصادي الذي عاد بقوة لتتجسد برامج اجتماعية واسعة النطاق في أكثر من قطاع. في ضوء ما تواجهه البلاد جراء موجة تقارير خارجية ظاهرها اقتصادي وباطنها يخفي أهدافا غير معلنة، ينبغي أن تدرك الطبقة السياسية المحلية ثقل التحديات وما تتطلبه من مواقف منسجمة لا تترك فجوة لمن يتربصون بالجزائر الدوائر ويتحينون أدنى فرصة للشروع في انجاز مخططاتهم الهدامة. ويقع في المستوى الثاني على المتدخلين في عالم الاقتصاد والاستثمار والإنتاج واجب المبادرة بتجسيد المحتوى الاقتصادي للخيارات الوطنية وإعطاء القيمة المضافة المطلوبة لتعويض كلفة الإصدار النقدي في المديين القريب والمتوسط بتحسين معدلات النمو ومضاعفة وتيرة التصدير التي لا تزال محتشمة في مواد خارج المحروقات، ومن ثمة إبعاد شبح التحرشات الاقتصادية والمالية التي أصبحت ظاهرة للعيان بما في ذلك أهدافها الوخيمة على الجوانب الاجتماعية. المعركة إذن، تبقى مفتوحة ولا مجال سوى أن القرار الوطني الرهان، خاصة وانه يتأكد في كل يوم من خلال انتعاش ورشات الاستثمار وتحريك عجلة التنمية المندمجة رغم تراجع إيرادات الخزينة العمومية، بالموازاة مع تعديل منهجي وعقلاني لتركيبة الواردات والرفع من أداء التصدير مع عزم قوي على مكافحة الفساد بكافة جوانبه من خلال إعادة هيكلة الآليات ذات الصلة وتعزيز التشريعات مع تفعيل إلى درجة اكبر أدوات المراقبة والرصد والمتابعة خاصة مع توسيع مساحة استعمال تكنولوجيات الاتصال الجديدة على مستوى المرافق والإدارات والهيئات المعنية بالمبادلات والتجارة وتحويل العملة. أمام منعرجات حاسمة يمر بها بلد حريص على سيادته بمفهومها الشامل ينبغي أن تسمو المواقف وترتفع الهامات لإحباط ما يحاك حوله لصيانة حقوق الأجيال من منطلق تحصين القرار الوطني، والانطلاق من منصة واحدة تحكمها قواعد شراكة إنتاجية حقيقية لا مجال فيها لأي خطأ أو ارتجال لتحقيق الطاقة التي تحتاج إليها قاطرة النمو.