قضية العدل ليست اختيارية أو من فضائل الأعمال، إنما هي أمر إلزامي لا تقوم الشريعة إلا به، ولا يستقيم لمؤمن أن يحكم بغيره. كانت العلاقة بينه صلى اللّه عليه وسلم وبين المخالفين أعلى بكثير من كونها قانونا بشريا يصطلح الناس على إقراره أو إلغائه، ولكن قانونا إلهيا سماويا، يتعبد بتطبيقه فالعجب أن يكتب من استباحوا مدن العراق وفلسطين وأذاقوا أهلها الويلات بأن الإسلام فرض بالسيف والسهم وبالعنف والإكراه. فن التعامل النبوي مع غير المسلمين، عنوان يلخص الرؤية النبوية والإسلامية لغير المسلمين، فهي رؤية لا تفرق بين جنس ولون ودين، إنها ترى الإنسان أكرم المخلوقات على الأرض. فتتعامل معه بناء على هذا التصور الجمالي الراقي، الذي يضع الإنسان في مكانه اللائق. تعامل الرسول (ص) مع المغايرين في الدين والاعتقاد ترجم إلى واقع حي متفاعلي على الأرض ومدار هذا الكتاب حول سيرة النبي صلى اللّه عليه وسلم في تعامله مع المغايرين في الدين والاعتقاد، وقد ترجمت هذه الرؤية النظرية واقعا حيا متفاعلا على الأرض، سلوكا وتشريعا للمخالفين وبرا وعدلا مع المعادين، فتطابقت النظرية والتطبيق في اكتمال تمام لم يتحقق في دنيا البشر إلى الآن، رغم ازدحام الفضاء الكوني بأكداس النظريات والمواثيق الدولية التي لا تجد في دنيا البشر نصيبا...! ولعل من الأهمية بمكان أن نلم بشمولية النظرة الإسلامية للنفس الإنسانية بصفة عامة لتفتح لنا نافذة نطل منها على كيفية تناول المنهج الإسلامي لقضية غير المسلمين والتعامل معهم. يقول اللّه تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}. هذا التكريم عامر وشامل، يلقي بظلاله على المسلمين وغير المسلمين، فالجميع يحمل في البر والبحر ويرزق من الطيبات، فلا تجوز إهانته ولا ظلمه ولا التعدي على حقوقه ولا التقليل من شأنه، وهذا واضح بيّن في آيات القرآن، وكذلك في سيرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومن هذا المنطلق، ومن واقع تقدير الشرع الإسلامي لكل نفس، وتكريم اللّه تعالى لكل بني آدم، جاءت هذه الأوامر لتشمل المسلمين وغير المسلمين، ولم تكن كأسفار التوراة المحرفة والغارقة في العنصرية البغيضة، والتي تقصر الخير والمعاملات الحسنة على اليهود وحدهم، والموبقات والإثم للأميين، فهل بعد ذلك مساحة من القول لمتقول..؟ «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية فيه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”. وفي المحطة الثانية للكتاب “الاعتراف بغير المسلمين”، يشير راغب السرجاني إلى أن الدعايات الغربية كثيرا ما ركزت على أن المسلمين لا يعترفون بالمخالفين لهم في العقيدة، ولا يقرون بوجود اليهود والنصارى كطوائف لهم كينونة تكفل لهم البقاء إلى جانب المسلمين...فهل لهذه الدعاوى سند من الحقيقة...؟ وباستقراء صفحات السنة المطهرة، نجد أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعتبر نفسه والأنبياء الذين سبقوه كحلقات في سلسلة واحدة، أو كلبنات في بناء واحد، ومن ثم فلا مجال للتنازع أو الصراع أو التنافس. يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية فيه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين”، بل وأمر صلى اللّه عليه وسلم بأن لا نفاضل بين الأنبياء، فقال: “لا تخيّروا بين الأنبياء”، وخصّ نفسه بعدم التفضل، فقال في روايته: “لا تخيّروني من بين الأنبياء”. وعلى الجانب الآخر، هل اعترف الآخرون بالرسول صلى اللّه عليه وسلم وبالمسلمين؟ لقد ناصب اليهود المسلمين العداء منذ اللحظة الأولى لدخول الرسول صلى اللّه عليه وسلم المدينة، وحاولوا أن يوقعوا البغضاء والحرب بين الأنصار، وانطلقت ألسنتهم بالتكذيب بنبوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وإزاء هذه الحرب المستعرة التي لا تفتر حدتها، تمسك النبي صلى اللّه عليه وسلم بعهده معهم، ولم ينكر وجودهم، لأنه محكوم وملزم بالعقيدة والدين الإسلامي الذي يعترف بالآخر رغم إنكاره وجحوده، ولقد تجاوز الرسول صلى اللّه عليه وسلم هذا الموقف بخطوات، وهو احترامه لهم تقديرا لمكانتهم. عدم مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وهذه المحطة الثالثة للكتاب: “احترام الرسول صلى اللّه عليه وسلم لغير المسلمين”، مسترشدا بآيات القرآن التي تحض على جمال الحوار فيقول تعالى: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (العنكبوت الآية 46). ويطلب اللّه منا أن نبحث عن الأسلوب الأحسن والأجمل في الحوار، بل يبعث في نفوس المتحاورين همة التعاون والتآلف، فما دام إلهنا وإلهكم واحد، وقد أنزل إلينا وإليكم كتبا كريمة نؤمن بها جميعا، فلماذا الشقاق والخلاف...؟ وعلى هذا الدرب المنير، سار الرسول صلى اللّه عليه وسلم في حواره مع عتبة بن ربيعة سيد قريش، ودعوته إلى خالد بن الوليد وامتداحه لعقله وذكائه وإمكاناته القتالية رغم شركه! ويظهر هذا جليا في رسائله إلى ملوك الأرض وزعمائها، فقد عاملهم فيها معاملة مساوية في الاحترام والتقدير بغض النظر عن مللهم ونحلهم، في قول صلى اللّه عليه وسلم في رسالته إلى قيصر الروم: “من محمد رسول اللّه إلى هرقل عظيم الروم...”، وغيرها، فهل استطاعت البشرية بلوغ هذا المرتقى في احترام المخالفين فكريا ودينيا، في القديم والحديث.؟ العدل مع غير المسلمين مكرس في الشريعة وإلى المحطة الرابعة “العدل مع غير المسلمين”، وفيها تتبّع المؤلف آثار العدل في الشريعة الإسلامية، فقد قال تعالى: {إنّ اللّه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكّرون} (النحل الآية 90)، وهذا أمر رباني لرسولنا صلى اللّه عليه وسلم ولأمته من بعده. والملاحظ أن قضية العدل ليست اختيارية أو من فضائل الأعمال، إنما هي أمر إلزامي لا تقوم الشريعة إلاّ به، ولا يستقيم لمؤمن أن يحكم بغيره، وجاءت حياة الرسول صلى اللّه عليه وسلم تطبيقا واقعيا لهذا المثال العادل. وهنا نقف على جانب من عدله صلى اللّه عليه وسلم مع غير المسلمين، فعندما سرق رجل من المسلمين درعا من جار له مسلم، وكانت الدرع في جراب به دقيق، فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود. وكانت الدلائل والقرائن ضد اليهودي، وكاد أن يحكم الرسول ضده، فأنزل اللّه الآيات من سورة النساء (105 112) تبرئ اليهودي، فحكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن اليهودي بريء وأن السارق مسلم...! وهذا لم يكن تكلفا من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجمّلا منه، إنما كان التطبيق الطبيعي لقواعد الدين في العدل. ومن صور عدله صلى اللّه عليه وسلم أيضا في تعامله مع غير المسلمين، أنه لم يكن يقيم حكما على أحدهم إلا ببينة، مهما كان المدعي قريبا منه صلى اللّه عليه وسلم، مثال حادثة الأشعث بن قيس واليهودي. وسيرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم مليئة بهذه الصور الباهرة من العدل، وهل يجوز لمقالات السوء أن تطلق دعاواها ومفترياتها بغير حساب...؟ المسلمون يتقربون إلى الله ببرهم للمخالفين طالما لم يحاربوهم أو يظلموهم أما “البر بغير المسلمين” فهو المحطة الخامسة للكتاب، ويقول اللّه تعالى {لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن اللّه يحب المقسطين}، فاللّه يوصي المؤمنين أن يبروا طائفة من البشر رفضت دعوة اللّه، وخالفت نبيه صلى اللّه عليه وسلم واتبعت منهجا مخالفا لما أراده سبحانه...! والمسلمون يتقربون إلى ربهم ببر هؤلاء المخالفين ما داموا لم يحاربوهم ولم يظلموهم...! وعلى هذا الهدي، كانت العلاقة بينه صلى اللّه عليه وسلم وبين المخالفين أعلى بكثير من كونها قانونا بشريا يصطلح الناس على إقراره أو إلغائه، ولكن قانونا إلهيا سماويا، يتعبد بتطبيقه! ونقف عند المثال النادر في تاريخ البشرية جمعاء، عند فتح مكة، وقبيلته التي آذته ووقفت حائطا وسدا أمام دعوته وانتشارها في الجزيرة العربية، فما المنتظر أن يفعل عند دخولها فاتحا منتصرا...؟ طأطأ كبار مكة رؤوسهم ذلة وصغارا ينتظرون حكما رادعا، يتساءل الرسول صلى اللّه عليه وسلم في رقة وتلطف وتواضع، يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم...؟ قالوا خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، ولقد قال أحد أصحابه، وهو سعد بن عبادة رضي اللّه عنه وهو يخاطب أبا سفيان زعيم مكة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة. فبلغت كلمة سعد النبيَ صلى اللّه عليه وسلم فقال “كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم اللّه فيه الكعبة، ويوم نكسو فيه الكعبة”، وفي رواية أخرى أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: “اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز فيه قريشا”. فالعجب أن يكتب من استباحوا مدن العراق وفلسطين وأذاقوا أهلها الويلات بأن الإسلام فُرض بالسيف والسهم وبالعنف والإكراه!. التسامح النبوي غير المتناهي ظهر جليا في فتح مكة وخاتمة الكتاب، ومحطة الوصول مع “برّه صلى اللّه عليه وسلم مع زعماء الأعداء”، الذين قاوموه وحاربوه سنوات طويلة وجيّشوا الجيوش، وحزبوا الأحزاب لاستئصال شأفة المسلمين، ولم يكتفوا بالسخرية منه والكيد له، بل دبّروا المحاولات لقتله هو شخصيا، فماذا كان رد فعله صلى اللّه عليه وسلم...؟ لم يترك ذلك في قلبه حقدا ولا غلا ولم يغير من أخلاقه المعهودة، هذا ما نراه في تعامله مع زعماء مكة وأشهرهم بالطبع بره مع أبي سفيان قائد معسكر الشرك طوال واحد وعشرين عاما، في مكة ومعارك بدر وأحد والخندق، عفا عنهم، وأطلق صيحة الأمان “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن”، وكذلك موقفه من عكرمة بن أبي جهل الذي ورث عداوة المسلمين من أبيه أبي جهل، ولكنه زاد في اللدد والخصومة التي جعلت الرسول صلى اللّه عليه وسلم يهدر دمه عند فتح مكة. وعندما جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زوجه لتؤمنه، قال لأصحابه “يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبّوا أباه، فإن سبّ الميت يؤذي الحي، ولا يبلغ الميت”. ولم يكن التسامح النبوي غير المتناهي خاصا بزعماء قريش وحدهم، وإنما تجاوزهم إلى الكثيرين من قادة القبائل المختلفة أمثال مالك بن عوف النهري الذي جيش الجيوش من قبائل هوازن وأعوانها من ثقيف وغيرها، وعند انكسار جيشه وفراره، سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عنه، وقال لقومه “أخبروا مالكا إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل”. والأمثلة كثيرة، والصفحات تضيق عن عرض تلك الأمثلة، والذي يدقق النظر في سيرة النبي صلى اللّه عليه وسلم يرى نفسه منساقا إلى الإقرار بأن ما حققه وقام به يكاد يكون من دنيا غير التي يعرفها البشر ويألفونها. وفي الخاتمة يهيب المؤلف بالبشرية جمعاء قائلا: اعرفوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإنّه من الظلم الكبير لكم ولشعوبكم ألاّ تعرفوه.!