«نظام التفاهة» (Mediocratie) هو كتاب صدر لأستاذ الفلسفة والعلوم السياسية الكندي ألان دونو، وسنعرض أولا للفكرة الأساسية للكتاب، استنادا إلى التلخيص الشامل والوافي لها، والذي قدمه الأستاذ /جان عزيز، ثم نقدم قراءه منهجيه لهذه الفكرة. سيطرة التافهين على العالم : يؤكد ألان دونو أن التافهين قد حسموا المعركة، من دون اجتياح الباستيل (إشارة إلى الثورة الفرنسية)، ولا حريق الرايخشتاغ « البرلمان الألماني « (إشارة إلى صعود هتلر في ألمانيا)،ولا رصاصة واحدة من معركة «الفجر» (إشارة إلى المعركة الأسطورية بين بونتا و براكمار)،، ربح التافهون الحرب، وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه. حلول القابلية للتعليب محل التفكير العميق: يعطي ألان دونو نصيحة فجّة لناس هذا العصر- من باب السخرية- (لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً. فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة. فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة – أى مرونة وقابليه للتشكل- وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة). أسباب سيطرة التافهين على العالم: وحين يسأل عن أسباب هذا التحول، يعيد ذلك إلى عاملين اثنين، في السوسيولوجي والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي. السبب الأول: تغير مفهوم العمل (تنميط العمل تشييئه): السبب الأول يعزوه دونو إلى تغير مفهوم العمل في المجتمعات. يقول إن «المهنة» صارت «وظيفة». صار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير. يمكن أن تعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك. يمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه. أو تبيع كتباً ومجلات وأنت لا تقرأ منها سطراً. انحدر مفهوم العمل إلى «المتوسط». وصار أشخاصه «متوسطين»، بالمعنى السلبي للكلمة. صار العمل مجرد أنماط. شيء ما من رؤيوية شابلن في «الأزمنة الحديثة» أو فريتز لانغ في رائعة « مترو بوليس ». السبب الثاني: السياسة (حكم التكنوقراط واستبدال الإرادة الشعبية بالمقبولية الاجتماعية): السبب الثاني مرتبط وفق دونو بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام. هنا بدأت سيطرة التافهين يقول، أو ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر. يقول إنه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم. استبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك». في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا. وصارت الدولة مجرد شركة خاصة. صارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد. وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة «زمرته». قاعدة النجاح أن «تلعب اللعبة»: يقول ألان دونو إنه في نظام التافهين تحول النجاح «أن تعلب لعبة: من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم. وصارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة». حتى المفردة معبرة جداً وذات دلالة. لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية. هي مجرد «لعبة». حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم التفاهة: «أن تلعب اللعبة». وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها. لكن يعرفها الجميع: انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغذاءات والانتقامات. بعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بنيوي قاطع. حتى أنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلاً ولأية أهداف… الخبير أفضل تجسيد لنظام التفاهة: يقول دونو إن الخبير أفضل تجسيد لنظام التفاهة، صورة «الخبير» هو ممثل «السلطة»، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل «المثقف»، الذي يحمل الالتزام تجاه قيم ومثل. جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة إن «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات». لا مكان للعقل النقدي ولا لحسه. أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، من أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين. صار كل شيء، والأهم أن الإنسان صار لاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات «السوق». نظام فاشل بيئيا وظالم اجتماعيا: هكذا يرى دونو أنه تم تشكيل نظام حكم التافهين. نظام يضع ثمانين في المائة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم. ويسمح لخمسين في المائة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المائة من أثريائه. كل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان. كيفيه مواجهة نظام التافهين: ا/ لا وصفة سحرية (استغلال الحرب على الإرهاب): وفى الإجابة على السؤال: كيف يمكن مواجهة نظام التافهين؟ يقول دونو: ما من وصفة سحرية. الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين. جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية. بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها. إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة. ب/ مقاومة التجربة والإغراء وإعادة معاني الكلمات إلى المفاهيم والتلازم بين الفكر والعمل: المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا. بل المفاهيم الكبرى. أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام… وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل. فلا فصل بينهما. الأساس أن نقاوم. قراءة منهجية: نظام التافهين هو مرحلة من مراحل تطور النظام الاقتصادي الرأسمالي: من العرض السابق يتضح لنا أن نظام التافهين وسيطرة التافهين على العالم هو مرحلة من مراحل تطور النظام الاقتصادي الرأسمالي كانت بدايتها عهد مارغريت تاتشر – رئيسه وزراء بريطانيا عن حزب المحافظين– وتميزت هذه المرحلة من مراحل النظام الرأسمالي بحكم التكنوقراط واستبدال الإرادة الشعبية بالمقبولية الاجتماعية وتنميط العمل تشييئه. ومن هذا التحليل يتضح لنا أن نظام التافهين ولد في الدول الغربية الرأسمالية، ولكن يمكن أن نستخلص منه أنه يشمل أيضا الدول النامية ودول العلم الثالث، التي تطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي تحت شعارات : الانفتاح الاقتصادي، الإصلاح الاقتصادي، الخصخصة، التحرير الاقتصادي، الليبرالية الجديدة .. فهو نظام عالمي يشمل الدول المتقدمة والنامية على حد سواء . . موقف الرأسمالية السلبي من الضوابط الأخلاقية للسوق سبب رئيسي لنظام التافهين: وفيما يتعلق بأسباب ارتباط نظام التافهين بالنظام الرأسمالي نرى أن السبب الأساسي هو موقف النظام الاقتصادي الرأسمالي السلبي من الضوابط الأخلاقية والقانونية للسوق، فالرأسمالية قائمه كنظام اقتصادي ليبرالي استنادا إلى فكره القانون الطبيعي- على أن مصلحة المجتمع ككل ستتحقق حتما، من خلال محاولة كل فرد تحقيق مصالحه الخاصة، أي دون تدخل الدولة كممثل للمجتمع، وطبقا لهذا فإن الموقف الليبرالي – الرأسمالي من ضوابط السوق قائم – على المستوى النظري- على عدم فرض أي ضوابط أخلاقيه أو قانونية على السوق، اتكالا على أن ثمة قانون طبيعي ينظم تلك السوق، ويحملها على وجه يجعلها تؤدي وظيفتها تلقائيا، فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يجعل الغاية من النشاط الاقتصادي هي الربح ومزيد من الربح، ولا يهتم كثيرا بأخلاقية أو عدم أخلاقية الوسائل، ومن هنا يتيح هذا النظام الاقتصادي لمن لا يلتزمون بالقيم الأخلاقية في النشاط الاقتصادي، إمكانيه التقدم، أكثر من غيرهم ممن يحاولون الالتزام بالقيم الأخلاقية في النشاط الاقتصادي، وفي ظل هذا النظام الاقتصادي تصبح الأنانية والطمع والخداع «النصب والاحتيال» قيما إيجابيه . هذا فضلا عن أن هذا النظام الاقتصادي يتيح لقلة من الرأسماليين السيطرة على الاقتصاد، ومن ثم السيطرة على الإعلام وتزييف الإرادة الشعبية. غير أنه على المستوى التطبيقي أثبت واقع المجتمعات الرأسمالية الغربية ذاته خطأ هذا الموقف الرأسمالي السلبي من الضوابط القانونية والأخلاقية للسوق، إذ قبل أن ينتهي القرن التاسع عشر حتى كانت ضرورة وضع ضوابط أخلاقية وقانونية في كل المجتمعات الغربية، وإن اختلفت في حدود هذه الضوابط ومداها، ذلك أن المنافسة الحرة في النظام الاقتصادي الرأسمالي في المجتمعات الغربية قضت على حرية المنافسة لتنتهي إلى الاحتكار أي أن التجربة أثبتت أن ترك كل فرد يفعل ما يشاء سينتهي إلى أن لا يستطيع الأغلبية فعل ما يريدون. ارتباط نظام التافهين بالاستبداد: وتحليل ألان دونو على موضوعيته لم يشر إلى ارتباط «نظام التافهين» بالاستبداد والنظم الاستبدادية، فالاستبداد هو انفراد الحاكم بالسلطة دون الشعب، من خلال عدة أساليب- غير أخلاقية- أهمها تزييف الإرادة الشعبية، لذا تلازمه ظاهرة النفاق، الذي يمكن تعريفه- منهجيا- بأنه : تزييف الواقع الاجتماعي ومشكلاته : بالكذب في الإخبار عن المعرفة بهذه المشاكل، وتزوير الحلول الممكنة لهذه المشاكل، بالكذب في الأخبار عن الآراء التي تتضمن حلول هذه المشاكل، وإرباك العمل الاجتماعي، بالكذب في الأخبار عن المقدرة على العمل.، ففي ظل الاستبداد يتقدم المنافقون، ويدعم هذا التقدم أن الأنظمة الاستبدادية تستند إلى قاعدة الولاء وليس الكفاءة، والنفاق صفة مميزة لنظام التافهين... حتمية انهيار» نظام التافهين»: أولا:حتمية مجيء الحق وزهوق الباطل: حيث وردت الإشارة إلي حتمية انهياره في معرض الإشارة إلى حتمية مجيء الحق وزهوق الباطل، وكون الزبد يذهب جفاء، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. ثانيا: حتمية زوال الاستبداد: كما وردت الإشارة إلى حتمية انهيار»نظام التافهين»، في معرض الإشارة إلى حتمية زوال الاستبداد – الذي يرتبط ب«نظام التافهين بتعبير ألان دونو» في قوله تعالى ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ). ثالثا: حتمية انهيار النظام الرأسمالي كشكل من أشكال إمارة المترفين: كما وردت الإشارة إلى حتمية انهيار»نظام التافهين»، في معرض الإشارة إلى حتمية انهيار النظام الرأسمالي كشكل من أشكال إمارة المترفين- حيث أن تحليل ألان دونو ينتهي إلى أن «نظام التافهين» هو مرحله من مراحل هذا النظام الرأسمالي.. النظام الاقتصادي الرأسمالي، والذي قانونه الأساسي المنافسة الحرة على الموارد، والبقاء للأقوى، والذي يستند إلى فلسفه طبيعية، ومنهج قائم على القانون الطبيعي الذي مضمونه « أن مصلحة المجتمع ككل تتحقق حتما من خلال سعى كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة «، وهو جزء من نظام متكامل علماني في موقفه من الدين، ديموقراطى ليبرالي في موقفه من الدولة، فردي في موقفه من الأخلاق …« لأن هذا النظام يستند إلى فلسفه تسند ملكية المال « وكذا الحاكمية والتشريع « للإنسان - الفرد. والأزمات المالية العالمية المتعاقبة، هي مؤشرات على انهيار النظام الاقتصادي الرأسمالي، على المستويين النظري والعملي.