مورد بشري مؤهّل للاستجابة للتحديات الظّرفية العصيبة خلّف تفشي فيروس كورونا في الجزائر أضرارا جسيمة على مختلف مناحي الحياة، حيث تعطّلت ورشات الإصلاح السياسي، ولامست عديد المؤسّسات حافة الإفلاس، وفقدت الخزينة موارد مالية معتبرة. بينما أبانت الجائحة بالمقابل، عن الطاقات الوطنية الهائلة التي صنعت الفارق في ظرف قياسي. في 25 فيفري الماضي، أعلن وزير الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات، عبر نشرة الثامنة للتلفزيون الجزائري، تسجيل أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد، لرعية إيطالي قدم إلى البلاد في ال 17 من نفس الشهر. كان الإعلان، بمثابة إنذار صارم يلزم التحضير الجاد لمواجهة وباء قاتل، لا يفرّق بين الفئات العمرية للسكان. كما خلق حالة استنفار قصوى خاصة وأنه جاء بعد 10 أيام من مصادقة البرلمان بغرفتيه على مخطّط عمل الحكومة، أي أنّه برز كقوّة قاهرة أمام قطار التغيير في الجزائر التي اجتازت امتحان إعادة الشرعية الدستورية لأعلى هرم السلطة، بعد سنة مليئة بالاضطرابات. بداية انتشار الوباء، الذي تسلّل إلى الجزائر عبر المطارات، أجّل أولويات الحكومة، ودفع إلى تجنيد كل الطاقة الوطنية لمجابهته، والتعامل مع انعكاساته الوخيمة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وفي منتصف مارس، أعلن رئيس الجمهورية عن جملة من الإجراءات الإستباقية، كإغلاق حدود البلاد، تعليق الدراسة والأنشطة الرياضة وصلاة الجماعة بالمساجد، تحديد مواقيت صارمة للحجر الصحي وفرض الحجر الشامل على ولاية البليدة. وواجهت الدولة 3 تحديات كبرى، هي حماية الصحة العمومية من خلال كسر سلسلة انتشار الفيروس، توفير أجهزة ووسائل الكشف عن الإصابات والعتاد الطبي الوقائي، وضمان السير الحسن للحركة التجارية الضرورية والتموين بالمواد الغذائية. وبالنسبة للتحدي الأول، استندت على القرار العلمي المحض، الصادر عن اللجنة العلمية المكلفة بمتابعة تطور الوضع الوبائي، بينما تطلّب التحدي الثاني أموالا وتعبئة دبلوماسية وتنسيقا عالي المستوى بين مؤسسات الدولة، في ظل شح الموارد الطبية في العالم أجمع، بحيث عجزت بلدان كبرى بحجم الصينوالولاياتالمتحدة، في توفير العدد اللازم من الأقنعة الواقية (الكمامات)، مع بداية الوباء، ودفع ببعض البلدان إلى اللجوء للقرصنة الجوية، بمصادرة شحنات عتاد طبي كانت متجهة نحو دول أخرى. وبفضل الجسر الجوي المباشر، الجزائر-بكين، استطاعت طائرات القوات الجوية الجزائرية، تأمين استلام ونقل كميات معتبرة من الأدوية وأجهزة الكشف عن الوباء والعتاد الوقائي للأطقم الطبية بالدرجة الأولى. خسائر اقتصادية مع حالة الإحباط التي سادت العالم، بعد استمرار نشاط الفيروس مع الارتفاع التدريجي لدرجات بداية أفريل، استشعرت الجزائر، على غرار كافة الدول، تحول الصعوبة الظرفية إلى أزمة متعددة الأبعاد، وقد أكّد رئيس الجمهورية، في إحدى حواراته التلفزيونية، أنّه «طول المدة الزمنية للوباء، سيفتح الباب أمام أزمة اقتصادية معقّدة». وكان احتياطي الصرف الجزائري، مع بداية الوباء في حدود 59 مليار دولار، وأكّد الرئيس تبون استعداده لاتخاذ قرار بمليار دولار، لمجابهة فيروس كورونا المميت، ولكنه تبنّى مقاربة المتابعة التدريجية والمرونة في اتخاذ القرارات بناءً على استشارات اللجنة العلمية. ومع توقف العديد من الأنشطة التجارية، وانهيار أسعار المحروقات في الأسواق الدولية، ووصل لأول مرة في تاريخ الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى سالب (-) 37 دولارا للبرميل، بينما انخفض سعر النفط الجزائري إلى حدود 14 و16 دولارا للبرميل، مما دفع بكثيرين إلى استحضار أزمة 1986. هذه الوضعية وإلى جانب تعليق عشرات الأنشطة التجارية، وتخفيض عدد المستخدمين في المؤسسات بنسبة 50 بالمائة، كانت لها نتائج سلبية فورية على الحياة الاقتصادية وبالأخص أصحاب المهن الحرة ذات الدخل الضعيف والمحدود. وفي أول اجتماع لتقييم آثار الوباء بين الحكومة والمركزية النقابية وأرباب العمل، منتصف جويلية، أعلن وزير المالية أيمن بن عبد الرحمان، عن خسائر بقيمة 879 مليون دولار للشركات العمومية في ظرف 4 أشهر. وأعلن رئيس الكونفدرالية الجزائرية لأرباب العمل المواطنين، سامي عاقلي، شهر أوت، في حوار ل «الشعب»، أن «القطاع الخاص تضرّر كثيرا هو الآخر، وهناك مؤسسات عديدة توقفت كليا». وكشف وزير النقل، لزهاري هاني، الاثنين الماضي، للإذاعة الوطنية، أنّ قطاع النقل الجوي والبحري، تكبّد لوحده خسائر ب 47 مليار دينار أي ما يعادل 370 مليون دولار، حيث «خسرت الخطوط الجوية الجزائرية لوحدها 40 مليار دج، بينما بلغت خسائر شركة النقل البحري للمسافرين 7 مليار دينار». وكانت منظمة أرباب العمل، قد اقترحت إدراج قطاع السياحة والصناعة التقليدية، ضمن «الأنشطة المنكوبة»، بعدما عرفت توقفا تاما في الأشهر الثلاثة الأولى لبداية الوباء. وتكبّد عملاق الصناعة البترولية، في الجزائر وإفريقيا، مجمع سونطراك، خسائر ب 10 مليار دولار إلى غاية نهاية سبتمبر الماضي. انعكاسات خلّف توقف الحركة الاقتصادية انعكاسات جد سلبية على المستوى المعيشي لعشرات الآلاف من المواطنين، من أصحاب المهن الحرة والحرفيين ومحدودي الدخل، الذين اضطر كثير منهم إلى البحث عن مهن بديلة في فترة تعليق الأنشطة، رغم منحة 10 آلاف دينار التي أقرها رئيس الجمهورية، كتعويض عن الأضرار الناجمة عن تدابير كبح تفشي الوباء. ويشتكي الناقلون الخواص لما بين الولايات هذه الأيام من استمرار تعليق نشاطهم منذ بداية تفشي الوباء، ويتحدثون عن خسائر فادحة لحقت بهم وبذويهم، وطالبوا الوزارة الوصية بإيجاد حلول عاجلة لوضعيتهم. تأخّر وتأجيل إلى جانب الخسائر المرتبطة بتحويل مخصّصات مالية كان يمكن الاستفادة منها في الاستثمار العمومي، إلى مواجهة الجائحة وتداعياتها، عرفت الحياة السياسية تذبذبا لافتا، إذ تأخرت الورشات السياسية لرئيس الجمهورية عن موعدها المحدد. وكان مقرّرا في البداية إجراء الاستفتاء الشعبي على مشروع تعديل الدستور، مطلع ماي الماضي، وأن تجرى الانتخابات المحلية والتشريعية في سبتمبر، ثم حدّد لها موعد آخر نهاية السنة، لكن استمرار تفشي الوباء حال دون ذلك. مخطط الإنعاش الاقتصادي، هو الآخر، كان يفترض الشروع في وضعه أسسه الأولى نهاية شهر أكتوبر الماضي، لكنه تأجل إلى السنة المقبلة، بعد تسجل موجة ثانية أكثر شراسة للفيروس، بحسب ما صرح به الوزير المنتدب المكلف بالاستشراف لدى الوزير الأول، محمد الشريف بلميهوب. كل هذه العوامل المرتبطة بالوباء وأخرى، أجّلت تجسيد الإرادة السياسية في التغيير على الأرض الواقع، وعلى سبيل المثال، لم ينجح ولاة الجمهورية في تنفيذ تعليمات وتوجيهات رئيس الجمهورية الخاصة بمناطق الظل في الفترة بين فيفري وأوت سوى بنسبة 30 بالمائة، مثلما أكّده الوزير الأول عبد العزيز جراد، ومن الواضح أن تسيير الأزمة المرتبطة بالوباء أربكت القرار المحلي. لذلك ينبغي انتظار سنة 2021، للشروع في تجسيد مرحلة ما بعد تعديل الدستور، وإقرار الإصلاحات الهيكلية والعميقة للاقتصاد الوطني. الوجه الآخر للأزمة في المقابل، وعلى الرغم من التداعيات الخطيرة لوباء كورونا، على مختلف المجالات، إلا أنّه كشف وجها آخر للجزائر طالما طمس لسنوات وعقود، وجود مورد بشري مؤهل للاستجابة للتحديات الظرفية العصيبة. ومثلما قال عضو اللجنة العلمية ورئيس الخلية العملياتية للتحري ومتابعة التحقيقات الوبائية، البروفيسور محمد بلحسين، فإنّ «أول درس وجب تعلّمه من فيروس كورونا، هو الاعتماد على الذات». وفي السياق، انفجر البحث العلمي الموجه للتعاطي مع الأزمة الوبائية على مستوى الجامعات، ونجح باحثون بمختلف المخابر في تصميم نماذج متطورة لأجهزة التنفس الاصطناعي وصناعة السوائل المعقّمة، وأنفاق التعقيم. وفتحت جامعات على غرار مولود معمري بتيزي وزو وفرحات عباس بجيجل، مخابر لإجراء الكشف عن فيروس كورونا بتقنية «بي - سي - آر». وسجّل الجزائريون وقفة تاريخية في العمل التضامني والتطوعي، حيث نظّمت قوافل وطنية نحو ولاية البليدة التي خضعت للحشر الشامل لمدة 10 أيام، وتفرّغت جمعيات وورشات خياطة ومراكز التكوين المهني لإنتاج الأقنعة الواقية، ونجحت في توفير الاكتفاء الذاتي الوطني صناعة الملايين يوميا ممّا أدّى إلى انخفاض أسعارها. ولعل أكبر رهان كسبته الجزائر، هذه السنة، هو وفرة المواد الغذائية واستقرار أسعارها، وبالأخص الخضر والفواكه، بفضل الإنتاج الوطني المعتبر الذي قدّر ب 25 مليار دولار، متجاوزا لأول مرة في التاريخ مداخيل المحروقات التي قدّرت ب 24 مليار دولار.