لا يختلف اثنان على أن تجسيد التاريخ من خلال الصور يمنحه الحيوية والحُضُور؛ وذلك على مساحة أرحب من الحكايات الشفهية والروايات المكتوبة؛ نظراً لعدم إقبال الإنسان المعاصر على القراءة، واعتماده على المشاهدة؛ فالسينما تجعلك تعيش الحدث؛ لذلك فلها جملة من الأدوار العظيمة التي تنهض بها في الحفاظ على الذاكرة الوطنية، وتعزيز الهُوية؛ التي تنصرف في دلالاتها إلى حقيقة الشيء، وصفاته، التي يتميز بها عن غيره، وتتجلى بها شخصيته، فهي(الهويّة) تقوم على السمات التي تتميز بها كل أمة عن غيرها من الأمم، وتتوجّه في أبعادها نحو وعي الذات، وإدراك المصير التاريخي الواحد، والعلامات المشتركة، التي تطبع جماعة معينة من الناس، وتعتز بها، فهي مجموع المفاهيم العقائدية، والتراثية، التي تُشكل رابطة روحية، وضميرية بين الأفراد، وتقتضي اعتزاز الفرد برموز أمته، وإجلالها، واحترامها، والولاء لها، وينبغي التذكير في هذا المقام بأن انطلاقة السينما الجزائرية، وتوظيفها من قبل جيش التحرير الوطني جاء بغرض تعزيز الهُوية وإبراز جرائم الاستدمار الفرنسي، وكفاح الشعب الجزائري؛ حيث تأسست أول مدرسة للتكوين السينمائي بجبال الأوراس في سنة:1957م، تحت إشراف المخرج الفرنسي (رينيه فوتييه)؛ الذي انضم إلى جبهة التحرير الوطني إيماناً منه بعدالة القضية الجزائرية،ورغبة منه في إبراز بشاعة الاستدمار الفرنسي ،فأخرج خلال تلك المرحلة فيلمه المعروف : «الجزائر تحترق»، عام: 1959م، وقد تمّ إنتاج مجموعة من الأعمال الوثائقية أثناء الثورة الجزائرية العظيمة، نذكر من بينها: (اللاجؤون) عام: 1956م من إخراج (سييل كوجي)، و(هجومات منجم الونزة)، سنة:1957م، و(ساقية سيدي يوسف)، عام: 1958م، من إخراج (بيا كلمو)، و(جزائرنا) إخراج جمال سندرلي ولخضر حمينة، وغيرها؛ لذلك فالسينما التي كان يريدها أبناء الجزائر، والتي حققت نجاحاً كبيراً حتى بعد سنوات الاستقلال هي السينما المُقاومة التي تبرز جرائم الاستدمار الفرنسي، ويُمكن أن نعرّفها بأنها السينما التي تخلق من رحم المعاناة والآلام والأحزان، وتُولد في ظل الصراع والثورة، من أجل تأدية دورها في الكفاح، وهي السينما المُعبرة عن النضال والمواجهة بين قوتين، وهذا الصراع ليس صراعاً بين قوتين متكافئتين، وإنما هو صراع غير متوازن، ودور السينما يتجلى في إبراز الجرائم التي ترتكبها القوة المهيمنة التي يُمثلها المعتدي التي يُنكل بأبناء الشعب الجزائري العُزل، وأخرى مظلومة ومقهورة يجسدها المعتدى عليه، والمُكافح الذي هو الشعب الجزائري، الذي يُدافع ويناضل، وهو يتعرض إلى أبشع الجرائم، وإلى ويلات الحرمان والتشرد. إن توظيف التاريخ في السينما يسمح بتأدية العديد من الأدوار العظيمة؛ من حيث التعبير عن آلام الأمة الجزائرية وآمالها، ومسايرة مسيرة الشعب الجزائري المقاوم والمكافح، ومواكبة ما كان يعيشه من بؤس وعذاب وشقاء، وأعتقد أن من أبرز الشخصيات الجزائرية التي تحتاج إلى تجسيدها في السينما شخصية الأمير عبد القادر؛ الذي يتبدى للدارس لشخصيته على أنه جملة من الشخصيات، فهو المجاهد المكافح المغوار، وهو الفارس الذي لا يُشقُ له غبار، وهو الفقيه العلاّمة الموسوعي، البحر الزاخر في شتى العلوم والفنون، وهو المتصوف الشاعر، والشاعر المتصوف، الذي عُرف بتغريده في سماوات الشعر، وتحليقه في آفاقه الرحبة، وطرقه لمختلف الأغراض الشعرية. وأعتقد أن على السينما الجزائرية أن تُركز بدقة على سياسة فرنسا الإجرامية؛ من خلال تسليط الضوء على حرب الإبادة المُمنهجة التي شنها الاستدمار الفرنسي على الشعب الجزائري، كما يجب التركيز على البطش الاستعماري وسياسة التمييز العنصري؛ التي وضعت الجزائريين تحت وطأة قوانين استثنائية وظالمة، وخانقة للحريات الأساسية، إضافة إلى ممارسات المستوطنين الاستعماريين وجرائمهم ضد أبناء الوطن الأصليين الذين يعانون الاضطهاد والقهر، كما يجب كشف سياسة الاستدمار الممنهجة التي كانت ترمي إلى محو مقومات الشخصية الجزائرية.. هناك إجماع على وجود تقصير في كتابة التاريخ، وتجسيده في أعمال سينمائية متميّزة، لكن تجدر الإشارة إلى أن هاجس التاريخ قد شغل ثلة من الأقلام الجزائرية، وشكّل لهم منبعاً ثراً، وشائكاً في الآن ذاته؛ فقد تمّ استحضار بعض الأحداث التاريخية المهمة، وتقديمها في ثوب جديد، وبصياغة حداثية مع المحافظة على المحتوى في العديد من الأعمال الإبداعية، ففي الجزائر هناك الكثير من الأعمال الأدبية التي تحتاج إلى أن تُحوّل إلى السينما؛ وينبغي استغلالها لكي يتفاعل معها الجمهور العريض؛ كونها ركزت على جرائم الاستدمار الفرنسي، فالقيّم الكُبرى تحتاج إلى أفلام سينمائية مُتقنة، وبإخراج متميّز، ومن بين الروايات التي استحضرت التاريخ على سبيل المثال، رواية: «جيلوسيد.. إنها ليست قضية عائلية على الإطلاق» لفارس كبيش، فالقضية التي يتحدث عنها بطل الرواية رشيد هي التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، وهي ذكرى مأساوية، ففرنسا احتفلت في:13 فيفري 2010م، على سبيل المثال، بمرور خمسين سنة على انضمامها إلى نادي القوى النوويّة العسكرية، أما الجزائر فهي تُحيي دائماً بمرارة في هذا التاريخ نفسه ذكرى التجارب النوويّة التي أقامتها فرنسا ذاتها في صحراء الجزائر، وهي ذكرى أليمة ومأساوية، نظراً لما تنطوي عليه من مأساة بقيت نتائجها المؤلمة مستمرة إلى يومنا هذا، سواء على المستوى الصحي، وعلى مستويات عدة، حيث أثرت التفجيرات تأثيراً فظيعاً على صحة السكان، وأضحت المناطق ملوثة على مستوى البيئة الصحراوية، وفرنسا نراها إلى يومنا هذا لا تكترث على الإطلاق لما قامت به من جرائم فظيعة، وهذه القضية طرحها الأديب عز الدين ميهوبي في روايته: «اعترافات أسكرام».