التقيناه، بمكتبه بمقر المجلس الإسلامي الأعلى بالعاصمة، وفي نهاية عقده الثمانين لا يزال أبو عبد الله غلام الله، واحدا من إطارات الدولة، الذي شغل مناصب عديدة، ولا يزال يقدّم ما عنده، وقد بدأ نجمه في السطوع عندما التحق بجريدة الشعب، وعمل كمسؤول عن الصفحة الثقافية، خلال سنوات الستينيات ثم مديرا لها لسنتين 1968 إلى 1970. استقبلنا أبو عبد الله غلام الله بمقر المجلس الإسلامي الأعلى، وهو يسترجع ذكرياته الجميلة، في عميدة الجرائد الجزائرية «الشعب»، كان محياّه وهو يتحدث إلينا يبدو وكانه انتقل فعلا إلى ذلك الزمن، وأخذ يسرد لنا تفاصيل أو لقاء جمعه مع «الشعب قائلا، «الفضل في التحاقي بجريدة الشعب يرجع إلى مدير الصحيفة في تلك الحقبة، وهو محمد سعيدي». ويضيف غلام الله، وهذا نظرا لعلاقة الصداقة التي كانت تجمعنا، في الفكر والمواطنة، حيث كنا فكر واحد متحرّر، شباب ننزع إلى التجديد، ووقتها كنت أستاذا بولاية تيارت، وما كان لي إلا أن ألبّي رغبته وطلبت الانتقال وعيّنت كأستاذ في اللغة العربية بإحدى الثانويات، ومن بعد انتقلت إلى ثانوية عائشة، حيث احتاجوا أستاذ فلسلة لتدريس المادة، وفي تلك الفترة التحقت بجريدة «الشعب» واشتغلت على الملف الثقافي الذي يملأ صفحاته، كتّاب متمرسون، أمثال محمد غلام الله، احمد بن فريحة، سعيدي محمد وانأ المتحدث، في تلك الفترة كنت أرى انه لابد وأن يتناول الملف الثقافي موضوعات كثيرة، وغير معتادة، حيث تمّ استحداث صفحة للمراة لأول مرة في القسم الثقافي». رحلة نحو الشمال.. ورحلة التحرّر ويروي غلام الله، تفاصيل تلك الذكريات الجميلة، ويقول «كنت مرتبطا بالوضع العام في البلاد، حيث كنا في ذلك الوقت نعمل بعدد قليل، حيث غامرت في ذلك الوقت، لما كنت اشرف على الصفحة الثقافية، ونشرت رواية رحلة نحو الشمال للروائي السوداني الطيب صالح، المتحررة جدا، والتي نشرت على حلقات في القسم الثقافي، وبالرغم من أنني تلقيت انتقادات حولها، لكنها لقيت اقبالا كبيرا وساهمت في انتشار الجريدة. وبقيت على هذا الحال، يقول محدثنا إلى أن جاء الموعد الذي يسبق تعييني مديرا للجريدة، حيث كان وزير الإعلام في ذلك الوقت محمد الصديق بن يحيى رحمه الله، الذي التقيته في مهرجان الشباب الإفريقي، حيث اراد اختباري في نادي الجيش الذي كان مقرّه ببينام في ذلك الوقت، وقد دعاني لجلسة عشاء هو من دفع ثمنها، وفتح معي نقاشات عديدة حول مواضيع مختلفة، وبعدما افترقنا ومع طلوع شمس الغد، ارسل لي وثيقة التعيين كمدير في جريدة «الشعب» وقد سعدت بذلك وأخذت زمام المبادرة. الملك فيصل والبترول الليبي وقصة التلكس وهو يبتسم، أحيانا ويغوص في ماض مليئ بالاحداث، وتذهب به الأفكار بعيدا حينما يغمض عينيه ليسترجع ما تبقى في ذاكرته، حيث حطّت سفينة أفكاره بساحة أودان بقلب العاصمة الجزائر، أين كان مقر الجريدة آنذاك، يروي لنا غلام الله، أهم تجاربه في جريدة «الشعب»، وهو يتقلد منصب المدير، وأخبرنا أن الحادثة الأولى التي بقيت راسخة في ذهنه تتعلّق بذكرى تأميم البترول الليبي، الذي كان حدثا مهما في ذلك الوقت، وبما أننا كنا في تلك الفترة نتعامل بتقنية «التلكس»، الموجود في غرفة معزولة، حيث لم ننتبه لتعليمات صادرة «من الفوق»، تخبرنا بضرورة وضع عنوان الموضوع غدا في الصفحة الأولى «مونشات»، لكنني قمت بمعالجة الملف عن طريق إدراج ثلاثة أعمدة، ولم أقرأ «التلكس»، وهو اجتهاد مني فقط، لأتفاجأ غدا بوزير الإعلام يقدم لي الملاحظة، وقال «أرسلنا لكم التلكس»، ولقد أجبته مباشرة بالقول «لم أقرأه»، ومرت الحادثة بسلام. الحادثة الثانية، تتعلق بزيارة الملك فيصل، حيث اتصل بي سفير المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت، واخبرني أن تكون صورة الملك فيصل في الصفحة الأولى، لكنني أجبته قائلا، «هل الملك فيصل ضيف الجزائر أم ضيف السفارة، علما أن هذا أمر يعود للجزائر». وبعدها سألني وزير الإعلام آنذاك الراحل محمد الصديق بن يحيى، عن الأمر وأخبرته عما حدث مع السفارة، فاستحسن الخطوة التي قمت بها، حيث كان يشجعنا كثيرا لما كان له من قدرة على التفكير، حيث لم اعرف من الشباب المثقفين مثل قدرته على التفكير وتحريك الأمور وتدوير الأفكار، فهو خسارة كبيرة للجزائر بصفته كان وزيرا للخارجية محنكا. ويسترسل غلام الله، في سرد نهاية وقائع سنين جريدة «الشعب» بالنسبه له، وهو يقول «عندما تولى طالب الإبراهيمي حقيبة الإعلام والثقافة في تلك الحقبة، تم تعيين الراحل عيسى مسعودي مديرا للجريدة بعدما كان في ديوان الوزارة من باب أنه أولى وابن الوزارة، وأنا معارضا بالنسبة له، فلما تمّ تعيينه طلب مني القدوم إلى الديوان، حيث لم يكن لدي رغبة في ذلك، وكتبت له طلب الرفض بطريقة لبقة، وأخبرته أن الطالبات في ثانوية عائشة يتصلون بي من أجل العودة للتدريس. القرية الاشتراكية.. الكارثة.. وغضب بومدين فجأة ونحن نستمع بإسهاب للعم غلام الله، أطلق العنان لصوته وهو يسرد نكتة وقال مبتسما حتى ظهرت نواجذه، واحمرّت وجنتاه، «كانت المطبعة في تلك الفترة تعمل بتقنية «حروف الرصاص» التي تطبع بها وتسمى «اللينوتيب»، حيث تتسبب في الكثير من الأوقات في تغيير الحروف، «، وفي أحدى المرات كان عنوان الأولى «الرئيس بومدين يفتح القرية الإشتراكية»، وتخيلوا تغيّر حرف القاف في كلمة قرية إلى خاء، وهو يضحك، واضحكنا معه، قال «لولا أحد العمال المدعو موسى وهو من بين الأناس الوطنيين، وخريجي جيش التحرير ويعتبر من الثوريين الذي انتبه للأمر ونبهني، واخبرني بوجود الخطأ، لحدثت الكارثة، وقد نزلت للمطبعة على عجالة انذاك، وتمّت معالجة ألأمر عن طريق إعادة طباعة الجريدة، بالرغم من التاخر الحاصل، فتخيلوا أن «الشعب» كانت تبقى حتى للساعة الواحدة أو الثانية صباحا، لكنني اجتهدت وقدمت الوقت إلى الساعة صفر، لأن وسائل الشعب لم تصل لمثل وسائل جريدة المجاهد. انقلاب على الطاهر الزبيري وانقلاب على النظام في الشعب ومن غير الممكن أن يمرّ شريط ذكريات غلام الله، دون التوقف عند حادثة الإنقلاب على النظام في الجريدة، حيث يقول، «لقد تناولنا الانقلاب الذي وقع على الطاهر زبيري، بانقلاب آخر داخل جريدة «الشعب» على النظام، وكتب آنذاك محمد سعيدي مقالا «فوق العادة»، وصل حدّ انتقاد لاذع للوضع، وقال إن الحركة تلك كانت نتيجة خلل موجود في المنظومة، حيث اعتبر في ذلك الوقت ثورة في المقال وفي جريدة الشعب ككل، كنا نغامر ونفرض رأينا. وأضاف أن جريدة «الشعب» لم تكن ناطقة باسم السلطة، وخير دليل افتتاحية محمد سعيدي بعد محاولة انقلاب العقيد الطاهر زبيري، حيث تدخّلت في أخطر موضوع في البلاد، حيث كانت الجريدة تمثل ثورة لتمزيق الغشاء الفكري الذي كان سائدا، لما كانت الناس تتملق للسلطة للوصول إلى مناصب، لم تكن «الشعب» بوقا في ظل وجود افتتاحية تعبّر عن رأي مثقفين، ولم يكن هناك أيضا خط احمر أو تعليمات إلا بخصوص القضايا الدولية مثل ليبيا، تأميم البترول في ليبيا في إطار السياسة الخارجية للبلاد، ف»الشعب» كانت مدرسة حقيقية. كنت أدافع عن الصحفيين وأرفض إقالتهم وعن طبيعة العلاقة التي كانت تجمعه مع الزملاء الصحفيين، أكد المدير الأسبق ل»الشعب»، أنه كانت تجمعه علاقة طيبة مع الزملاء، أمثال عيسى عجينة، محمود رويس، الذي كان يملك أفكارا ثورية، ينتقد ويخرج عن الموضوع، حيث باشر آنذاك في نشر سلسلة من المقالات ينتقد فيها الجامعة، وأنا شجعته عليها بالرغم من احتجاج محمد الميلي، «الله يرحمو»، لما كان مديرا الإعلام في الوزارة، حيث طالبني بتوقيفه فورا، لكنني رفضت الأمر وأخبرته أنا من يشجعه على الأمر، من أجل تحريك الرأي والقراء، حيث كان يريد الإصلاح وهو شاب متحمس، حيث يعتز غلام الله وهو يتحدّث عن الأمر بما فعله بدفاعه عن الصحافيين وعن الأفكار الحرة البنّاءة. وفي خضمّ إلحاحنا على استرجاع أهمّ ما حدث خلال فترة تواجده بالجريدة، أخبرنا غلام الله بأنه أول من أدخل تقنية «البراي» للجريدة ، بل أن أول مصحف بالبراي في العالم طبع في جريدة «الشعب»، بعدما تمّ إدراج صفحة أسبوعية للمكفوفين، تصدر مرة في الأسبوع، حيث كان الهدف منها كتابة المصحف الشريف بالبراي، ولأول مرة يكتب المصحف بتقنية البراي في مقر الجريدة «الشعب» وبوسائل الشعب، أي في مطبعة الجريدة ، وأنا أشرفت على شراء الأجهزة من الخارج من ايطاليا، ان لم تخني الذاكرة سنة 1968، وقد اشتغل عليه عمال الجريدة، حيث بدأنا جزءا من المصحف ربما جزء عامة، ثم غادرت أنا «الشعب» وتمّ إكمال المشروع من بعدي حسب ما أذكر. بين بور سعيد.. وشارع الشهداء سكنت «الشعب» كما يروي لنا غلام الله تفاصيل، محاولة ايجاده لمقر محترم للجريدة في تلك الفترة ليكون دائما غير مقر ساحة اودان، وقال «كنت أريد نقل «الشعب»، إلى ساحة بور سعيد وهو المقر الحالي للقرض الشعبي الجزائري، حيث طلبت من وزير المالية آنذاك قايد احمد، وهو أول من وضع «قسيمة للسيارات»، يضحك غلام الله ويكمل حديثه، لكنه رفض واخبرني المكان استراتيجي ويليق بمقام البنك، وتمّ رفض الفكرة، وبقيت «الشعب» تتنقل لغاية استقرارها بشارع الشهداء بالعاصمة. أرشيف الجزائر في «الشعب» وختم كلامه قائلا: جريدة «الشعب» لا تزال تناضل، وهي قابلة للأرشفة، في كل المواضيع، وتكشف حقيقة الوضع السياسي أو الثقافي، التاريخي في الجزائر عبر الزمن، ليخبرنا أن «الشعب» «تمثل التغيير الثوري، حيث كانت ثورة في الفكر، مثلما هو الحال مع رواية الطيب صالح السوداني، حيث كانت تجربتي غنية جدا لأنني عملت مع الراحلين، محمد سعيدي، ومحمد الصديق بن يحيى، حيث كسبت الكثير».