يعد قصر أنقوسة العتيق، من بين القصور الصحراوية القديمة الشاهدة على حقب زمنية بعيدة، حيث يعود تأسيسه حسب بعض المصادر المحلية إلى سنة 870 ميلادي، وبالرغم من عامل الزمن والمناخ والإهمال الذي طاله، إلا أن أزقته وبعض بناياته القديمة مازالت صامدة كنافذة على الذاكرة. يثير هذا المعلم التاريخي اهتمام الكثير من الباحثين في مجال التاريخ والمهتمين بالتراث الثقافي للمنطقة، بفعل معاصرته لمراحل تاريخية هامة وأثره الكبير في التأسيس للذاكرة المحلية، إلا أنّ القصر العتيق بأنقوسة وعلى غرار قصور صحراوية عديدة أضحى مهددا بالاندثار والزوال، نظرا لانهيار الجدران وبعض الممرات في أزقته ودروبه ولم يستفد من عملية تهيئة أو ترميم، كما أنّ المسجد العتيق المتواجد في محيطه، طمست جميع معالمه الأصلية بعد إعادة بنائه ولحسن الحظ، لم تمس العملية منارته المحافظة على أصالتها ومعمارها التقليدي وشملت عملية الترميم زاوية في إطار مشروع وطني لترميم الزوايا. وتهتم، اليوم، بعض الجمعيات الثقافية على غرار جمعية التراث الثقافية أنقوسة، بالتعاون مع جمعية جسور الأمل أنقوسة وبمشاركة ممثلي المجتمع المدني، بإعادة الاعتبار للقصر العتيق والمحافظة على هذا الموروث التاريخي وحماية التراث المادي واللامادي لهذه المنطقة التي تمتلك العديد من المؤهلات التي تجعلها قبلة سياحية بامتياز، وقد انطلقت هذه الجمعيات المحلية في إطلاق ورشات لفتح المسالك ورفع ردم البنايات المنهارة، حتى يمكن لزائر القصر اكتشاف المعالم والشواهد التاريخية لحقبة من الزمن عبر دروب وأزقة القصر وجعله قبلة للسياح ومحل بحث للمهتمين بالتاريخ، بعد أن تطوع شباب من منطقة أنقوسة من أجل ترميم ما يمكن ترميمه بوسائل بسيطة وبهدف تعزيز ملف تصنيف القصر كمعلم أثري تاريخي، يعد معماره التقليدي القديم متحفا عابرا للزمن. وقدمت الجمعيات، في نفس السياق، مخططا تسعى من خلاله إلى التعريف بالتراث ونقله، من خلال إحياء الندوات الثقافية والتراثية وإقامة معارض تقليدية في مناسبات مختلفة مثل إحياء يناير والاحتفال بشهر التراث والأعراس التقليدية، كما تم تكوين فريق عمل من تقنيين ومصورين ومهتمين بالتاريخ لإنشاء شريط وثائقي يروي تاريخ أنقوسة من بداية السلاطين الأولى والمماليك إلى يومنا هذا، حسبما ذكره مسعود باعلي أحد الناشطين في مجال التوثيق للتراث المحلي للمنطقة. نشاطات تطوعية تحتاج للدعم من جانبه، قال عبد الحليم دحماني وهو أحد المهتمين بتاريخ وتراث مدينة أنقوسة أنّ بداية الألفين شهدت تأسيس جمعية باسم جمعية القصر الثقافية والتي عملت جاهدة لتلفت اهتمام المسؤولين وتبرز أهمية هذا المعلم، ولكن دون جدوى وشرعت في إجراءات ملف التصنيف وأودعته لدى مديرية الثقافة، منذ سنة 2009 ولم تتم الإجابة عليه إلى يومنا هذا وحاليا جمعية التراث الثقافي التي تأسست حديثا سنة 2019، تعمل على المحافظة على هذا المعلم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالوسائل البسيطة، حيث شارك بعض الشباب المتطوعين في عملية فتح المسالك ورفع ركام الجدران المنهارة ليتسنى للزوار التجول والمرور عبر الأزقة الضيقة للقصر، ولكن هذا العمل يتطلب أن يكون مشروعا ينجز بالمعدات والآلات في أقرب الآجال حسب المتحدث، لأنّ العوامل المؤثرة في اندثار القصر تزيد يوما بعد يوما ويتوجب إشراك المهتمين في مجال تاريخ القصر للمحافظة على رموزه ومعالمه الأثرية الأصلية، مشيرا إلى أنّ الحفاظ على هذا القصر ضروري جدّا لما يحمله من أثر في الذاكرة الجماعية، حيث يعد اقترانا ماديا للعديد من الوقائع والأحداث التاريخية التي شهدتها المنطقة، فكل معلم أثري داخل القصر كما قال الباحث دحماني «هو عبارة عن صورة لها تعليقها والتعليق يسهل فهمه عند مطابقته بالصورة، كذلك العادات والتقاليد والقصص القديمة والاعتقادات الموروثة هي محفوظة داخل القصر والكثير منها يرتبط حدودها المكاني بالقصر وهذه العادات أصبحت في طريق الزوال، بسبب مغادرة منازل القصر وحتى تلك الألعاب التقليدية كانت إلا في أزقة القصر». وذكر محدثنا أنّ المجتمع داخل القصر، عاش متماسكا ومترابطا فيما بينه كتماسك وترابط منازل القصر، فهذه الحياة مصدرها كان النسيج العمراني للقصر وبصفته أحد المهتمين بالتاريخ وتراث مدينة أنقوسة وناشط في جمعية التراث الثقافي، اقترح من أجل استرجاع مكانة القصر والمحافظة عليه ليصبح منتجعا سياحيا وميدانا للدراسات التاريخية، أن يخصّص له غلاف مالي لتهيئته وكمرحلة أولية تحفيزية، تمسّ المعالم الأثرية والرموز التاريخية فقط التي لا تعود ملكيتها لأحد معيّن، مثل إعادة بناء السور وتهيئة الأبواب وسجن المملكة ورفع الركام من الساحات التاريخية وتهيئة المساجد وفتح المسالك، مع بناء واجهات الشوارع وإحاطة الأماكن التي كانت بنايات. وفي الأخير يكون داخل القصر متحف بلدي خاص بالتاريخ والتراث، يبنى في المكان الذي كان عبارة عن قصر ملكي لتجمع فيه المعلومات التاريخية والقطع الأثرية ويتوسطه مجسم كبير للقصر، ليكون فرصة للزائر الذي يكون في عجلة من أمره أن يطلع باختصار. من القصور الأولى في المنطقة وبالعودة إلى تاريخ قصر أنقوسة العتيق، يعد هذا القصر من أبرز المعالم التاريخية في مدينة أنقوسة وهو الأول من بين القصور الموجودة في هذه النواحي، حيث بنيت منازله الأولى في القرن التاسع ميلادي، بعد أن تجول السكان الأوائل عبر عدة إقامات على شكل قبائل وتجمعوا واستقر بهم الحال في ربوة تعلو على مستوى سطح الأرض بمترين ونصف اختاروها كمجمع سكني بحثا عن الأمن، ومع ذلك لم يسلموا من الغزو والهجومات، ممّا اضطرهم إلى إحاطة السكنات بسور عال، يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار وبسمك خمسة وسبعين سم، وفي سنة 1021 م حصن القصر بثلاثة أبواب رئيسية وباب ثانوي خاص بالعائلة الملكية تداولت على الحكم مدة تسعة قرون وبضع سنين، إضافة إلى مخرج مؤدي إلى منبع التزوّد بالماء ومخرج آخر للتزوّد بالماء داخل أسوار القصر، هي عين حفرها والد الولي الصالح الشيخ موسى تسمى تالة موسى وكانت من قبل اسمها تالة أزدوس وهو الاسم الأصلي للقصر. وبنشأة المملكة حسبما أشار إليه الباحث عبد الحليم دحماني، عرفت بلدة أنقوسة ميلادا جديدا لمدينة عمرانية حضارية، يمتد حكمها إلى الأغواط والمنيعة وبسكرة وكانت سياستها رامية إلى السيطرة على المناطق المجاورة، فانجر عن ذلك صراعات وحروب مع المجتمعات الأخرى، فتحول القصر إلى قصر حربي بالدرجة الأولى، متأهبا لصد العدو وإقامة الحروب وأخذ مواصفات حربية كعدم تعدد وكثرة الأبواب ونظام فتحها وغلقها والحراسة الدائمة والعمل على ادخار المؤونة. مواد بناء محلية أعطته مناعة شيّدت منازل القصر من البداية بالمواد المحلية، حيث تتوفر في المنطقة أحجار تحت التربة يتم قلعها وتصنيفها إلى صنفين واحدة هشة توجه للفرن وبعدها تسحق فتصبح مادة جاهزة للبناء وأخرى صلبة نوعا ما تستعمل حجارة لبناء المنازل ذات الأقواس والشرفات الدائرية وتبدو من خلاله الرموز البربرية واضحة، وهي تقريبا من نمط واحد متشابه يتحكم فيه النمط المعيشي، لأنّ السكان كانوا عبارة عن عائلات كبيرة ممتدة يجتمع الجد والجدة وأبنائهم وأحفادهم في منزل واحد، وجميع المساكن لها الطابق العلوي وغرفة الضيافة المجهزة بالمدخنة للتدفئة، أما وسط المنزل يكون كبيرا وبه غرف صغيرة، يتحكم في ذلك خشبة التسقيف القصيرة الطول لأنّها من خشب جذع النخلة فلم يتأثر بهندسة أخرى، لأنّ المجتمع عاش حياة القصر يصعب على الآخرين اختراقهم والتأثير فيهم كون القصر كان قصرا حربيا. سبع مساجد وزاويتين دينيتين شهدت هذه المرحلة بناء المساجد وتكوين الزوايا، حيث يحصي القصر سبعة مساجد وزاويتين دينيتين الآن هم عبارة عن معالم دينية كلهم يحملون تاريخهم، منهم أول مسجد الذي بني في القرن التاسع ميلادي من طرف أحد مؤسسي القصر سيدي صالح بن موسى ولا زال شاهدا ويزار كل سنة تجرى فيه اختتام الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، وكذلك المسجد العتيق الذي بني في أواخر القرن العاشر ميلادي لا زال معلما منارته شامخة وتقام فيه الصلوات الخمس وصلاة الجمعة إلى يومنا هذا وباقي المساجد في طريق الانهيار والاندثار. وفي الجانب الاقتصادي، كانت المملكة منتعشة اقتصاديا إلى درجة أنّ السلطان خصّص أملاك من النخيل توجّه نفقتها على الحجاج وعابري السبيل، وكان السكان يعتمدون على أنفسهم ويمارسون كلهم الزراعة وخدمة البساتين، حيث كانت تعمر أسواق ورقلة من منتجات بساتين مدينة أنقوسة عندما كانت طريقة السقي تقليديا وبعض حاجياتهم يقتنونها من الأنشطة التجارية التي تتم داخل القصر، بالإضافة إلى المبادلات التجارية بين البدو وقوافل التجار، لأنّ المنطقة أصلا مركز عبور للقوافل والحجاج وقد تحدث عنها الرحالة العياشي في رحلته الحجازية برفقة وفد من الحجاج.