شهدت الذكرى الستون لاسترجاع السيادة الوطنية، تنظيم العرض العسكري الأضخم على الإطلاق، والذي أظهر جيشا وطنيا شعبيا عصريا مجهزا بأحدث الأسلحة، ينجز مهامه القتالية بدقة عالية. وكان ذلك تحت إشراف رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة وزير الدفاع الوطني، عبد المجيد تبون. لم تظهر شمس هذا اليوم الصيفي، قساوتها المعهودة، فور إشراقها ولا عند ارتفاعها في كبد سماء الجزائر البيضاء (العاصمة)، ومع حركة نسيم البحر المنبعثة من واجهة شاطئ «الصابلات»، تهيأ جو خاص لإقامة الاحتفال المميز، بذكرى استعادة السيادة الوطنية. الاحتفال الخاص ليس إلا استعراض عسكري مذهل. هو الأكبر منذ الاستقلال، والأول منذ 34 سنة. ومع الساعات الأولى لصباح الخامس جويلية، ازدادت طقطقة حوافر الخيل على الأرضية الصلبة للطريق الوطني رقم 11، وأزيز القطع الحربية المجنزرة، المصطفة بجانب المتاريس الإسمنتية. كانت تلك آخر اللمسات، قبل وصول رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، إلى المنصة الشرفية مرفوقا بضيوف الجزائر، من رؤساء دول وحكومات ووزراء بلدان شقيقة وصديقة، يتقدمهم الرئيس التونسي قيس سعيد، رئيس دولة فلسطين محمود عباس، رئيسة إثيوبيا ساهلي وورك زودي، رئيس النيجر محمد بازوم، رئيس جمهورية الكونغو دونيس ساسو نغيسو، ورئيس الجمهورية العربية الصحراوية الأمين العام لجبهة البوليساريو إبراهيم غالي ورئيسة مجلس الشيوخ الإيطالي ماريا إليزابيتا ألبيرتي كازيلاتي، وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، ووزير التسامح الإماراتي نهيان بن مبارك آل نهيان. كلمة الرئيس تبون، لإعلان انطلاق الاستعراض، حملت الإجابة الكافية عن سؤال تصدر عناوين الصحف والمجلات، الأيام القليلة الماضية، مفاده: ما هي دلالات ورسائل العرض العسكري الضخم؟. وتحدث الرئيس عن «جزائر الثقة في الحاضر والأمل في المستقبل». عبارة تؤكد أن الرمزية والرسالة لا تكمن فقط في إقامة الحدث المشهود وإنما في تفاصيله. فالمنصة الشرفية أقيمت على شرفة ثالث أكبر مساجد الأرض وتحت ثالث أطول مئذنة في العالم، وفي موقع يسمى المحمدية (نسبة إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم) بعدما كان يسمى زمن الاستعمار، «لافيجري» (الكاردينال شارل لافيجري). سادة الجو مرفوقا برئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، ومحاطا بفرقة الخيالة للحرس الجمهوري، قام رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بتفتيش مربعات الوحدات المشاركة في الاستعراض، بعد أن أكد له المشرف العام (على العرض) قائد الناحية العسكرية الأولى، اللواء سيدان علي، جاهزيتها للتفتيش. استغرقت العملية أزيد من 15 دقيقة، نظرا لحجم العدد والعدة المشاركة في الحدث الضخم، قبل أن يستقر كل في مكانه لمشاهدة استعراض صقور القوات الجوية. وبتشكيل متناسق ومنضبط المسافة والسرعة، زينت 6 طائرات للتدريب القاعدي والمتقدم ل-93 سماء خليج العاصمة بألوان العلم الوطني، تبعها تشكيل لطائرات تدريب متقدم لطيران النقل س-90 مرفوقة بطائرتين للتدريب القاعدي والمتقدم من طراز نمر ل-39. وفي منظر مهيب، وتحت تصفيقات المنصة الشرفية، أبرزت 8 طائرات للتدرب والإسناد الناري ياك-130 مظهر الرهبة والتفوق، تبعها «تشكيل ثلاثي لطائرات استطلاعية متعددة المهام وسرب لثلاث طائرات للنقل بي.أو-350 إلى جانب طائرة للنقل التكتيكي إليوشن 76 م.د». القوات الجوية الجزائرية أظهرت قدرتها الفائقة على امتلاك قدرة المكوث في السماء لمدة طويلة جدا، من خلال تنفيذ تمرين تزويد مقاتلتي سوخوي-30 وسوخوي-24 بالوقود من طرف طائرة إليوشين-78 في نفس الوقت، بإسناد مقاتلتين. نفس التمرين أدته 4 مقاتلات حربية من نوع سوخوي-24 المعصرنة من قبل الجيش الجزائري، إذا نجحت في التزود بالوقود، في عملية تسمى «الجسم للجسم»، حيث تتم العملية بين طائرتين خفيفتي الحجم، ما يمكنهما من الاحتفاظ بخاصتي «السرية» و»الارتفاع». وتعد الجزائر من الدول الرائدة في مجال التزود بالوقود، في العمليات الجوية، إذ تتحكم في هذه التقنية وتقوم بها منذ أزيد من 24 سنة. استعراض القوات الجوية، تم في مرحلتين، في البداية ثم الاختتام، حيث أظهرت أسراب مقاتلات الميغ-29 وسوخوي-30، القوة الضاربة، وقوة التدمير الرهيبة، سواء عند الإسناد أو الهجوم لتدمير الأهداف. مرور التشكيلات بالتزامن مع رسم سرب مكون من 19 طائرة للتدرب القاعدي فرناس-142، الرقم 60، رمز الذكرى الستين للاستقلال، وشحت فرقة الحرس الجمهوري، المربعات المشاركة، والتي مرت تباعا أمام المنصبة الشرفية. وتقدم مربع المجاهدين بالسير وفقا لقاعدة النظام المنظم وبزي جيش التحرير الوطني، متبوعا بأشبال الأمة، ثم مربعات: القوات البرية، القوات الجوية، قوات الدفاع الجوي عن الإقليم، القوات البحرية، الدرك الوطني، المدرسة العسكرية متعددة التقنيات، المدرسة العسكرية التحضيرية لدراسات مهندس، المديرية المركزية للعتاد/ مدرسة الإشارة والمعلومات والحرب الإلكترونية، الصحة العسكرية، الأمن الوطني، الحماية المدنية والجمارك. واختتم مرور المربعات، بمرور مميز للقوات الخاصة، بقبعاتهم المعقوفة يسارا، ومشية التأهب الإيقاعي وأناشيدهم الممزوجة بزئير الأسود، هنا وقف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون وضيوفه في المنصة الشرفية لتحيتهم. وتحت الجسر المحاذي لحديقة الصابلات، بدأت أول الآليات الحربية بالتقدم، بسرعة منخفضة ومسافة موزعة تميز بين السَّريِّة والأخرى. وبلون رملي، تقدمت دبابات تي-55 المعصرنة، التابعة للمشاة ميكانيكية. تلتها بقية دبابات السلسلة حتى تي-90. معلق الاستعراض العسكري، أكد أن الجيش الوطني الشعبي، قام باجتهادات وأدخل تعديلات على دبابات تي-62 وتي-72، بإضافة أبراج رماية ورفع عيار القذائف. واستعرض الجيش، فصيلة العربات الخفيفة لكل الميادين، مزودة برشاش خفيف مضاد للطائرات، وقاذف قنابل. إلى جانب عربات مضادة للدروع بي.أر.دي.م2، المزودة بقواعد إطلاق الصواريخ المضادة للدروع كونكورت. وتلتها وحدات الإسناد الناري المضاد للدبابات من مدافع وصواريخ عديمة الارتداد أس.بي.جي9. وبقواعد إطلاق الصواريخ- برق، لتدمير الدبابات والأهداف المدرعة والقضاء على القوى البشرية مجتمعة. وخطف عتاد الدفاع الجوي عن الإقليم الأنظار، بدءاً بالمدفع الثنائي عيار-23 مم، المحمول على العربات الخفيفة، وصولا إلى منظومة الدفاع الجوي بعيدة المدى أس.300، القادرة على صد وتدمير الصواريخ الباليستية، ومختلف الطائرات، مزودة برادارات قادرة على تتبع 100 هدف، ومتابعة والتقاط وتدمير 6 أهداف في نفس الوقت. إلى منظومة بانستير-1، وطوس، وشيل-كا، إلى جانب طائرتين بدون طيار من نوع سي-إتش 4-ب، وصواريخ أرض جو متوسطة المدى بوك، متعددة القنوات. كما ظهرت في الاستعراض مدافع هاوتزر الشهيرة، ومنظومات الرادارات والتشويش والحرب الإلكترونية الحديثة جدا. بالتزامن مع ذلك، نفذ مغاوير القوات الخاصة، عملية إنزال مظلي، موشحين بالعلم الوطني وراية الذكرى الستين للاستقلال. رياس البحر أكدت القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي، دائما، أن استعادة أمجاد القوات البحرية الجزائرية ومكانتها التاريخية المهابة في البحر الأبيض المتوسط، يشكل هدفا استراتيجيا. وبالتزامن مع مرور قوام المعركة البرية والدفاع الجوي عن الإقليم، تظهر الغواصة المفخرة «الونشريس» متبوعة بالغواصة «جرجرة»، ثم بقية السفن والقطع الحربية التي تحمل أسماء الجبال التي صمدت بالأمس في وجه الاستعمار الفرنسي. وشقت عباب البحر، السفينة الحربية «قلعة بني عباس»، تبعتها الفرقاطة الرابعة من القسم البحري للفرقاطات متعددة المهام، فصائدة الغواصات مفخرة الصناعة الحربية الجزائرية، وصولا إلى السفينة المدرسة «الصومام». وتمتلك القوات البحرية الجزائرية، قوة قتالية هائلة، حيث بإمكانها استهداف الأهداف تحت مائية والسطحية، واستهداف تمركزات العدو بعيدة المدى، من خلال صواريخ «كاليبر» المقذوفة من الغواصات. وكانت خاتمة الاستعراض، السفينة الشراعية «الخطاف»، التي تلقب بلؤلؤة البحر المتوسط، والتي انطلقت في مهمة تدريبية وعلى متنها عدد من الطلبة. ونجح الاستعراض التاريخي، في إظهار المكانة التي وصل إليها الجيش الوطني الشعبي، عدة وعتاداً، إذ أبهر في تنفيذ التمارين بدقة، وفي التحكم وعصرنة الآليات القتالية العصرية، وإضفاء البصمة الجزائرية عليها من خلال تطور الصناعة العسكرية، وتمكنها من إنتاج مركبات القتال في مختلف الظروف الجغرافية والمناخية. ولعل ما ميز الاستعراض العسكري، الحضور الكبير للمواطنين الذين توافدوا إلى متنزه «الصابلات» باكرا وتفاعلوا مع كل العروض، وخصوا رئيس الجمهورية بتحية حارة أثناء تفتيشه التشكيلات المائة المشاركة في الاستعراض.