طرح الأستاذ محمد سعيد بوسعدية، في الحلقة الأولى المنشورة في عدد يوم أمس، أسئلة تأسيسية للحديث عن الانتقال من "نقد العقل الإسلامي" إلى "نقد العقل الإسلاموي"، وعاد إلى مساءلة طبيعة مصطلح "الإسلاموي" وقدراته على الدّلالة، فعاد إلى بدايات استعماله تاريخيا، ثم حدّد "العقول السياسية الإسلامية الكبرى المندرجة ضمن العقل الإسلاموي"، ومختلف التّوجهات التي يعبّر عنها "المصطلح"، واليوم، يواصل في تشريح طبيعة هذا العقل.. 3- المرحلة التأسيسية.. أو إرهاصات بروز العقل الإسلاموي يصعب تحديد المرحلة التأسيسية للعقل الإسلاموي نظرا لتشعبه وكثرة روافده وعائلاته السياسية والعقدية، كما سبق القول. يرى البعض أن الفترة التدشينية لهذا العقل تعود إلى تأسيس حركة محمد عبد الوهاب في منطقة نجد بمدينة الدرعية بشبه الجزيرة العربية أواخر القرن 18م، والذي تحالف مع محمد بن سعود قصد تأسيس دولة إسلامية مستقلة عن الخلافة العثمانية، وهو ما حصل من قبل الأحفاد بتأسيس المملكة العربية السعودية في سنة 1932. كما يرى البعض الآخر أن فترة التأسيس لهذا العقل تعود إلى سنة 1926 عندما تم إنشاء جماعة التبليغ والدعوة، أو ما يسمى بجماعة الأحباب بالهند على يد محمد إلياس الكاندهلوي، إلاّ أن نفور هذه الجماعة عن العمل السياسي أبعدها نسبيا من العقل الإسلاموي. يربط أغلب الأكاديميين ظهور "الإسلاموية" مع تأسيس حركة الإخوان المصرية بقيادة حسن البنّا في 1928، رغم أنّ انتقالها إلى العمل السياسي لم يتم إلاّ في 1938. لكن تبقى هذه الفترة مرتبطة بحركة إسلامية مصرية لها السبق في التأسيس والتنظير والممارسة السياسية عن باقي روافد الحركة بباقي البلدان العربية على الخصوص، والتي تباينت فترة تأسيسها من بلد إلى آخر. فعلى سبيل المثال، تأسست الحركة الإخوانية السورية والأردنية في سنة 1945 على يد كل من الشيخ مصطفى السباعي السوري، وعبد اللطيف أبو قرة الأردني، وتأسست حركة الإخوان الفلسطينية بقطاع غزة في سنة 1946 على يد عايش عميرة، والتي ورثتها من بعد حركة حماس. كما يعود قانونيا تأسيس حركة الإخوان بالجزائر (حماس التي تحولت إلى حمس) إلى سنة 1990 على يد الشيخ محفوظ نحناح، فيما يعود قانونيا تأسيس حركة الإخوان في تونس إلى سنة 2011 (حركة النهضة الإسلامية) على يد الشيخ راشد الغنوشي. لكن يبقى هذا التأسيس متعلق بالعقل الإسلاموي السني، فالأحزاب السياسية الشيعية شهدت هي الأخرى فترات تأسيسية متباينة. يمكن ربط العقل الإسلاموي الشيعي بالثورة الإيرانية في 1979 كما يفعل كثير من المشتغلين على الشأن الإسلامي، إلاّ أنّ ثمة أحزاب سياسية شيعية رأت النور قبل قيام هذه الثورة بزمن كبير. فعلى سبيل المثال، تأسس الحزب الشيعي العراقي (حزب الدعوة الإسلامية) في سنة 1958، والحزب الشيعي اللبناني (أمل) في سنة 1974؛ فيما جاء تأسيس أحزاب شيعية أخرى بعد الثورة الإيرانية منها: (حزب الله) اللبناني المرتبط بإيران في سنة 1982؛ والحزب الشيعي الكويتي (التحالف الإسلامي الوطني) في سنة 1988؛ والحزب الشيعي اليمني (حزب الحق) في سنة 1990؛ والحزب الشيعي البحريني (جمعية الوفاق الوطني الإسلامية) في سنة 2001. 4- القبض على العقل الإسلاموي لا يختلف اثنان على الدور الرئيسي الذي لعبته الحركة الإخوانية المصرية في الإنتاج الأدبي-السياسي والفكري والعقدي، غير أنّ التباين بين الباحثين يبدأ في تعداد الشخصيات الإخوانية التي صقلت أكثر العقل الإسلاموي بفضل كتبها ومقالاتها وخطبها وممارستها السياسية. على غرار كل المذاهب الفكرية والحركات السياسية في العالم، يمثل دائما فكر المؤسس القدوة التي يجب الانطلاق منها، وعليه، فإنّ الآثار الفكرية التي تركها حسن البنّا، كانت ولا تزال تمثل المرجع الأساسي للعمل السياسي الإخواني. وتتمثل هذه الآثار في عدّة كتب أهمها: مذكرات الدعوة والداعية، والسلام في الإسلام، وقضيتنا ودعوتنا؛ وكذا مجموعة من رسائل من بينها رسالة المنهج ورسالة الانتخابات. ومن الطبيعي أن يسعى مناضلو الحركة الإخوانية المصرية إلى الكتابة عن قائدهم كما فعل يوسف القرضاوي الذي ألّف كتابا هاما عن حسن البنا وهو: "التربية السياسية عند الإمام حسن البنا"، وكذلك فعل محمد عمارة الذي ألّف "معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا". شخصية أخرى لا تقل أهمية عن حسن البنا، لعبت هي الأخرى دورا كبيرا في صقل العقل الإسلاموي عبر إنتاجه الفكري والسياسي، وتتمثل في سيد قطب الذي استطاع بفضل كتبه أن يؤسس لتيار داخل الحركة يسمى باسمه أي التيار القطبي. وقد ترك سيد قطب عدّة مؤلفات تركت آثارا فكرية وسياسية وحتى نفسية في كثير من مناضلي الحركة عبر كامل البلدان العربية وحتى الإسلامية. ومن بين الكتب الرئيسية التي يمكن القول إنها صقلّت هي الأخرى العقل الإسلاموي، نذكر: معالم في الطريق، المستقبل لهذا الدين، وفي ظلال القرآن. سيد قطب هو الآخر كُتب عن فكره ونضاله على غرار كتاب: "سيد قطب، الخطاب والإيديولوجيا" لمحمد حافظ دياب، وكتاب "مع سيد قطب في فكره السياسي والديني" لفضل الله مهدي. تأثير الفكر الإخواني لم يمس فقط مناضلي الحركات الإخوانية عبر البلدان العربية والإسلامية، ولكن ترك أيضا تأثيره لدى التيارات السياسية الأخرى، كالسلفية السياسية والأحزاب الشيعية وحتى مناضلي الأحزاب الوطنية غير الإسلامية؛ بل هناك من يرى أن الفكر القطبي كان وراء تأسيس "السلفية الجهادية". تطرف أفكار سيد قطب هي التي دفعت الإخواني حسن الهضيبي إلى تأليف كتاب "دعاة لا قضاة" قصد تبرئة حركة الإخوان من التطرف واستعمال العنف للوصول إلى الحكم. ويبقى كتاب الفريضة الغائبة لمحمد عبد السلام فرج أهم مرجع فكري "للحركات الجهادية" المنتشرة عبر العالم العربي والإسلامي. أخيرا، ماذا عن العقل الإسلاموي الشيعي، وكيف يمكن القبض عليه. أكيد، المسألة معقدة في هذا المجال، إذ يمكن الرجوع إلى كتاب الإمام الخميني "الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه" وهو عبارة عن سلسلة من المحاضرات ألقاها الخميني على طلاب الدين في النجف، وترجمت إلى العربية وطبعت في لبنان في سنة 1970. وقد تجسدت هذه النظرية ميدانيا ومؤسساتيا بعد الثورة الإيرانية. غير أن هذه النظرية الخمينية لم تلق توافقا من كل المرجعيات الشيعية وفقهاء الشيعة، خاصة وأن نظرية ولاية الفقيه مرتبطة بالمذهب الاثنا-عشر الذي يعتقد في عودة الإمام محمد بن الحسن العسكري. أما غالبية الأحزاب الشيعية العربية، فقد اندرجت في ظل دستور وقوانين ومؤسسات البلاد. كذلك تمثل مؤلفات العراقي محمد باقر الصدر مرجعا فكريا للعقل الإسلاموي الشيعي وهي عديدة نذكر منها: اقتصادنا، وفلسفتنا، ورسالتنا، ومنابع القدرة في الدولة الإسلامية.
5- مميزات العقل الإسلاموي من الصعب حصر مميزات العقل الإسلاموي في نقاط معدودات نظرا لكثرتها وتعددها وتباينها من عائلة سياسية لأخرى، بل قد تختلف قيادات العائلة السياسية الواحدة حول المنهج الفكري والسياسي المتبع نتيجة الضغوط والإكراه والإملاءات والممارسة السياسية. مع ذلك نحاول في هذا الإطار حصر هذه المميزات في ثلاث نقاط نراها أساسية وجامعة لكل العائلات السياسية مهما كان منهجها وأفكارها وعقيدتها. - العقل الإسلاموي عقل سياسي حديث: ونعني بذلك أنّ معظم الأحزاب الإسلامية انخرطت في الحداثة السياسية وتبنتها في الممارسة السياسية رغم بعض الاستثناءات كما هي عليه السلفية العلمية كما سبق القول، وحزب التحرير، والتنظيمات الجهادية العابرة للحدود المتشبثتين بفكرة الخلافة. صحيح أن البداية كانت عويصة لقبول هذه الحداثة التي يبقى منبعها غربيا، انطلاقا من أنّ حلم الخلافة كان يراود أقطاب معظم الأحزاب الإسلامية، وعليه كانوا يرفضون فكرة الدولة الوطنية بحدودها وعلمها ونشيدها وعملتها، كما رفضوا - في البداية - فكرة الدستور انطلاقا من أنّ القرآن هو دستور الأمة، لكن تطور الأحداث وتعدد الدول الوطنية خاصة في العالم العربي، دفع العقل الإسلاموي إلى قبول الحداثة السياسية بأفكارها ومؤسساتها ونصوصها حتى ولو حاول بعض المنظرين أسلمتها وتبيئتها بمصطلحات توحي أننا أمام نموذج إسلامي جديد. هكذا تمّ قبول فكرة الأحزاب والديمقراطية (ولو أن البعض سمّاها شوراقراطية كما فعل محفوظ نحناح) وحقوق الإنسان ولو نسبيا، والانتخابات والدستور والمؤسسات الناجمة عنه على غرار فصل السلطات والرئاسة والبرلمان (مجلس الشورى عند البعض) والتنظيم القضائي والمؤسسات المحلية والاستشارية. نشير أنّ حركة الإخوان بمجرد أن وصلت إلى سدة الرئاسة بانتخاب محمد مرسي، سعت إلى صياغة دستور جديد في 2012 يحمل الكثير من الأفكار الإسلامية، لكن يبقى شكله وأحكامه ومؤسساته حداثية. - العقل الإسلاموي عقل معرفي تقليدي: وذلك ما يتجلى من خطابات وكتابات رواد العقل الإسلاموي، فقبول الحداثة السياسية بمؤسساتها لا يعني الانخراط في الحداثة الفلسفية والمعرفية. يكفي قراءة "مذكرات الدعوة والداعية" لحسن البنا، وكتابي "الإسلام ومشكلات الحضارة"، و«معالم في الطريق لسيد قطب" والكتاب المشترك بين حسن ترابي وراشد الغنوشي بعنوان: "الحركة الإسلامية والتحديث"، وكتاب "الإسلام والدعوات الهدامة، وسقوط العلمانية" لأنور الجندي، لكشف ميزة هذا العقل الإسلاموي في المجال الفكري والمعرفي، فعلى سبيل المثال، يرى رئيس حزب جبهة العدالة والتنمية الجزائري عبد الله جاب الله في كتابه "شرعية العمل السياسي" أنّ "الديمقراطية، في حقيقتها، لها وجهان، وجه مُشرق يعتبر مكسبا للشعوب وهو ما اتصل بجانب تنظيم السلطة واحترام سلطات الشعب وحقوق وحريات الأفراد، وهو الجانب الذي فتح أمام الغرب النهضة العلمية والتكنولوجية الجبارة التي نعيشها اليوم [...] ووجه قاتم سببته النزعة العلمانية في النظرة إلى الدين، والنزعة الليبرالية المتوحشة في تنظيم الاقتصاد، والنزعة الإباحية في النظرة إلى المرأة، فهيمن صاحب المال والثروة على الحياة السياسية والقانونية وشاع تفكك الأسرة وانتشرت الإباحية والجرائم المختلفة". وعليه يحبذ عبد الله جاب الله مبدأ الشورى كما أشار ذلك في نفس الكتاب إذ قال: "الشورى وسيلة الأمة في أداء مسؤوليتها في تسيير شؤون الدولة ونظام الحكم". - العقل الإسلاموي عقل قانوني مقاصدي بغض النظر عن الشعارات السياسية لرواد العقل الإسلاموي والمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية (أنظر بهذا الصدد مقال الشيخ محمد الغزالي المنشور في مجلة منبر الحوار بعنوان: تطبيق الشريعة حل لأزمة الاستعمار التشريعي في بلادنا)، فإنّ الممارسة السياسية للأحزاب الإسلامية التي وصلت إلى قبة البرلمان وقادت حكومات أو شاركت فيها، أظهرت تبني العقل الإسلاموي للقوانين الوضعية، وذلك بوضعها في إطارها المقاصدي أو ما يعرف بالكليات الشرعية الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ويبقى الاستثناء في قوانين الأحوال الشخصية التي يدافع عنها العقل الإسلاموي بكل شراسة عن مرجعيتها الفقهية الإسلامية بمذاهبها المختلفة، وهو ما سارت عليه أغلب الدول العربية والإسلامية. ملاحظة: بعض فقرات المقال تم اقتباسها من كتابي المعنون: "احتواء الإسلام السياسي من قبل السلطة: التجربة الجزائرية".