الأمير عبد القادر رمز بارز من رموز الجزائر المقاومة والثائرة ضد الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، فقد امتدت مقاومته البطولية على مدى سنين، وكانت الحلقة البارزة في المقاومة الشعبية الوطنية الجزائرية، كما أنه - من جانب آخر - وبرغم الدراسات الكثيرة التي ركزت نحو تاريخه العسكري، يمثل نموذج الزاهد المتصوف والشاعر والأديب المبدع، والكاتب الذي جعل من القلم سليلا للسيف، بالنظر إلى كم إنتاجه المحفوظ وما كتب عنه المتقدمون والمتأخرون في كثير البلدان، بأن يكون مكتبة كبرى تحمل اسمه بكل استحقاق. أما شهرته وذيوع صيته والتقدير الذي افتكه وحظي به من جانب عدد من الحكام والملوك والأباطرة في العالم، فهو يكشف الوجه الآخر للأمير عبد القادر بالصورة الأعمق عن بعده الإنساني الذي تبنى ودافع باستماتة عن قضية وطنية وإنسانية آمن بها، وعمل بإخلاص في سبيل خدمتها. ريادة النهضة.. عبر الأمير عبد القادر بصدق عن موقف الشعب الجزائري الرافض للهيمنة الأجنبية، كما استجاب لتطلعات الجزائريين في إنشاء دولة حديثة في إطار القيم العربية والمبادئ الإسلامية، فكان بحق ابن بيئته، ونتاج ثقافته الأصيلة ولسان عصره، وهذا يتطلّب في ظروف عصرنا وحاجات مجتمعاتنا، من الدارسين والباحثين في تراثه والمهتمين بإنجازاته، تجاوز حياته الخاصة وعدم الاكتفاء بتسجيل تقريري ووصفي لأعماله الفردية وبطولاته الجهادية إلى محاولة التعرف عليه بنظرة جديدة، وذلك من خلال رسم ملامح العصر الذي عاشه وتأثر به وأثر فيه بأبعاده الدولية، وخصوصيته الجزائرية، وربط كل ذلك بالخصائص التي ميزت أعماله والصفات التي طبعت شخصيته، فقد عاصر الأمير عبد القادر كثيرا من أقطاب الفكر العربي الحديث، لكنه أسس لنفسه كينونة خاصة بارزة تعبر عن وجوده المتميز بين أولئك الأقطاب.. إن ما تميز به الأمير عن أقرانه من المفكرين العرب المسلمين، هو أن فكره التنظيمي التأسيسي كان إبداعا ذاتيا، لأنه لم يحتك بالغرب الأوروبي ولم يتأثر به، وإنما كان يدافع عن إثبات كيانه وهويته. وما قام به يضاهي التنظيمات التي كانت في الغرب، والتي كان يدعو إليها مفكرو النهضة العربية، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة. وهذه خصوصية لابد من التركيز عليها في حياته. ولا يعني ذلك أن الأمير لم يكن على علم بصور الحضارة الغربية، وما وصلت إليه علميا وسياسيا، إذ أنه - في الواقع - كان على دراية بها، وكان يشيد ببعض مظاهرها، وينتقد - في الوقت نفسه - أوضاع العرب الذين لم يسايروا تلك الحضارة، وذاك روح علمي موضوعي كان يميز شخصيته. إن اعتراف من الأمير عبد القادر بسمو الحضارة لم يكن بهدف الخضوع والاستسلام للآخر، وإنما هي ضرورة النظر إليها على أنها واقع معيش، يجب النظر فيه وتأليفه مع ما يتوافق مع تراثنا الذي كان يحمل المظاهر نفسها، حتى نتمكّن من النهوض والتقدّم. وكانت هذه وجهة نظر كثير من المفكرين العرب المسلمين في بداية النهضة العربية، من أمثال خير الدين التونسي الذي كان يرى أنه لابد من إيجاد توافق بين الحضارة الغربية ومبادئ الشريعة الإسلامية، لأن التمدن الأوروبي كان كالسيل الجارف لا يقف أمامه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، وكان يخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، والدعوة نفسها أطلقها الطهطاوي الذي عاين أسباب التقدم فقال إن: "مخالطة الأجانب الأغراب، لا سيما إذا كانوا من ذوي الألباب تجلب للأوطان من المنافع العمومية العجب العجّاب"، إلا أن الملاحظة العامة على دعوة خير الدين التونسي لم تبق إلا مجرد حلم؛ لأنها لم تنجح على مستوى الممارسة، عكس ما نجده عند الأمير عبد القادر. إرساء دعائم الدولة الحديثة.. كان الأمير عبد القادر يرى الدولة مؤسسات وقانون، لا دولة قبائل وعشائر وتجمعات مارقة تعود ثقافتها السياسية إلى العصور الوسطى والقديمة، وتزول بزوال السبب الذي قامت لأجله، وهذا ما يتفق تمام الاتفاق والمفهوم الحديث للدولة، فهي الذروة التي تتوج البنيان الاجتماعي المستجد وتكمن طبيعتها التي تتفرد بها في سيادتها على جميع أشكال التجمعات الأخرى.. شعب مستقر على إقليم معين، وخاضع لسلطة سياسية معينة. وهذه نظرة يتفق عليها معظم الفقهاء؛ لأنها تحتوي العناصر الرئيسة التي لا بد لقيام أي دولة منها: وهي الشعب والإقليم والسلطة. فالدولة التي أقامها الأمير كانت تضاهي الدول المعاصرة لها في الحداثة، وخصوصا في الغرب، نظرا لما اشتملت عليه من مؤسسات تنظيمية وآليات تحديثية متمثلة في الديمقراطية والعدل والمساواة، والشورى، والبيعة، واستطاعت بذلك أن تتجاوز الموروث السياسي للدولة العثمانية التي كانت تحكم آنذاك الوطن الجزائري، وأغلب مناطق العالم العربي، فكانت دولته - كما يقول عبد الباقي الهرماسي - أكثر تمركزا و تحركا وقوة، وذلك ما لم تكن عليه يوما دولة الترك». فالدولة القوية الحديثة المركزية التي بناها الأمير عبد القادر، لم تكن تلك التي تتميز بالقوة القهرية الاستبدادية المهولة التي تمارس القهر والاستبداد على رعاياها، بما تفرضه عليهم من ضرائب مثقلة لتلبية حاجياتها، لا واجبا عليها إزاءهم، بل إنها الدولة التي تمتلك تنظيمات وتشريعات للممارسة السياسية، أي أنها عبارة عن أجهزة وأدوات وآليات للعمل السياسي والاجتماعي، ولها من الوظائف وعليها من الواجبات أكثر مما لها من الحقوق، فالأمير عبد القادر، لم يمارس في دولته الوطنية نمط الدولة القهرية الاستبدادية التي ميزت الدولة العربية الإسلامية فترة زمنية طويلة، ولقد موّل الدولة بالضرائب التي فرضتها الشريعة الإسلامية فقط. وبتلك الممارسات، نجح الأمير عبد القادر في بضع سنوات في تأسيس دولة وطنية قوية كانت بحق ثورة في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي. إن الدولة القهرية الاستبدادية - من وجهة نظر الأمير عبد القادر - ليست الدولة التي تمارس الاستبداد فحسب، بل حتى التي يصل فيها الحاكم إلى الحكم عن طريق القوة. وذلك ما أدركه الأمير عبد القادر حين قال: إن أهل ناحيتنا هذه اتفقوا أشرافا وعلماء، وأهل الحل والعقد على ولايتنا وملازمة بيعتنا، وقد ارتضينا ذلك موافقة للوالد، إذ كان هو المطلوب بها، ففر منها وألزمنا إياها". ما يعني أن الأمير كان يعد الدولة الفعلية والقوية تلك التي يصل فيها الحاكم إلى الحكم بطريقة ديمقراطية برضى الشعب عليه ومبايعته؛ لأنه أدرك المفهوم السياسي المتداول في الممارسات الحديثة، وقد كان حريصا على الامتثال له. أما العقد الناشئ عن البيعة أو الانتخاب - من وجهة نظر الأمير - فهو ليس خضوعا للحاكم، وإنما هو خضوع للقانون الذي يوّحد بين الحاكم والمحكوم، وهو منشأ القوة. لذلك كان يقول بعد البيعة: "ولقبول هذه المسؤولية، اشترطنا على كل أولئك الذين منحونا السلطات العليا أن عليهم دائما واجب الخضوع في كل أعمالهم إلى نصوص وتعاليم كتاب الله وإلى الحكم بالعدل في مختلف مناطقهم". أما ما يلتزم به هو في هذا العقد، فهو الإنصاف واعتماد النوازل المشهورة، والفروع المأثورة من اتباع الكتاب والسنة والإجماع من السلف الصالح.. ألا يبدو واضحا أن هذه المسألة السياسية هي بداية الثورة لتأسيس الدولة الحديثة؟. أليس معنى هذا أن الأمير عبد القادر أدرك معنى الاختيار في الوصول إلى السلطة؟ ألا يحق لنا من هذا القول، اعتبار الأمير عبد القادر الجزائري من أوائل المفكرين والساسة العرب المسلمين الذين أسسوا نظرية الدولة الحديثة المبنية على الديمقراطية؟ التجديد الفكري.. كانت ممارسة السلطة السياسية عند الأمير عبد القادر، رغما البيعة والولاء الذي حظئ به من الجزائريين، تسير بصورة جماعية، حيث كان يشاركه فيها من هم مؤهلون للمشاركة، وهم عنده أهل العلم فقط، وكان يبعد من حوله غير المؤهلين الذين كانوا نافذين في تسيير الدولة العثمانية وهم "الأجواد"، حيث كان يقول: "كنت دوما أتحاشي استعمال الجوادة (الأجواد) وأستعين بالعلماء وأهل الدين في تسير الحكم"، وواضح هنا أن الأمير عبد القادر يميز بين نوعين من حملة المعرفة والعلم.. العلماء الذين يحملون المعارف العقلية والعلمية والعلماء الذين يحملون المعارف الشرعية الدينية، وكلاهما وجوده ضروري، والاستعانة به في تسير شؤون الدولة واجب. إن هذه المعاني الجديدة التي أسس عليها الأمير عبد القادر دولته، هي التي جعلت الأمة تتفاعل معه وتذعن له بالطاعة، ولا غرابة في ذلك - كما يقول عبد الباقي الهرماسي - فالقائد أعاد للأمة الثقة والاطمئنان. وبهذه الثقة كان الأمير عبد القادر قد أقام أول قاعدة للتوحيد الوطني على الرغم من قصر فترة تجربته". ألا يبدو واضحا أن الأمير عبد القادر هو ذلك البطل الذي اقتضته الأوضاع المتأزمة والظروف الصعبة التي كانت تعيشها الجزائر فنودي عليه، فاستجاب وقام بدوره وأدى واجبه نحو أمته ووطنه؟.. لعلّ هذا الإحساس هو الذي ألهم الشيخ عبد الرحمن الجيلالي ليصف ظروف ظهور الأمير عبد القادر بهذه العبارات: "بينما كان الشعب الجزائري كله في إرهاق وضغط والمخاطر محدقة به من جميع الجهات، تفترسه قوات الاحتلال، محتارا في شأنه لا حامي ولا مجير.. وحينما كان الناس إذ ذاك في حيرة وارتباك، إذا بصوت الضمير أن يصيح بهم من أعماق القلوب المخلصة والضمائر الحرة مناديا صارخا.. رويدكم يا قوم عليكم برباطة الجأش وثبات الجنان، وها هو بينكم البطل المقدام والسيف الصارم عبد القادر بن محي الدين، فهو منكم وإليكم فأين تذهبون، فاطمأنوا إليه وارتاحوا له. ومما لا ريب فيه، أن التاريخ يذكر بإكبار وجدارة هذا الرجل ضمن من تسنموا قمم الإنجاز مقابل قلة إمكاناتهم. بفكرهم الوقاد، فكانوا بحق رجالات دولة وأصحاب رؤى، وقد قيل بأن لكل زمان دولة ورجال. فعبّر واقع التاريخ السياسي، ورغم تعدد المفاهيم وتنوعها، نجد أن الإرهاصات الأولى للدولة الجزائرية ترتبط ارتباطا وثيقاً بهذه الحقبة من ماضيها، وأن الأمير عبد القادر يعد واحدا من كبار رجال الدولة الجزائريين في التاريخ المعاصر بل هو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ورائد مقاومتها ضد الاستعمار الفرنسي. فلسفة التجاوز الحضاري لقد استطاع الأمير عبد القادر تجاوز الممارسات السياسية التي هيمنت على العالم العربي الإسلامي في عصر النهضة أو قبله، ومرد ذلك إلى وعيه الشخصي النابع من محيطه وواقعه لأنه لم يكتب له أن سافر كغيره من العرب إلى الغرب، ولم يقم بأوروبا، ولم يتأثر بواقعها، ومن ثم فإن ما قام به كان يتم عن إدراك فكري عميق يعبر عن ملاحظاته ومعاناته ومعاناة مجتمعه، ولذلك فإن محور تفكيره لم يكن منطلقا لا من الآخر ولا من واقعه، وإنما كان منطلقا ذاتيا، يعبر عن ذات استطاعت أن تدرك ما هي عليه وما هو واقع الأمة التي تعيش فيها تلك الذات وعمل جاهدا على تجاوز ذلك الواقع بإعادة مجد الأمة قاصدا من وراء ذلك تفنيد وإبطال كل الادعاءات والمزاعم المضادة للجزائريين. لقد أدرك الأمير عبد القادر منذ البداية، أن مواجهة المحتلين لن تتم إلا بإحداث جيش نظامي مداوم تحت نفقة الدولة، من أجل ذلك أصدر بلاغا إلى المواطنين باسمه يستقضي به ضرورة تجنيد الأجناد وتنظيم العساكر في البلاد كافة، فاستجابت له قبائل المنطقة الغربية والجهة الوسطى، والتفت الجموع من حوله بالطاعة، واستطاع أن يكون منهم جيشا نظاميا سرعان ما تكيف مع الظروف المساندة، وأحرز انتصارات عسكرية عديدة أهمها معركة "المقطع" التي أطاحت بالجنرال تريزيل وصاحبه الحاكم العام من منصبهما. أما سياسيا فقد افتك من العدو الاعتراف به والتعامل معه من موقع سيادة باعتماد معاهدتي (ديميشال) في 26 فبراير 1834 و(التافنة) في 30 ماي 1837.. في هذه الفترة بالذات، وبعد أن استقر له الوضع بعض الوقت، عمل الأمير على توحيد صف مختلف القبائل حول مسألة الجهاد، وبسط نفوذه على القطر الجزائري، واتخذ من مدينة معسكر عاصمة له، ثمّ شرع في تنظيم المقاومة فاسترد ميناء أرزيو، وشرع في تنظيم الجيش ووضعه في مصاف الجيوش المعاصرة له في الدول العظمى.