القصف الجوّي أثبت فشله في النيل من التحصينات الفلسطينية تعتمد الجيوش الحديثة عادة على الضربات الجوية العقابية لتدمير الأنفاق، التي إن لم تنجح في تدمير الأنفاق العميقة، فإنها تدمّر منافذ الأنفاق المؤدية إلى السطح أو تغلقها على الأقل، ومن ثم تلغي فاعليتها، لكن ذلك لا ينجح تكتيكيا بالضرورة، خاصة في حال نقص المعلومات الاستخبارية عن مواقع الأنفاق، واستهداف مناطق كثيفة بالسكان والعمران، مثلما هي الحال في غزة، حيث أدت الغارات الصهيونية إلى دمار هائل من دون أن تلحق أضرارا جسيمة بالبنية التحتية للمقاومة، إذ إن الأنفاق الدفاعية ما زالت تؤدي دورا حاسما في المعركة، وكذلك الأنفاق الصاروخية، رغم ادعاء الجيش الصهيوني أنه استهدف أكثر من 15 ألف هدفا عسكريا بعد مرور ستة أسابيع على بدء الحرب، الأمر الذي يؤكد، كما في جولات الحرب السابقة (2008-2021)، أن سلاح الجو لا يقدر بمفرده على تحقيق المهمة المنشودة صهيونيا. الحلقة الثانية استخدم الكيان الصهيوني خلال حروبه الشاملة على قطاع غزة منذ حرب 2008 - 2009 تقنيات مختلفة لتدمير أنفاق المقاومة الفلسطينية أو تعطيلها، وهي تقنيات يستوردها بالكامل من الولاياتالمتحدةالأمريكية ولا قدرة له على إنتاجها، ويمكن تصنيفها تقنيات جوية وأخرى أرضية. تنطوي التقنية الجوية على استهداف المواقع التي يشتبه وقوع أنفاق فيها بقنابل ثقيلة، أبرزها القنابل الخارقة للتحصينات Bunker Busters والقنابل الحرارية/الفراغية Thermobaric Bombs . أما التقنيات الأرضية، فتشمل تدمير النفق باستخدام التنقيب الحركي Kinetic Drilling، وإغراقه بمتفجرات "إمولسا" Emulsa السائلة أو المياه، أو تعطيله باستخدام القنابل الإسفنجية Sponge Bombs. تنفذ القنابل الخارقة للتحصينات عميقا في الأرض، ولها قدرة تفجيرية عالية، قادرة على اختراق أشد التحصينات الدفاعية، سواء المصنوعة من الخرسانة المخلوطة بالمعدن أو المصنوعة من المعدن الخالص التي يتوقع الكيان وجودها في بنية الأنفاق. ولهذه القنابل نوعان: نوع ذو رأس متفجر واحد وصمام لتأخير الانفجار بحيث لا تنفجر القنبلة جراء الاصطدام بسبب الفتيل، ويسمح لها وزنها بالنفاذ في العمق ومن ثم تنفجر. أما النوع الثاني فيحمل قنبلتين: الأولى صغيرة هدفها إحداث حفرة، لتمكن القنبلة الرئيسة من النفاذ وإحداث أكبر قدر ممكن من التدمير". ومن هذه القنابل التي يستخدمها الكيان، القنبلة 39-GBU الموجهة الصغيرة القطر، التي تزن 129 كيلوغراما والقادرة على اختراق متر من الخرسانة، والقنبلة 28-GBU التي تزن 2300 كيلوغرام والقادرة على اختراق ما يصل إلى 30 مترًا من التحصينات، والقنبلة 84-MK غير الموجهة القادرة على اختراق 3 أمتار من الخرسانة و 11 مترا في عمق الأرض، والتي استخدمتها الولاياتالمتحدة أول مرة خلال حرب فيتنام ضد الأنفاق، واستخدمها الكيان أيضًا، وبينت خلال حربي عامي 2014 و2021، قدرتها على القتل العشوائي للمدنيين أكثر من قدرتها على تدمير الأنفاق". أما القنابل الحرارية الفراغية، فتملك قوة انفجار دائرية يبلغ نصف قطرها حوالى 300 متر، وهي تتكون من ذخيرة من الوقود الصلب وشحنتين متفجرتين وتعتمد على الأكسجين الموجود في محيط الانفجار، عكس المتفجرات التقليدية التي تتكون من خليط مؤكسد من الوقود عند وصولها إلى هدفها، تفتح الشحنة المتفجرة الأولى الحاوية وينتشر خليط الوقود على شكل سحابة تخترق أي فتحات أو دفاعات غير محكمة الإغلاق، ثم تنفجر الشحنة الثانية في السحابة، ما يولد كرة نارية وموجة انفجارية ضخمتين تخلقان ضغطاً سلبيا يفرغ الأكسجين في موقع الانفجار، ما يزيد قدرة القنبلة الحرارية على خلخلة أساسات المبنى أو النفق المستهدف وانهياره، مقارنة بالقنابل التقليدية التي تدمر الهدف من الجهة المقابلة للقنبلة وليس من كل الجهات. ولأن المحيط المستهدف يفرغ من الأكسجين، وبسبب ارتفاع درجة الحرارة المتولدة عن الانفجار، تؤدي هذه القنبلة إلى مقتل من يوجد داخل النفق أو محيط الانفجار اختناقا و/ أو احتراقا. مع ذلك، فإن اعتمادها على الأكسجين الموجود في محيط وقوعها، يجعلها غير مناسبة للاستخدام تحت الماء وعلى الارتفاعات العالية وفي الأحوال الجوية السيئة التي تنخفض فيها نسبة الأكسجين اللازمة للتفاعل الحراري". تنطوي تقنية التنقيب الحركي، على إسقاط ذخائر الهجوم المباشر المشترك JDAM، ذات صمامات التفجير المؤجلة، على فترات منتظمة على طول النفق لتدميره كليا، إلا أن التجربة بينت صعوبة ضبط الذخائر للانفجار على العمق الصحيح، ويعيق الحطام الناجم عمل تقنيات كشف الأنفاق وتحديدها. وفي السياق ذاته، تستخدم متفجرات إمولسا ذات الطابع الهلامي، إلا أن تدمير النفق المتوسّط يتطلب إغراقه 9 - 11 طنا من هذه المادة، وتأمينه فترة طويلة، مثلما هو الأمر في إغراق الأنفاق بالإسمنت أو المياه، إضافة إلى عدم فاعلية المياه في تدمير الأنفاق الخرسانية المتطوّرة. وعلى خلاف التقنيات السابقة، لا تدمر القنابل الإسفنجية الأنفاق، بل تحاول تحييد خطرها عن الجنود المتوغلين بريا. وهي قنابل غير انفجارية تحتوي مواد كيميائية بينها فاصل يزول بمجرد تفعيل القنبلة، فتندمج المواد الكيميائية مشكلة مادة صلبة إسفنجية القوام، تسدّ فتحات الأنفاق على نحو يصعب إزالتها. وحتى تكون هذه التقنية فعّالة، تحتاج إلى إيجاد كافة عيون النفق، وهي تبدو مهمة شبه مستحيلة في حالة الأنفاق الدفاعية المتعدّدة المنافذ داخل المباني وخارجها. إضافة إلى تقنيات تدمير الأنفاق أو تعطيلها، يستخدم الجيش الصهيوني وسائل أخرى موجهة نحو الأفراد داخل الأنفاق؛ فالبروتوكول العسكري الصهيوني يحظر - بصورة عامة - على القوات البرية النظامية دخول الأنفاق، تجنبا لاحتمالات القتل أو الأسر. ومن هذه التقنيات الكلاب البوليسية، والروبوتات، وسحب الأكسجين واستخدام أسلحة كيميائية مثل غاز الأعصاب الذي يشل الأفراد فترة زمنية، إضافة إلى الحصار الطويل واستمرارية الحرب، اللذين يعتقد الكيان الصهيوني أنهما قد يجبران قادة حماس ومقاتليها على الظهور إلى السطح، في حال نفدت منهم المؤونة والوقود اللازم لتشغيل المولدات التي توفّر الإضاءة والتهوئة تحت الأرض. حدود التقنيات الصهيونية يمثل الكشف عن الأنفاق عقبة أولى أمام الاستراتيجية الصهيونية تجاه أنفاق المقاومة الفلسطينية في غزة، ولا تبدو عملية تدميرها، أيضًا، أو تعطيلها أسهل. فالقنابل الخارقة للتحصينات والقنابل الحرارية، إن كانت ذات فاعلية أكبر من بين التقنيات المستخدمة في تدمير الأنفاق، فإن هذه الفاعلية تقل في جغرافيا غزة حيث تقع الأنفاق المتعددة الطبقات والمتباينة الأعماق في منطقة ذات كثافة حضرية عالية ومساحة صغيرة لا تتعدى 365 كيلومترا مربعا، ما يجعل قصف المباني عائقا أمام جهود كشف الأنفاق أو تدميرها، ويحول أكوام الركام ساترا إضافيًا في رزمة تحصينات الأنفاق. في المقابل، توفر الأنفاق العملياتية المترابطة تحت المناطق الحضرية قدرة لقوى المقاومة، على التنقل وتنفيذ هجمات دفاعية ضد الآليات العسكرية والقوات المتوغلة، باستخدام بنادق القنص والقنابل اليدوية والعبوات المتفجرة والقذائف المضادة للدروع. وتقل قدرة هذه القنابل على تدمير الأنفاق، بسبب هندسة الأنفاق ذاتها، خاصة الأنفاق اللوجيستية (الضبط والسيطرة والإمداد الداخلي والتنقل)، فهي تحفر على مستويات عميقة لتجنب الكشف والقصف، ولأنها تعتمد في معظم أجزائها، باستثناء الغرف المتفرعة، نمط البناء الضيّق بمتوسط عرض يبلغ مترا ومتوسط ارتفاع يبلغ مترين، من خلال صف الجوانب والأقواس الإسمنتية الجاهزة مسبقا باستخدام القوالب الخرسانية، الأمر الذي يجعلها أشد تماسكا ويصعب إمكانية اقتحامها والقتال فيها من جانب القوات المهاجمة. ونظرًا إلى عدم تماثل الأنفاق ولا إمكانية القياس، لاختلافها من حيث الحجم والعمق والمواد المستخدمة في البناء ووجودها في مناطق حضرية أو مكشوفة، تبدو تقنيات التنقيب الحركي والإغراق بمتفجرات إمولسا أو المياه غير عملية، كون كل نفق يتطلب معاملة خاصة، في حال نجح الكيان الصهيوني في اكتشافه، ومن ثم تحديده، فضلا عن العيوب المتعلقة بكل تقنية من هذه التقنيات. وتقل فاعلية التقنيات الصهيونية في كشف الأنفاق أو تدميرها بسبب التطور العسكري والعملياتي المستمر لقوى المقاومة التي لم تتعلم من تجارب الحروب السابقة فقط، بل استفادت من التكنولوجيات المستخدمة في الأنفاق المدنية شبكات الصرف الصحي وأنفاق المناجم والمواصلات في البلدان الأخرى، وكذلك من المعلومات الاستخبارية المفتوحة المصدر Open Source Intelligence لجيش الاحتلال الصهيوني، في تطوير تكتيكاتها الهجومية ووسائلها الدفاعية. فقد باتت شبكة الأنفاق طويلة ومعقدة، ونظمت على نحو أخذ في الاعتبار مخاطر هذه التقنيات، ومنها تصميم حفرة في بداية النفق لمنع تسرب المتفجرات السائلة أو المياه إلى مساره، وتصميم فتحات تهوئة داخل النفق تمكن من التخلص من الغازات السامة، فضلاً عن بناء غرف آمنة بجانب مسار النفق لاحتماء المقاومين، وفصل أجزاء النفق الواحد بعدد من الأبواب الحديدية التي تؤدي دورًا مهما في منع تسرب الغاز، وكسر الموجات الانفجارية، وإعاقة قوات الاحتلال في حال المطاردة أو استخدام الروبوتات والكلاب البوليسية. أضف إلى ذلك أن الأنفاق باتت تحتوي على مقومات الحياة الأساسية من مؤونة ومياه ومولدات طاقة ووسائل تهوئة، ما يعين المقاومين على تحمل إطالة أمد الحرب وحالة الحصار الناجمة عنها. لقد أصبحت الأنفاق هدفا عسكريا رئيسا للحروب الصهيونية على قطاع غزة منذ حرب عام 2014، التي أوضح خلالها الصهيوني بنيامين نتنياهو أن هدف العملية البرية هو تدمير الأنفاق"، مؤكدا الهدف ذاته في حرب عام 2021، إلا أن الأنفاق ما زالت عصية على الكشف والتدمير الكليين، رغم شن الكيان الصهيوني سبع عمليات عسكرية خلال التسع سنوات الأخيرة، الأمر الذي يثير شكوكا حول قدرتها على تدمير البنية التحتية للمقاومة، فالطبيعة الخفية للأنفاق تجعل المخطط العسكري غير قادر على تحديد المساحة الأساسية التي يصدر منها التهديد، أو تعيين الهدف المقصود أو الإطار الزمني لتنفيذه، ما يخلف فجوة معرفية تجعل تدمير الأنفاق هدفا غير معقول، إلا بعد التمكّن من القضاء على أي تهديد يخرج من الأرض أو تحتها. يعتمد الكيان الصهيوني استراتيجيا على القصف الجوي باستخدام القنابل الحرارية والخارقة للتحصينات بالدرجة الأولى. لتدمير أكبر قدر ممكن من الأنفاق، إلا أن هذه الضربات لا تساهم إلا في تدمير الأنفاق المنخفضة العمق، وسد عيون بعض الأنفاق الأخرى سواء في المناطق المكشوفة أو داخل المباني، من دون أن يساعد ذلك على تحديد خريطة أنفاق المقاومة، بل قد يعطل عمل تقنيات كشفها أو تدميرها بسبب كتل الركام المترامية التي تمثل تحصينا إضافيًا للأنفاق وتعيق إمكانية البحث عنها، فضلاً عن تكلفتها العالية في ميزان الاقتصاد العسكري من جهة، والرأي العام الصهيوني من جهة أخرى، لاحتجاز عدد كبير من الأسرى الصهاينة داخل الأنفاق: فقد قتل حوالى 60 منهم إثر القصف الصهيوني حتى يوم 4 نوفمبر 2023 بحسب كتائب القسام. ومن دون سيطرة برية كاملة على قطاع غزة بجنوبه وشماله، لن يتمكن الكيان الصهيوني من إزالة فتيل هذا التهديد الاستراتيجي؛ فكل تقنيات الكشف عن الأنفاق وتحديدها تتطلب وجود قوات بشرية على الأرض فترات طويلة، ما ينذر بحرب طويلة قادمة، إذا فشلت الجهود الدولية في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار دائم، ليس فوق الأرض فقط، بل تحتها أيضا.