لقد اختفى المسعفون من طاقم الهلال الأحمر الفلسطيني الذين توجّهوا لإنقاذ الطفلة هند رجب ابنة الست سنوات، والتي استهدف جيش الاحتلال سيارة تقلها وعددا من اقاربها في حي تل الهوى في قطاع غزة يوم 29 كانون الثاني 2024، انهمر رصاص المحتلين على السيارة واستشهد بشار وزوجته وأطفالهما، وبقيت هند محاصرة بين جثامين عائلتها، وتمكّن طاقم الهلال الأحمر من الاتصال بهند التي صرخت خائفة ومرعوبة تعالوا خذوني، تكرّر النداء حتى سمع عبر الهاتف صوت إطلاق النار لترتقي الطفلة هند شهيدة. يا هند أين رغد؟ رغد ماتت كلهم ماتوا لم يبق غيري تعالوا خذوني ظلت هند ساعات وساعات داخل السيارة تملؤها الدماء، وانتظرت هند سيارة الإسعاف التي توجّهت لإنقاذها، وعندما أصبح طاقم الإسعاف قريبا من مكان هند، انقطع الاتصال بالطاقم الذي توجه لإنقاذها، قتلت الطفلة هند رجب، واختفى طاقم الإسعاف، ربما تم إعدامهم بعد اعتقالهم، تجريدهم من ملابسهم، تكبيلهم وتعصيب أعينهم، ضربهم وإطلاق الرصاص عليهم، إخفاء جثثهم، وربما جرى اعتقال الطاقم واقتيادهم الى ذلك المعسكر الجهنمي البشع الواقع على حدود قطاع غزة، الضرب والتكسير والشتائم والاهانات، البرد والجوع وممارسة كل أساليب التوحش فوق أجسادهم كما يحدث لآلاف المعتقلين، الذين يروون شهادات مخيفة وفظيعة عن الجرائم والممارسات اللانسانية التي تحدث في السجون والمعسكرات، شهوات الانتقام المتصاعدة، التدمير والقضاء على القيم الإنسانية والحياة، وحوش مسعورة تشن حرب الإبادة الإنسانية على المعتقلين وعلى مبادئ العدالة الكونية. تعالوا خذوني أنا خائفة آلو...آلو... الطّفلة تنام قبل أن تنام لا مسافة بين الصّوت والكلام هي الرّصاصة الخاطفة تعالوا خذوني أنا أنزف دما ماذا أفعل آلو..آلو... الطفلة الجميلة هند، تنضم إلى أكثر من 12 ألف طفل قتلوا في غزة، والعدد يزداد يوميا في ظل تواصل هذه الحرب الدموية المفتوحة، أطفال في حقول من أشلاء، وازداد القتل شراسة بعد جلسة محكمة العدل الدولية، لا تدابير توقف هذا الموت، لا أحد يسمع نداءات الناس ولا استغاثات المؤسسات الإنسانية والدولية، منظمة اليونسيف تقول إن أكثر من 17 ألف طفل في غزة دون ذويهم وانفصلوا عن عائلاتهم، صور الأطفال المذبوحين الهائمين والمشردين والضائعين والأيتام تملأ الشاشة وتقارير المؤسسات الحقوقية، وما زال الأمين العام للأمم المتحدة يصرخ دون فائدة، الجميع في غزة جائعون، نزوح أكثر من مليون ونصف من السكان المدنيين، النظام الإنساني والصحي ينهار، الأوبئة والامراض تفتك بالجميع دون استثناء. تعالوا خذوني بوسعي الانتظار بين قذيفة وقذيفة بوسعي الانتظار الصّوت يرتعش بين دقيقة ودقيقة آلو…آلو... توقّف النّداء، سكت العالم، هو الصدى يرتد جسدا يحاصر بالنار، الصمت المفجوع في غزة، مسالخ للبراءة والطفولة، لا حماية دولية ولا كتاب يسمى الاتفاقية الدولية لحماية الأطفال، لم يصل طاقم الإسعاف، كل شيء ينهار، الأخلاق والضمائر التي أفرغتها سماء الحديد والاسمنت، الهيمنة الأمريكية والصهيونية التي ملأت الأرض من دمائنا وجماجمنا، لقد ماتت هند، ولم تفتح المعابر والمستشفيات، لم يصل الدواء ولا الهواء ولا التوابيت، ولا زالت هند هناك، لا زال الأطفال يتطايرون بين حمم القنابل والصواريخ، ما زال الموت ينتفض في أرض الرمال شهيقا وراء شهيق، مقابر منتشرة في الشوارع والحدائق والممرات والطرقات وفي ساحات المستشفيات، في الملاعب وصالونات الأفراح. ويتحدّثون عن صفقة ويتحدّثون عن تسوية ويتحدّثون عن هدنة لم يعثروا على الطّفلة هند أهي حيّة أم جثّة؟! سكت صوت هند، سكتت غزة، احترق كل شيء، تشرد الأطفال، ها هم يبيعون الشاي والقهوة، يفتشون عن قطع الخبز الناشفة، نسفت الأحياء والحارات والذكريات، الملاعب والمدارس والمتاحف والمسارح والجوامع والمستشفيات والجامعات، سكت التاريخ الإنساني للبشرية حضارة وثقافة وفكرا، إنها الرذيلة والعودة الى العصور البهيمية، الازدراء الكامل للإنسان، ولأول مرة نسمع السماء تبكي، هند تبكي، ولا زالت الدول الاستعمارية تعقد الاجتماعات وتجري اللقاءات والمشاورات، ما الفائدة؟ هند الصغيرة ماتت، هاتوا الأغطية، اخرجوا الجثة، غطوا الطفلة هند، غطوا غزة التي تحولت الى هيكل عظمي ومقبرة، ضروري من أجل التطهير والتنظيف والتهجير واغتيال وكالة "الأونروا" واكتمال قواعد الإبادة. آلاف الأطنان من المتفجّرات قتيل يحمل على كتفيه قتيل حليب وكالة الغوث يتخثر لن تكون خيام النزوح مفتوحة للرحيل لن ننسى ولن نغفر. تعالوا خذوني، صوت هند يدوي في كل الأروقة والمنابر العالمية، جميع أطفال العالم يتعرّضون للموت الآن، من لم ينقذ هند لن ينقذ أطفاله في أي زمان ومكان، من يحاصر غزة ويتركها لهلوسات المجرمين والشاذين من ابن غفير حتى نتنياهو والحلف الأطلسي لن يستطيع أن يحمي نفسه من الموت والاعتقال، إنه اجتياح للانحطاط العالمي، البرابرة وصلوا كل بيت وخلعوا كل باب، لن يستطيع الشعراء أن يكتبوا قصيدة حب لامرأة، أو أن يجلسوا في حديقة هادئة، ولا أن يتذكّروا أنّهم كانوا أطفالا في أية لحظة. يبكي هذا الطّفل بحسرة: بدي ارجع أمسك ايدي كان لي يدين وكفين وعشرة أصابع من يدلني على يدي المبتورة. تعالوا خذوني، لم يسمعها المؤتمرون في باريس، ما زالوا مشغولين في مخطط ما بعد غزة، يرسمون حدود السيطرة والهيمنة وتوسيع احزمة النيران، وعلى مهل ستكون هناك دولة، بين مقبرة ومقبرة، بين حاجز عتصيون وحاجز حوارة، وعلى مهل ستتقلص أعضاء الكينونة، قطعة قطعة، وستكون دولة ممزقة لا تصلح للعيش، دولة خارج مدى صوت الطفلة هند، دولة لا شهود فيها يشيرون الى العصابات والمافيا والقتلة، وعلى مهل، فإن لم يموتوا بالقنابل سيموتوا جوعا وقهرا وبردا، وعلى مهل إن لم يموتوا في اليأس سيموتون في السجن والعتمة. تعالوا خذوني من لم يستطع أن يدخل الكاز والبطاطين الى غزة كيف يستطيع أن يعطيني دولة! من لم يستطع أن يعيد جثتي من الثلاجة الباردة كيف يستطيع أن يعطيني روحا وأغنية؟ ولا أدري لماذا يتلهفون للحديث عن دولة فلسطينية بعد كل حرب أو انتفاضة أو مقاومة، وبعد 76 عاما من الاحتلال والاستيطان والسلب والنهب والبشاعة العنصرية، أحاديثهم حامية الآن ولكن غاياتهم باردة، أو لأنهم لم يروا راية بيضاء ولا خنوعا وتنازلا واستسلاما، رأوا فدائيا حافيا يجمع بين البطولة وقراءة الفاتحة. الحمد لله "أنا جريحة ولست شهيدة"، تقول طفلة أخرجوها من تحت الأنقاض، التفتت حولها فلم تجد عائلتها، نظرت إلى السماء طويلا بعيون دامعة، أين الرحمة وكل من حولي يسكن في فراغ القنبلة، لكن الطفلة هند لا زالت على خط التلفون، تعالوا خذوني، انقطع الاتصال، انقطع الحاضر عن الأبد، يا إلهي ماذا تبقى من حدود الأرض ومن أسلحة حتى تتوقف الحرب ويعود الاتصال بين ملكوت الأرض والسماء، يا إلهي فلسطين تنفجر أحلاما وشهداء، وهند تريد أن تحيا قليلا لترى البحر والحرية وإن كانت بحجم جمجمة. وهذا الطّفل قلعوا عينه اليسرى أرجوك يا دكتور أعد لي عيني الثانية ازرع لوجهي العظم واللحم بلا تخدير حتى لو انهمر الدم. آلو..آلو...تعالوا خذوني، أنا هند، أنا هنا وأنا هنا، تراخى الصوت، اختفى طاقم الإسعاف وتشظى الوقت، فهل في هذا الشتاء ما يكفي لكي نزرع حقول الجثث، نتجرع الموت لكي نتجرع الأمل. * بعد 12 يومًا: العثور على جثمان الشهيدة الطفلة هند رجب (6 سنوات)، وخمسة من أفراد عائلتها (خالها بشار حمادة وزوجته وأطفاله الثلاثة)، بعد محاصرة المركبة التي كان تقلهم في منطقة تل الهوا جنوب غرب مدينة غزة.