حلّت الذّكرى ال232 لتحرير وهران والمرسى الكبير من الاحتلال الإسباني، وهي تصادف 27 فيفري 1792م؛ باعتباره أحد أهم الأحداث التاريخية المحفورة في أذهان أجيال متعاقبة، لما تحمله من دلالات عميقة ودروس بليغة من بطولات عظيمة وتضحيات جسام على درب الكفاح الجزائري، من أجل الاستقلال والحرية.. أفاد الباحث في التاريخ والمرشد السياحي، بن يوب اسماعيل، أنّ "ذكرى التحرير الثاني والنهائي لوهران والمرسى الكبير من الاحتلال الإسباني 1206ه/1792م، ليست مجرد حدث تاريخي، وإنّما تمثل كفاحا حقيقيا خاضه شعب مضطهد، قاوم المدافع الإسبانية وحصونها المنيعة من أجل إسترجاع وهران إلى الحاضنة الجزائرية، وطرد المحتل نهائيا من معاقله بوهران"... محطات مضيئة في مسار الكفاح التحرّري وأوضح بن يوب في تصريح ل«الشعب" أنّ "السياق التاريخي لهذا الحدث العظيم، احتل حيزا كبيرا، لدى أشهر الكتاب والمؤرّخين العرب، وذلك لمكانته الفكرية والدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية، حتى أصبح السمة البارزة في تاريخ وهران، لما جسّد من انتصار لإرادة الجزائريينبوهران والمتطوّعين من مختلف جهات الوطن الذين أعطوا الإسبان المحتلين درسا في الوطنية الحقّة". واعتبر محدّثنا أنّ "ذكرى تحرير عاصمة الغرب الجزائري من الإسبان عام 1792، أثرت عميقا على كلّ الوطن العربي والعالم الإسلامي، وسيبقى يوم التحرّر خالدا بوجداننا، وشاهدا على إحدى المحطات المضيئة في تاريخ التحرّر والوحدة، كيف لا؟ - يتساءل محدّثنا ويستطرد - لقد كان ذلك اليوم منبعا للروح القومية والولاء للوطن، في وقت تنامت فيه سموم الأطماع الغربية في البلاد الإسلامية". وقال بن يوب إنّ هذا الحدث العظيم، لم يكن تحقيقه أمرا سهلا ولا هينا، بل كان ملحمة كبرى وحربا عظيمة، لقّنت المحتل درسا في الإرادة والعزيمة، وكلّ معاني الشجاعة والصمود أمام السياسات الظالمة، التي أنتجها المستعمر المستبد للقضاء على مقوّمات الهوية العربية _الإسلامية وغرس جذور مجتمع صليبي في أراضيها". واسترسل يقول: "بتخليد هذه الذكرى المجيدة، تستحضر وهران السياق التاريخي لهذا الحدث العظيم، وقد عانت الأمرين من أجل التحرّر والاستقلال حتى وصف مؤرّخو تلك الحقبة التاريخية المهمة، ممّن عاصروا الحدث على أنّه "فتح" وليس تحريرا، تشبيها وتيمّنا بفتح رسولنا محمد عليه ألف صلاة وسلام لمكة وفتح السلطان محمد الفاتح للقسطنطينية وأخيرا الباي محمد بن عثمان الكبير لوهران عام 1792م". ووفقا للمصدر، ف«بعد سقوط غرناطة، آخر دويلات الأندلس عام 1492، بدأ العدوان الصليبي بملاحقة المسلمين إلى شمال إفريقيا، ومن بين هذه المحاولات، حملة الدوق "دومينا سيدونا" عام 1497؛ فقد ظلّ هذا الأخير طيلة أشهر يجمع أسطولا بحريا ضخما، من أجل الهجوم على وهران التي وضعها الإسبان نصب أعينهم، كونها واحدة من أهم المدن الإستراتيجية بموقعها القريب من إسبانيا وحيازتها على الميناء التجاري المرسى الكبير الذي أطلق عليه الرومان اسم "الميناء الإلهي"، كما وصفه أبرز المؤرّخين والعلماء الجغرافيين في العصر الوسيط بأنه فريد، ليس له مثيل في سائر حوض البحر المتوسط، وأخيرا كون وهران، كانت الملاذ الرئيسي للأندلسيين للنجاة من محاكم التفتيش الإسبانية". وباءت حملة الدوق"دومينا سيدونا" بالفشل، وتمكّن أسطول وهران من صدّ الحملة التي أعدّ لها العدّة والعتاد لأشهر عديدة، حتى إنّ الدوق "سيدونا" شعر بالذلّ والهوان، ولم يهضم تلك الخسارة أمام أسطول وهران، فعرّج لاحتلال مناطق بالجوار، ما تزال تحت الاحتلال الإسباني منذ أيام هذه الحملة، لكن الجيش الإسباني بقيادة الكاردينال "فرانسيسكو خيمنيس ذي سيسنيورس" عاد من جديد واستطاع احتلال منطقة المرسى الكبير عام 1505، بعد مقاومة شعبية وهرانية باسلة". وبعد أربع سنوات من الصراع المتواصل – يقول محدّثنا – تمكّن الإسبان من التوغّل عبر أسوار وهران، بعد الخيانة التي تعرّضت لها المدينة من طرف أحد حراسها، وهو أندلسي من أصول يهودية؛ حيث فتح باب البحر للإسبان خلسة، فكانت نتيجة هذه الخيانة مجزرة في حقّ أهالي وهران، الذين قتل منهم أكثر من 4 آلاف شخص، وأسر ما يزيد عن 8 آلاف آخرين، سيقوا عبيدا إلى إسبانيا، حتى إنّ المؤرّخين وصفوا هذه الحادثة بالمأساوية، وقالوا إنّ شوارع وأزقة قصبة وهران أصبحت حمراء بدم المسلمين، وشبّهت الحادثة بمحرقة "هولاكو بغداد".. يومها، أصبحت وهران في قبضة الإسبان". ولم يكتف الإسبان بالمدينة – يقول المتحدّث - بل كانت هناك محاولات عديدة للاستيلاء على المدن والقرى المجاورة، وقد وقعت عدّة غزوات ومعارك، قام من خلالها الإسبان بالاستيلاء على خيرات جوار المدينة، وسرقة ما تبقى من ممتلكات أهالي وهران الفارين من المدينة لاجئين إلى البوادي، فسرقت الحليّ وكلّ ما له ثمن، بل وصلت جرائم الإسبان إلى خطف الأطفال لاستعبادهم وبيعهم في مختلف الأسواق عبر العالم". وبعد معارك عديدة وحصار شديد من طرف المسلمين، تمكّن المسلمون من التغلّب على الإسبان وتحرير المدينة بقيادة الباي بوشلاغم عام 1708م، لكنّ فرحة الحرية لم تدم إلا 24 سنة، فقد عاد الإسبان مرة أخرى بجيش مضاعف ودعم كبير من الكنيسة الإسبانية، وذلك عام 1732، فلم يستطع الباي بوشلاغم الصمود في وجه الصليبيين، ما جعله يفقد وهران من جديد ومعها أحد أبنائه الذين شاركوا في واجب الدفاع عن المدينة، فقد سقط ابنه شهيدا وانسحب الباي بوشلاغم إلى مدينة مستغانم، وبقي هناك متحسرا على فقدانه وهران، حتى قيل أنّه توفي غيضا بين 1734-1736". هكذا أصبحت مدينة وهران أسيرة في يد الإسبان مرة ثانية، وبقي الجزائريون مرابطين بها، وصارت الحرب سجالا، مرة تكون الغلبة للجزائريين ومرة للإسبان، إلى أن تم تعيين الباي محمد بن عثمان الكبير سنة 1779، فجعل تحرير وهران نصب عينيه، فحاصرها مدّة 10 سنوات وأصلى الإسبان بها نارا حامية، على حدّ تعبير الكاتب الذي عاصر الحدث، مسلم بن عبد القادر الوهراني، وهو مؤرخ بايات وهران". إلى ذلك، نادى الباي محمد بن عثمان الكبير، الجزائريين للجهاد، واستطاع في ظرف 15 يوما جمع 50 ألف مقاتل، ما مكّنه من فرض حصار شديد على الإسبان المتحصّنين وراء أسوار وهران المنيعة، لكن هذا لم يمنع الجزائريين بقيادة الباي الكبير من تحرير المدينة وطرد الإسبان نهائيا، ليدخل المدينة مرفوع الرأس، مقدّما على جيشه مجموعة من الطلبة والعلماء مردّدين البردة، حاملين في أيدييهم صحيح البخاري، وبذلك عادت وهران إلى الحاضنة الجزائرية من جديد". تاريخ تعتزّ به الأجيال.. وبعدما أخذنا الباحث والمرشد السياحي بن يوب اسماعيل، في رحلة تاريخية مثيرة وممتعة، عاد هذا الثلاثيني المهووس بالتاريخ ليؤكّد أنّ "شهر فيفري عزيز على قلوب الوهرانيين، وبشكل خاص المختصين في هذا المجال، وحتى الهواة، ففي كلّ سنة من هذا الشهر المبارك، يحيي أهل هذه المنطقة المباركة ذكرى تحرير وهران من الاحتلال الإسباني الصليبي، بعد صراع وحروب دامية قاربت 300 سنة"، مبرزا في الوقت نفسه أنّ (الصراع الفعلي بين الجزائريين والإسبان بوهران، منذ سقوط غرناطة سنة 1492، وصولا إلى تحرير المدينة الثاني والأخير عام 1792". واستدلّ محدّثنا بكبار المؤرّخين لأجيال سبقتنا، قائلا إنّ "هذه العادة الحميدة، قد عمل على إنجاحها العلامة المصلح فضيلة الشيخ الطيب المهاجي، منذ سنوات الأربعينات من القرن الماضي، حيث كان يقوم بجولة ميدانية مشيا على الأقدام إلى الأماكن التي تزخر بالأحداث التاريخية لاستنطاق ذاكرتها من الرباطات الموجودة بوهران القديمة، بدءا من رباط إيفري، وصولا إلى رباط المايدة بجبل مولى عبد القادر الجيلالي". وواصل قائلا: "إنّ هذه العادة اندثرت وغابت عن جيل الاستقلال، ليعيد إحياءها سيناتور وهران السابق والمجاهد المرحوم زاوي جيلالي، وبالضبط في التسعينيات، بما أنّ هذا الأخير ابن حي بلونتار العريق، ويعي جيدا القيمة التاريخية للمكان خلال فترة الصراع بين الهلال والصليب على وهران". وأضاف أنّه "اجتهد كابن بار لوهران، رفقة مجموعة ناشطة في المجال الثقافي، والمعروفة باسم مجموعة "أرسام وهران"؛ لإعادة إحياء التراث الوهراني المنسي ونفض الغبار عنه.»، مبينا أنّ "هذا الفريق الذي يتكوّن من شباب جامعيين في مختلف التخصّصات، بدأ النشاط الفعلي منذ 5 خمس سنوات، وقد استهل عمله بالتعريف، ثم الترويج لهذا الحدث الكبير بتاريخه ورجالاته". ونوّه محدّثنا بعديد الخرجات السياحية التي نظمتها المجموعة، رفقة مختلف أطياف المجتمع المدني والحركة الجمعوية بوهران وخارجها، بهدف تقفّي أثر السلف الصالح من رباطات وأماكن جرت فيها معارك وحصارات وشهدت خسائر بشرية من الطرفين، ومنها رباط سيدي محمد بن عودة، رباط إيفري، رباط جبل المايدة، دون أن ننسى منطقة السانيا، جنوبوهران، أين يرقد بمقبرة منسية أكثر من 200 طالب، قدموا من مختلف مناطق الغرب الجزائري (معسكر - مازونة_غليزان وندرومة )، وفق تعبيره. وجدّد بن يوب التأكيد على أنّ "هذه التظاهرة الثقافية التاريخية الهامة، أصبحت جزءا لا يتجزأ من تفكير الناشط الثقافي والأكاديمي المختص، حيث أنّ كلية العلوم الإنسانية والعلوم الإسلامية لجامعة وهران، حملت على عاتقها إحياء هذه المناسبة الوطنية التي أدرجت ضمن أنشطتها السنوية، ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل حتى أبناء الجيش الشعبي الوطني، يشاركون بقوّة في هذه الخرجة بمرافقة الأساتذة الجامعيين". 27 فيفري عيدا وطنيا.. لم لا؟! وعرّج الباحث بن يوب اسماعيل إلى بيان فضل ترسيم 27 فيفري، كعيد وطني قائلا: إنّه مطلب جماعي وخيار صائب، كيف لا وهذا الحدث يعدّ صفعة قويّة لكلّ من تطاول على الجزائر وادّعى أنّ تاريخها يبدأ من 1830، أيّ تزامنا مع احتلال بلده للجزائر، متناسين أنّ آثار أقدم رجل في شمال إفريقيا متواجدة في موقع تيغنيف بولاية معسكر..