يدخل قطاع الثقافة على غرار مختلف القطاعات الأخرى مرحلة ترشيد النفقات العمومية لكن دون المساس بوتيرة النشاطات التي تخضع مستقبلا إلى «حوكمة» في التسيير وفقا لمعيار النجاعة، مثلما أكده الوزير عز الدين ميهوبي بمنتدى «الشعب»، تفاديا لأن تقع الثقافة ضحية ممارسات سابقة لطالما استنزفت الموارد. ولعل الرهان على الثقافة ضمن المعالم الاقتصادية يكون احد الجسور التي تقلل من حدة الصدمة المالية الخارجية التي تلوح في الأفق في ضوء الانهيار العنيف الذي تعرفه أسواق المحروقات، مما استدعى اللجوء مبكرا إلى إجراءات لترشيد الإنفاق المالي العمومي بالدرجة الأولى وحتى المال الخاص في إطار التضامن الوطني لمواجهة التداعيات. وهي تداعيات تضرب في طريقها كل قطاع لم يضبط ورقة الطريق للنجاة ولو بأقل الأضرار من مخالب الظرف المالي الصعب الذي بقدر ما لا يدعو إلى الهلع بقدر ما يتطلب أيضا التزام الحيطة واليقظة المالية لضمان التوازن وتفادي الدخول في نفق التقشف الذي أول ما يسقط القطاعات غير الإنتاجية. ولذلك يحرص وزير الثقافة على أن يحقق لقطاعه أفضل فرص الإفلات كي لا يكون الضحية السهلة وذلك باللجوء إلى إعادة ترتيب الأولويات والانفتاح على بدائل ممكنة تحقق تمويلات مختلفة توفر للفعل الثقافي الديمومة بل وقد يتحول هذا المجال إلى مورد اقتصادي يدر مداخيل من خلال تنمية الإنتاج الأدبي والمسرحي والسينمائي وعقلانية تنظيم المهرجانات. وينطلق في ذلك من تشخيص جريء للوضع الراهن ومخلفات مراحل سابقة تحتاج اليوم إلى تقويم يرتكز على الإبقاء على الجوانب الايجابية وإزالة كل ما يمثل تهديدا للتوازنات المالية لقطاع يعيش على ميزانية الدولة في حين يتوفر على أوراق قوية تعطيه المناعة اللازمة بالانتقال إلى مرحلة قوية في تسطير البرامج والنشاطات وإخضاع كل العمليات التي تدخل في نطاق المجال الثقافي إلى تدقيق صارم بما يحمي الفعل الثقافي المتنوع ومهما كان وطنيا أو محليا من أي طارئ بل ويعطيه الطاقة للاستمرار والانتشار أكثر على مستوى ربوع البلاد. وتوجد اليوم مساحة رحبة تحتمل كافة التوجهات بالموازاة مع خيارات اقتصادية مندمجة تقوم على الشراكة الوطنية والأجنبية ضمن قواعد الشفافية مما يمنح لهذا القطاع الفرصة المواتية للتكيف مع المستجدات دون فقدان مركزه في المشهد الوطني، بدءا من ضرورة استرجاع قاعات السينما وتأهيلها وفقا لدفتر شروط دقيق واستقطاب الإنتاج الفكري والأدبي وتوظيفه في السوق الثقافية بشكل ناجع بما في ذلك الرفع من قدرات إنتاج الكتب التي تجد صدى في السوق والحرص على بقاء نبضات الثقافة في كل أرجاء الوطن لتمكين الإبداع الخلاق من البروز والاندماج في الديناميكية الاقتصادية من خلال الاستثمار في الرأسمال الثقافي الواسع وتحويله إلى منتوجات تطلبها السوق محليا وإقليميا وعالميا أيضا وتنافس غيرها من خلال القيمة المضافة. وفي هذا الإطار يرتقب أن يتم إلقاء جسور التعامل مع الفضاء الاقتصادي الواسع لتكون الثقافة احد حلقات سلسلة التنمية المستدامة لا تقل أهمية عن الصناعة والفلاحة بل تتحول إلى طاقة تحرك وتيرة النمو خاصة في مجالات قريبة منها كالسياحة والصناعة التقليدية والبيئة والخدمات التي يمثل فيها الكتاب والمسرح والفيلم والفن المختلف الألوان من طرب ورسم ونحت المادة التي تعطي قيمة مضافة للنمو بالمعنى الشامل. ومن هذا المنطلق لم يعد القائم على الشأن الثقافي عبر الولايات مجرد موظف يلتزم بمهام تقليدية بيروقراطية بقدر ما هو مطالب اليوم بالانفتاح على المحيط الاقتصادي والاجتماعي- كما تفعله الجامعة تجاه المتعاملين الاقتصاديين والمؤسسات الزراعية والصناعية والبنوك- للحصول على العناصر اللازمة لانجاز الأهداف المسطرة حتى تستمر الثقافة رافدا للتنمية البشرية المستدامة.