دعا الشيخ مأمون القاسمي في هذا الحوار الذي خص به "الشروق"، العلماء في الجزائر إلى ضرورة العمل على حماية المرجعية الدينية للجزائريين من الأفكار الدخيلة التي تسبب الفتنة بين المسلمين، وقال في معرض رده على المقال المثير للجدل الذي نشره زعيم المدخلية في الجزائر الشيخ محمد علي فركوس إن هذا الأخير يمثل فكرا إقصائيا. كنتم من بين العلماء الذين ردّوا على كلمة للشيخ فركوس نشرها في موقعه الرسمي؛ وأخرج بها، أتباع العقيدة الأشعرية، وأتباع الزوايا والطرق الصوفية، وغيرهم من الفرق الإسلامية، من أهل السنة والجماعة. فما هو تعليقكم على ذلك؟ هذا كلام يعبّر عن الفكر المتطرّف الإقصائي. ومثل هذا الخطاب يتكرّر بثّه ونشره في مؤسّسات دينية، وفي منابر علمية، وعبر الوسائل الإعلامية، وتؤكّده رسائل جامعية مازالت تناقش وتؤهّل، بالاعتماد على مرجعيتها الفكرية والعلمية. إنّه الفكر الذي لم يصّدر للأمّة سوى مزيد من عوامل التفرّق والتمزّق؛ فضلا عن جفاف الأرواح، واختلاف القلوب، وتزهيد طائفة من المسلمين في حبّ نبيهم، والتأسّي بقدوتهم، وحجبهم عن مصادر النور كي لا ينفذ إلى قلوبهم. إنّ شرّ الفتن في مجتمعات المسلمين مصدرها هذا الفكر الذي يفرض تأويلات خاطئة للدين؛ ويكفّر السّواد الأعظم من المسلمين؛ ويزعم منظّروه ومروّجوه امتلاك الحقيقة، وأنّهم، دون سواهم، على الحقّ والهدى، وغيرهم على باطل وضلال؛ ومن ثمّ، فإنّهم وحدهم الفرقة الناجية. إنّ هذا الفكر هو الذي يتغذّى منه التيار التكفيري؛ ومافتئ يحدث الفتنة بين المسلمين؛ ويستقطب المغرّر بهم والجاهلين بالدين؛ وما حلّ بأرض إلاّ أصابها شرّه، وتعاظم فيها خطره. لقد تبيّن لكلّ ذي لبّ، بعد سقوط الأقنعة، أنّ هذا الفكر هو ما تعتمده مرجعا حركات متطرّفة، وتنظيمات إرهابية، وأنّ ما يسمّى داعش وأخواتها في الواقع الراهن، وكذلك أمّهاتها ومثيلاتها في الزمن الماضي، إنما هي نتاج هذا الفكر، كما هي صناعة مخابر الغرب. والنتيجة الماثلة أمامنا: فتن وحروب ودمار في ديار المسلمين، ومحن أصابت مجتمعاتهم، فأنزلت عليها مطارق الهمّ والشقاء؛ وانحرفت بها عن طريق الرشاد؛ وحرمت كثيرا من أبنائها الرؤية الصحيحة، فتاهت في وادي الدموع والدماء، وفي ظلمات الجاهلية؛ ومازال بعضها يعيش فترة رعب وفزع، يطاردهم الموت، ويحاصرهم إرهاب مدمّر للسّلم الاجتماعيّ، مدمّر لتماسك النسيج الاجتماعي. هل تعتبرون هذا من التعصّب المذهبي، وكيف تنظرون أنتم إلى التعامل مع المخالف؟ كان الأحرى بهؤلاء أن يتجنّبوا إثارة الشبهات، واتقاء الفتنة بين المسلمين، وكلّ ما يفضي إلى الفرقة التي ينهى عنها الإسلام؛ وليس ذلك من دأب العلماء والدعاة الذين يتعيّن عليهم العمل لإشاعة روح التسامح، تأليفا للقلوب، وجمعا للكلمة؛ مع التركيز على مواضع الاتّفاق، للاجتماع حولها، والتغاضي عن مواضع الاختلاف، لتحاشي مساوئها؛ تأسّيا بالسلف الصالح، في التعامل مع سنة الاختلاف، والالتزام بأدب الاختلاف. نحن ننظر إلى الاختلاف نظرة الإسلام إليه، باعتباره اختلاف تعدّد وتنوّع وتكامل؛ ولا ينبغي أن يتحوّل الاختلاف في الرأي، أو المنهج، أو المذهب، إلى اختلاف تعصّب وتناحر وتخاصم. فالإسلام، كما يقبل الاختلاف، يمقت الغلوّ والتعصّب وإقصاء الرأي الآخر. ولا يجوز لأحد أن يزعم العصمة لرأيه، أو يدّعي الكمال لمذهبه أو منهجه أو طريقته؛ فكلّ يؤخذ من كلامه ويردّ، إلاّ المعصوم؛ كما جاء عن الإمام مالك،. وكلّ مجتهد قابل لأن يصيب أو يخطئ؛ وهو في الحالين مأجور. وأقصى ما يقول عن نفسه ما يروى عن الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". في كلمة شيخ السلفية في الجزائر، أدرج الأشاعرة والصوفية وغيرهما من الفرق والطوائف الإسلامية ضمن الفرق الضالة، واعتبرهم جميعا من المبتدعين والمنحرفين. فكيف تنظرون إلى تداعيات هذه الكلمة؟ هذا كلام خطير، وضرره بيّن على مرجعيتنا الدينية، وعلى تماسك المجتمع ومقوّمات وحدته وانسجامه. وفي تقديري أنّ من واجب العلماء أن تكون لهم كلمتهم في هذا الشأن؛ ويتعيّن على الهيئات الإسلامية في الجزائر أن يكون لها موقفها الحازم، حفاظا على وحدتنا الدينية الجامعة. فالعقيدة الأشعرية هي مذهب الجزائريين، مند أن أنار الله أرض الجزائر بهداية الإسلام؛ مثلما هي مذهب أهل السنة والجماعة. وقد عرفت انتشارا واسعا في العالم الإسلاميّ، أكثر من أيّ مذهب سواها؛ وساعد على ذلك عوامل وأسباب، من أهمّها: الوسطية، التي تميّزت بها الأشعرية. فقد عرفت بتوسّط فكرها، بين مدرستي العقل والنقل. ولا ريب أنّ المنهج الصحيح يجمع بين نور الشرع وأداة العقل، باعتبار العقل سبيلا لاستنباط الأحكام التشريعية، وإدراك مقاصد الشريعة وغاياتها السامية. وممّا ساعد على انتشارها في أرض الإسلام اعتماد مذهب الأشاعرة في كبريات المعاهد العلمية، في البلدان الإسلامية، وتدريس العقيدة الأشعرية، دون غيرها، في أكبر المنارات الإسلامية، في العالم الإسلامي، كالأزهر في مصر، والزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والزوايا العلمية والمنارات القرآنية في الجزائر، وفي شنقيط والسودان، وغيرها من البلدان. وماذا عن التصوف والزوايا. وقد ورد في كلمات الشيخ فركوس ما يثير الشبهات بشأن الزوايا وأتباعها. فماذا تقولون بهذا الصدد؛ باعتبار الزوايا موطنا للتصوّف والحياة الروحية؟ إنّ ممّا يجب أن يعلمه الناس أنّ التصوّف هو روح الإسلام، وحقيقة الإيمان، ومقام الإحسان؛ والمحروم منه محروم من أهمّ ثمرات الإسلام. التصوّف عقيدة وإيمان، وعلم وعمل، وتربية ودعوة، وأدب ومحبّة، وعبادة ورياضة. إنه حياة روحية صافية، واستقامة على الطريق، وسلوك عمليّ على طريق المراقبة والمجاهدة. تلكم هي حقيقة التصوّف، بصورته الناصعة، وتلكم هي الحياة الإسلامية المتكاملة، التي توازن بين المادة والروح؛ بل تتجاوز المادة إلى الروح، والدنيا إلى الآخرة؛ وترتفع بالإنسان المخلوق إلى معرفة خالقه وعبادته ومحبّته، وإيثاره على كلّ ما سواه، عن طريق تزكية النفس ومجاهدتها في الله، حتى يهديها سبيله، وتنتصر على أهوائها وشهواتها الظاهرة والباطنة. ومواطن التصوّف، كما ورد في سؤالكم، هي هذه القلاع الربانية التي أسّست على التقوى من أوّل يوم. إنها زوايا العلم والقرآن، ومعاقل التربية والجهاد، التي عمرها الصالحون لإقامة دين الله، وخدمة كتابه، ونشر دعوته، وإصلاح النفوس بهدايته؛ وتسخّر جهودها لنشر قيم الإسلام ومبادئه. إنها قلاع الإسلام الحصينة، التي حفظت لأمّتنا قيمها الروحية والوطنية؛ ودفعت عن شعبنا مخاطر التنصير والتغريب؛ وحصّنت الأجيال من عوامل المسخ والذوبان، ووقفت سدًّا منيعا في مواجهة مخطّطات الاحتلال. إنّ هذه المعاقل الحضارية هي الّتي تخرّج منها العلماء والدعاة، والفقهاء والقضاة؛ فمثّلوا في المجتمع قيم الإسلام ومبادئه، في شموله وتوازنه، وفي وسطيته وسماحة دعوته. وذادوا عن عقيدة الأمة؛ ونافحوا عن ثوابتها ومقوّمات شخصيتها؛ وانطلق منها قادة المقاومة وطلائع المجاهدين، من عهد الأمير إلى ثورة التحرير؛ فخاضوا معارك الجهاد، وجعلوا غايتهم تطهير أرضهم من دنس المحتلّين، باذلين ما يملكون في سبيل الله، إعلاء لكلمة الله. إنّ الزوايا التي نعنيها هنا، وهي موطن رسالتنا، عمادها العلم والمعرفة؛ وتمتزج في رسالتها الروح الوطنية بالروح الدينية الإسلامية؛ وهي كما يتّضح لكلّ دارس نزيه رسالة حضارية، ارتبط بها تاريخ الجزائر العلميّ والثقافي، وتاريخها الوطني الجهاديّ، ارتباطا وثيقا؛ ولا ينكر ذلك إلاّ جاحد أو حاسد. وقد عمل خصومها في الماضي لعزلها عن الجماهير الواسعة الملتفّة حولها؛ ومازالوا يسعون لذلك؛ ولا يألون جهدا من أجل تشويه صورتها، والنيل من سمعتها ومصداقيتها، والطّعن في شرف رجالها. ومما لا شكّ فيه أنّ خصوم اليوم سيذهبون، إن شاء الله، كما ذهب من كان قبلهم؛ وتبقى الزوايا، بإذن الله، قلاعا شامخة حصينة؛ وتظلّ مصابيح للمؤمنين، هادية للسعادة في الدارين، تُصلح بين الناس وتؤلّف بينهم، وتوطّد أواصر المحبّة والإخاء في مجتمعهم. هذا هو خطابنا بالأمس واليوم؛ فإنّ أكبر همّنا أن يعود مجتمعنا إلى وضعه الصحيح، أسرة واحدة، تجمعه المحبة، ويسوده الإخاء ويظلّه التضامن والتعاون على البرّ والتقوى. وتلكم هي غايتنا من الدعوة إلى حياة روحية صافية، أساسها تقوى الله، وحبّ الخير، والتعاون عليه.