إبّان القرن العاشر بلغت سلطة خليفة قرطبة مساحات واسعة من شبه الجزيرة الايبيريّة. وكانت عاصمة مقرّ اقامة و سلطان الحكم الثّاني هي أكبر وأفخم عاصمة في أوربَّا. فرض السّلام على نصارى الشّمال. وبعث في طلب العلماء من جميع أصقاع الأرض. حقبة اسلاميّة طويلة كانت ستبدأ في غرب أوربَّا… جلست نسوة وصبايا الرّبض على ضوء مصباح زيتيّ، وفي أيديهنَّ بيضات زجاجية يصقلن بها لفائف رقٍّ برديّ جاء به التّجار من مدينة الاسكندريّة بمصر. ثمّ مددن أيديهنَّ و تناولن الرِّيشة، وقبل أن يبدأن في النّسخ نظرن مرّة أخرى في الكتاب الّذي بين أيديهن، ثمّ استغرقن في نقله بعناية جملة فجملة. ليخيّم الصمت فلا تسمع إلاَّ وقع الأقلام على رقّ البرديّ. إنّ عليهنَّ نقل آيات القرآن الكريم الى مصاحف جديدة، ولا تحتاج الماهرات منهنَّ من أجل ذلك لأكثر من أسبوعين. لكنّهن لم يكنّ ينسخن الكتب الدّينيّة، ولكن كنّ ينقلن أسفارالطّبّ والفلسفة والفلك أيضًا. هكذا بدت الحياة الثّقافية في قرطبة جنوب شبه الجزيرة الايبيريّة ابّان القرن العاشر الميلادي، وهكذا تمَّ جمع معارف العالم وعلومه، التي سبق وأن نُسيت في كلّ مكان آخر. وهكذا بدا العلماء المسلمون يترجمون الى العربيّة كتب أرسطوطاليس، و بروليماوس وحتّى التلمود العبريّ. ويؤلّفون المقالات و الأبحاث عن الأمراض وعلاجاتها، وطرائق العمليّات الجراحيّة، والظواهر الطبيعيّة، والأجرام السّماويّة. في أحد أرباض قرطبة ليس بعيدًا عن قصر الخليفة كان هناك أكثر من 170 امرأة يشتغلن في نسخ النّصوص والمقالات، وفي ربضٍ ثانِ احتكرت ساكنته صناعة الرَّقّ فعرضوا أجود سلعهم من جلود عجولٍ ملساء الوجه، برّاقة المظهر قبل أن يزاحمهم التّجار الذين أحضروا الى الأندلس من دمشق منذ زمنٍ ليس بالطّويل سلعة خفيفة (الورق) هي ألأَم لأعمال الكتابة وأنسب. ومثلها مثل روماوبغداد والاسكندريّة كان في دار كلّ عائلة قرطبية ثريّة مكتبةً، غير أنَّ أوسعها كانت بقصر الحكم الثّاني، الّذي دأب على المطالعة وجمع الكتب وهو صغير السّن، فكان يبعث الى بلاد الرَّافدين في طلب ما ندر من المخطوطات، وعندما ينتهي من قراءتها يسجّل على هامشها ملاحظاته وأفكاره. تقول الرّواية أنّ كتب الحكم قد تكدّست في غرف و ممرّات القصر القديم حتّى لامست سُقفهُ، وأنّه من أجل أن يُحصيها وظّف خصيًّا وشاعرة. فكتبا له 44 كرّاسا وفي كلّ كرّاس 50 صفحةً تحوي عناوين الكتب و الاسفار، أمّا عدد الكتب فبلغ 400 ألف كتاب، وأنّه يوم أراد نقلها الى القصر الجديد استمرّت عملية النّقل ستة أشهر كاملة. جذبت العاصمة المطلّة على الوادي الكبير الرّحالة والسّفراء بجمالها وفخامتها، فكتبوا عنها فأكثروا، وممّن كتب عنها الرّاهبة وعالمة القوانين الكنسيّة آهروتسفيت فون غاندرس هايم على لسان أحد الشّهود العيان الذي كان كثير التردّد على قرطبة فقالت عنها: ” جوهرة العالم الوضّاءة، فتيّة و بهيّة، مشهورة ببهجتها و ثروتها “. وقبلها روى العالم المسلم أحمد بن محمد الرّازي فقال: ” توافد النّاس على قرطبة من كلّ مكان. فالمدينة بسطت يدا الحفاوة والفضل، فكانت دائمًا هي الأنبل والأجمل، وكان بها أمور جليلة، ومناظر بديعة “. ولم يكن الآذان هو الصّوت الوحيد الّذي تسمعه بشوارع مدينة قرطبة، بل حتّى أجراس الكنائس النصرانيّة كان يتردّد صداها في تلك الشّوارع. منذ السّنوات الأولى التي فتح فيها المسلمون هذا الجزء من شبه الجزيرة الإيبيرية تحوّلت قرطبة الى مركزٍ للعائلة الأمويّة، وفي سنة 756م حوّلوها الى عاصمة ملكهم الجديد بالاندلس. وفي القرن العاشر الميلادي بلغ عدد الدُّور بقرطبة 213007 دارًا و 60300 بناية لكبار الموظفين و العائلات الارستقراطية، و600 حمّام و80455 محلّ تجاريّ. وبلغ عدد ساكنيها المليون نسمة، أمّا باقي التقديرات فعلينا أن نتعامل معها بحذر. وفي بدايات القرن الحادي عشر عندما أرادوا حفر الخندق حول المدينة لحمايتها وصلت تخوم المدينة الى 22 كيلومتر و مساحتها 5000 هكتار أي أكبر من مساحة المدن الحديثة واعتبرت قرطبة في بدايات العصور الوسطى من اكبر عواصم العالم الى جانب روماوبغداد والقسطنطينيّة. في سنة 929م وعندما بلغ الحكم سن الرّابعة عشر أعلن والده الأمير عبد الرّحمان الثّالث نفسه لأوّل مرّة خليفة للمسلمين السّنة وتسمّى ب” أمير المؤمنين ” وتحوّلت الأندلس الى دار خلافةٍ مناوئة للخلافة العبّاسية في بغداد التي غلب الشّيعة على خليفتها وسلبوه كل مقوّمات السلطان. قام الأب (عبد الرحمان الثّالث) بتوسعة مسجد قرطبة الكبير، كما قدّم الاعانات الماليّة للصيادلة وعلماء النّبات والأطبّاء. أمّا علماء قرطبة فقاموا بجمع جميع معارف وعلوم عصرهم. فألّف طبيب القصر أبوالقاسم الزّهراوي موسوعته الطّبيّة ودعّمها برسومات توضيحيّة عن عملية البتر وشرائحه، و جراحة العين، وطريقة معالجة الكسور. وحتّى المواضيع غير الاعتياديّة مثل ” لغة العوام ” وضع لها علماء الأندلس كتبًا. انتظر الحكم طويلا لكي يجلس على عرش قرطبة. فرأى كيف فرض والده الملقّب بالنّاصر السّلام على جميع جهات الأندلس، وكيف أخمد ثورات المتمرّدين وكيف دافع عن حدود دولته أمام ممالك نصارى الشّمال. ولم يكتف الابن بالنّظر والتّرقب بل شارك أباه في معاركه، وحضر مجلس حكومته، ثمّ أشرف بنفسه عام 936م على بناء المدينة الملكيّة الجديدة: مدينة الزّهراء التي اُشتقّ اسمها من اسم احدى جواري الخليفة والتي تقع في سفح جبل العروس بضعة كيلومترات غرب قرطبة. وشيّد فيها 10.000 عامل على مساحة كيلومترونصف العديد من القصور المصطبيّة الشّكل، والحدائق الوافرة، ومباني سكنيّة ومسجد. ولا ننس بهو استقبال طُليت جدرانه بماء الذّهب وقاعة عرش مزيّنة بأقواسٍ من خشب الآبنُوس والعاج. وحسب الرّوايات التّاريخية فقد أشرف الحكم الثّاني على تشييد 4313 عمودٍ و15000 باب بالزَّهراء. وجَذَرَأشجارًا كثيرة من حول الزّهراء. حتّى أنّ صاحب الرّواية كتب ساخطًا: ” إنَّ ما أقدم عليه الخليفة من فعل لهو منافٍ للعقل، ولو أنّ الخلائق كلّها اجتمعت كي تقلب الأرض وتقتلع الشّجر لأبى اللّه عليها ذلك.” غير أنَّ هذا لم يقلق عبد الرّحمان الثّلث ولم يعكّر عليه صفوه فمضى في مشروعه. فالمدينة الجديدة في حاجة الى أشجار اللّوز التي يلائِم لون أزهارها الوردي جمال قصورالزّهراء. وبعد تسعة سنوات تمَّ البنيان ونقل سرير الملك سنة 945م الى المقرّ الجديد. لكنَّ البيت الأمويّ بقرطبة لم يعرف أميرَا وُلِع بالعلم والمعارف وشُغف بهما قلبه مثل الحكم الثّاني فقد ذُكر عنه أنّه سأل أحد الرّهبان الّذي جاء الى قرطبة سفيرًا وأقام بها أن يكتب له كتابًا عن تاريخ ملوك الفرنجة. كما شجّع العلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي على الوفود الى عاصمته والاقامة بها. ومن غريب ما ذكرته كتب التّاريخ أنّه طلب من حاكم المِرية أن يستقبل بنفسه ابن علي القالي عالم اللّغة الذي وفد اليه من بغداد. وأن يرافقه ديوان حاكم المرية الى قرطبة. وبرغبة من الحَكم أيضًا جلب أحد الخطّاطين ورقًا خاصًّا من سمرقند، و قصب البوص من دجلة نحو الأندلس. في ال15 أكتوبر توفّي الخليفة عبد الرحمان النّاصر بعد أن حكم 52 سنة كاملة. فاعتلى ابنه الحكم الثّاني العرش وعمره 46 سنة. وورث من ابيه بلدا مستقرّا وقويّا وخزائن مملوؤة بلغت 20 مليون قطعة ذهبية. واختار المستنصر باللّه لقبًا له. وكان أوّل ما ابتدأ به حكمه أن أمر بتوسعة المسجد الكبير بقرطبة (مسجد الحضرة).وزاد في مساحته الى الضّعف. وجلب له الرّخام من القسطنطينيّة وزيّنه بالفسيفساء. اعتمد الحكم على مستشاري أبيه السّابقين فأبقى عليهم. ثم قاد بنفسه في سنة 970م آخر معركة ضد ممالك النّصارى في الشّمال. وبدل أن يغزو أراضٍ جديدة عمل على بناء دولته من الدَّاخل. فاجتمع عليه قادة جيشه وكبار العائلات الأندلسيّة. ثمّ أبرم للسّلام عهدا مع باقي ملوك زمانه، فأرسل أحد الأحبار اليهود سفيرا عند القيصر أوتو الثّاني ملك الألمان. وتبادل الهدايا مع قبائل البربر في شمال افريقيا وطلب دعمهم بالفرسان. وفي آخر عمره أنجب من زوجته البشكنسية وريثه الوحيد هشام المؤيد بالله. تحوّلت قرطبة في عهد الحكم الثّاني الى ” زينة مدائن العالم “، مثلما كتبت الرّاهبة هاروتسفيت فون غاندرس هايم. فقد قام الخليفة بترميم الجسور و تشييد قناطر المياه و حفرالآبار وشقّ الطرقات. كتب المدوّن العربيّ المسلم أنّ ” أجنحة المسجد الكبير كان بها الكثير من حلقات تعليم أيتام وفقراء قرطبة”. وأنَّ المياه كانت تجري من جبل العروس الى القصر في أنابيب من نحاس. أو مثلما قال شاعر بلاطه: ضربت الأرض. فأنفجر الماء عيونَا. فأجريته الى بيت اللّه فنظّفت به جُسومَا. وأرويت أنفسًا عِطاشَا. بذل الحكم الثّاني جهدًا في اقتناء الكتب والمخطوطات من جميع أقطار الدنيا وجلبها الى قرطبة. فبعث الرّجال الى مكتبات وأسواق الكتب بالقاهرة ودمشق والقسطنطينيّة. أمّا في بغداد فكلّف مقيما بها (أغلب الرّوايات أنّه الفيلسوف الفارابي) وزوّده بالمال لينظر في جديد عالم الكتب ويبعث له نسخة منه. بلغه مرّة أنّ كتابًا عن مجمل الشّعر والموسيقى العربيّين يُؤلّف ببلاد الرّافدين، فأرسل على الفور رسولا ومعه ألف دينار لإقتناء أوّل نسخة تصدرمن الكتاب. ومن أجلّ الأعمال التي أُهديت للخليفة الحكم الثّاني كتاب الرّاهب ريسيمندو سفير الملك أُوتُو الثّالني الى الأندلس المسمّى “توقيت قرطبة” والّذي كتب على صفحته الأولى: ” هذا كتاب، تفرّد بمعرفة فصول السّنة، وحساب شهورها وأيّامها، والتي بامكان أيّ أحدٍ عدّها بالنّظر الى حركة الشّمس من خلال أمارات أبراج الحيوان في السّماء.” والى جانب المعلومات الفلكيّة التي تحدّد بها أوقات الصلاة فإنَّ التّقويم يساعد على معرفة تأثيرحركة الأجرام في الكون على نموّ النّبات و صحّة الإنسان. فجأة تعرّض الحكم لنزيف فجائي في أعضائه طرحه نصف مشلولٍ على فراشه وظلّ به الى أن توفّته المنيّة سنة 976م. وقبل أن يموت حمل رجال دولته على مبايعة ابنه الصّغير هشام. ولأنّ المرض كان قد أنهكه فإنّه لم تكن له فرصة تثقيفه في أمورالسّياسة. فلم نعثرإلاَّ على رسالة كتبها له قبل وفاته: ” لا تخض حربًا لا جدوى منها، أحرص على السّلام حتّى تعيش أنت وشعبك في خير وعافية. ولا ترفع سيفك إلاّ في وجه من اقترف جرمًا أو تعدّى و ظلم. فأيّ بهجة ترجو من غزو بلدٍ وتخريبه؟ ولا تدع البطر يعمي بصيرتك: دع العدل يسود مثل بحر هادئ.”. لم يستطع هشام ابن الثّانية عشر الصّمود أمام دسائس القصر التي كان يُحيكها المتعطّشون للحكم من رجال دولة ابيه. فانهارت دولة الخلافة المستنيرة التي وضع حجر أساسها جده عبد الرّحمان النّاصر بعد بضعة عقود من صراعات داخليّة. لكنّها بقيت علامة في أسفل صفحة أوربا في القرون الوسطى. سنوات قلبلة بعد وفاة الحكم الثّاني جمعت الكتب التي جمعها ثمّ أحرقت في وسط القصر لحجج دينيّة أريد منها كسب عاطفة الغوغاء. غير أنّهم لم يستطيعوا حرق كلّ شيء فقد انتشرت الأرقام العربية الهندية التي جاء بها الحكم الى الاندلس في باقي اوربّا الغربيّة. لم يبق من مكتبة الحكم الاّ القليل من الكتب ظهر بعض منها في مكتبة فاس بالمغرب سنة 1938م.