د/ محمد العربي الزبيري عندما يتوقف الدارس، مليا ، عند مختلف فقرات البيان الذي أصدره الزعيم الكبير الجديد باسم مجلس الثورة ، فإنه يلحظ بكل سهولة محاولة مكشوفة لتبرير حركة انقلابية هدفها الأول والوحيد هو تحييد السيد أحمد بن بله الذي جمع بين يديه رئاسة الجمهورية والأمانة العامة للحزب والداخلية والمالية والأخبار ، والذي "انحرف ،بسلوكه وتصرفاته ، عن الخط الثوري الأصيل وفتح أبواب الجزائر واسعة للمغامرين الأجانب الذين اشتهروا بفشلهم في أماكن أخرى من المعمورة ". لكن رئيس مجلس الثورة، لدى إشرافه على تخرج الدفعة الثالثة من رجال الدرك الوطني بزرالدة يوم 30 /06 /1965، يرى أنها حركة تصحيحية جاءت "لتحرير الطاقات الثورية التي كان شخص واحد يحاول تجميدها " . ويرى ، كذلك ،أنها نتجت عن أزمة سياسية تماما مثلما اندلعت ثورة أول نوفمبر عن أزمة حزب الشعب الجزائري ، ومثلما كان الاختيار الاشتراكي وليد الأزمات المختلفة التي عرفتها جبهة التحرير الوطني أثناء فترة الكفاح المسلح. كل ذلك لأن الجزائر " ليست بلد الانقلابات العسكرية كما يدعي مناضلو الصالونات الذين يعيشون في العواصم الأجنبية ويتحدثون باسم الثورة والثورية والثوار " . لقد كان كلام رئيس مجلس الثورة موجها للاستهلاك فقط ، ولا يمكن أن يكون، هو شخصيا، مؤمنا بصحته لأنه عايش عددا من الانقلابات وشارك مشاركة فعليا على الأقل في واحد منها ،وهو ذلك الذي أطاح بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في الثاني والعشرين من شهر جويلية سنة اثنتين وستين وتسعمائة . وقبل ذلك، كان هناك انقلاب لجنة التنسيق والتنفيذ على المجلس الوطني للثورة الجزائرية وما تبعها من محاولات " التصحيح الثوري " .ولو كتب لرئيس مجلس الثورة أن يعيش إلى اليوم لكان شهيدا على عديد الانقلابات التي عرفتها الجزائر في العشرية الأخيرة من القرن العشرين والتي يمكن اعتبارها في أساس تخلف البلاد وبؤس شعبها رغم كل الثروات الطبيعية التي كان يمكن أن تفتح له أبواب التقدم والرقي والازدهار . ولو كان رئيس مجلس الثورة صادقا في كلامه لبادر إلى لم شمل المناضلين و طوي صفحة الخلافات التي لم تكن ، في الحقيقة ، سوى حزازات شخصية لا علاقة لها بمنظومة الأفكار التي سارت على هديها جبهة التحرير الوطني منذ إعلانها الانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح ليلة أول نوفمبر 1954 . حينها كان يمكن أن يوفر الشروط الموضوعية اللازمة لإشراك مسئولين كبار أمثال محمد خيضر وبلقاسم كريم اللذين أنهى حياتهما بكيفية لا علاقة لها بالثورة والثوريين، وحسين آيت أحمد وفرحات عباس وابن يوسف بن خده ومحمد الأمين دباغين وحسين لحول وغيرهم ممن برهنوا على إخلاصهم للوطن وقدرتهم على العمل الإيجابي لفائدته . محاربة الارتجال بالارتجال . كان من المفروض أن ينعقد مؤتمر وطني ،مباشرة بعد وقف إطلاق النار ،طبقا للتوصيات التي أصدرتها القيادة العليا بطرابلس في شهر يونيو سنة 1962 . لكنه لم ينعقد بسبب الخلافات السياسية والإيديولوجية التي ظهرت بعنف على الساحة والتي لم تحسم بواسطة الحوار والإقناع ، بل عن طريق القوة وإراقة الدماء الأمر الذي جعل كثيرا من القياديين الأساسيين ، في جبهة التحرير الوطني يلتزمون بيوتهم أو يختارون طريق المنفى تاركين فراغا مهولا سرعان ما ملأته أنواع الفوضى والارتجال والاضطراب . وترتب عن إقصاء معظم إطارات جبهة التحرير الوطني الفاعلة أن تمكنت من التموقع في المناصب الحساسة إطارات غير متشبعة بمنظومة الأفكار التي كانت أطراف الحركة الوطنية الجزائرية تعتمدها خلال فترة التحضير لمرحلة الكفاح المسلح ، ومتأثرة إلى حد كبير بالأيديولوجية الماركسية . لأجل ذلك جاء " ميثاق الجزائر " ،المصادق عليه من طرف المؤتمر التأسيسي سنة 1964، متناقضا مع واقع الشعب الجزائري المسلم الذي لم يتبع جبهة التحرير الوطني إلا لإيمانه بأنها كانت حركة جهادية . ولأن ميثاق الجزائر لم يأخذ في الاعتبار مشروع المجتمع الذي بشرت به جبهة التحرير الوطني ليلة أول نوفمبر 1954 والذي شرحته وأثرته وثيقة وادي الصومام ، فإنه لم يتطرق لكثير من القضايا المصيرية التي وردت في اتفاقيات أيفيان والتي كانت تشكل القاعدة الصلبة للاستعمار الجديد مثل النظام الإداري الموروث عن الاحتلال والذي لم يكن قد أعد لخدمة الأهداف التي حددتها النصوص الأساسية للثورة ، وكذلك سلك العدالة وازدواجية اللغة إلى غير ذلك من الموضوعات الخطيرة التي سوف تترتب عنها كثير من الكوارث التي ما زالت البلاد تعاني منها إلى يومنا هذا . لقد كان من المفروض ، لو كانت الحركة تصحيحية بالفعل ، أن يتطرق نداء التاسع عشر جوان إلى مثل هذه النقاط فيقترح معالجتها بالكيفية التي تضع حدا للانحراف وتمكن من إعادة الربط مع منظومة أفكار الثورة . لكن مجلس الثورة سكت عن كل ذلك وركز ، فقط ، على التنديد بسلوك " الطاغية المستبد الذي خنق أصوات القوى الثورية الحية في البلاد ، ولم يحجم عن تجميد أجهزة الدولة وإحاطة نفسه بأسطورة المهدي المنتظر " . وإذا كان الطاغية قد خلع لاتصافه بما ذكر أعلاه ، فإن مجلس الثورة قد استهل نشاطه بتجميد كل من المكتب السياسي واللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني من دون أدنى سبب ثم نقل لنفسه كل الصلاحيات المخولة لهما بموجب القانون الأساسي والنظام الداخلي ، وتبنى فكرة الإدارة كعمود فقري لدولة قوية " لا تزول بزوال الحكومات والأفراد " . ولما كان صاحب هذه الفكرة هو السيد أحمد مدغري الذي كان يحظى بمكانة مرموقة لدى رئيس مجلس الثورة ، فإن باقي الأعضاء قد أظهروا له تأييدا وسلموا له زمام الأمور فراح يضيق الخناق على القواعد الحزبية معلنا عداءا سافرا للفكرة الحزبية ذاتها ومتخذا من كراهية النضال الحزبي مقياسا لترقية الإطارات الإدارية . هكذا ، فإن تركيز "مجلس الثورة " على هيكلة الإدارة والعمل على بناء الاقتصاد قد ترتب عنه بالضرورة تحييد الحزب ومنظماته الجماهيرية وكذلك تسهيل هدم الأركان الأساسية التي تنبني عليها الدولة بمعناها الواسع .ومن جهة أخرى ، قاد ذلك ، أيضا ، إلى تثبيت العناصر اللاوطنية والعناصر المناهضة للثورة والمعادية للفكرة الحزبية على رأس المناصب الأساسية وبعض مناصب الحل والربط في مجالات الاقتصاد والإعلام والثقافة والتعليم . لكن جهاز الحزب كان حقيقة لا يمكن تجاهلها . ولذلك قرر رئيس مجلس الثورة تشكيل أمانة تنفيذية تشرف على تسييره وتتولى توجيه ومراقبة المنظمات الوطنية .عين للأمانة منسق واختير لعضويتها أربعة من مسئولي الولايات التاريخية . وقع تنصيب الأمانة التنفيذية بتاريخ السابع عشر جويلية أي بعد الانقلاب بأقل من شهر واحد . وعلق الرئيس هواري بومدين على العملية بقوله :" لقد أردت أن أبرهن لأولئك القادة على أن عهد الجهوية قد ولى وأن الواجب يملي علينا جميعا تجاوز المشاكل الشخصية والاهتمام بمسألة بناء الحزب " . صحيح أن مسألة بناء الحزب بالغة الأهمية ، ولكن علاجها لا يقتصر على تجاوز الحزازات الشخصية ، بل يتطلب ، بالدرجة الأولى ، قيادة تؤِمن بالفكرة الحزبية وذات خبرة واسعة في ميادين النضال السياسي . وحيث أن ذلك لم يكن متوفرا ، فإن تجربة الأمانة التنفيذية سرعان ما فشلت وكان فشلها واحدا من أسباب انفراط عقد مجلس الثورة . والواقع ، أن هذا الأخير ولد شبه ميت لأن أعضاءه كانوا غير متجانسين ، وكان بعضهم غير قادرين حتى على إدراك الدور المطلوب منهم تأديته خارج حضور الاجتماعات عندما يدعون إليها . لأجل ذلك ، وبعد حوالي ثلاثين شهرا من تكوينه ، لم يبق منه سوى ثلثي الأعضاء . وحتى بكامل أعضائه ، فإن مجلس الثورة لم تكن له صفة المؤسسة المسيرة . بل كان غرسا من دون فروع و تنظيما من دون هياكل داخلية . ولم تكن له اجتماعات منظمة ، وحتى عندما يجتمع ، فإن أعضاءه قلما يحضرون بالكامل ، ونادرا ما تكون الاجتماعات مخصصة لدراسة قضايا مصيرية .