يسترسل العقيد محمد الطاهر في سرد ما في جعبة شهادته من أحداث مفصلية كان فاعلا فيها أو قريب منها ومن أصحابها، خاصة ما تعلق منها بتأسيس فكرة استخباراتية، سميت لجان اليقظة التي تحولت إلى مليشية عسكرية أسوة بالتجربة الكوبية واليوغسلافية، والتي كان لها الفضل حسبه في إخماد فوهة بندقية حسين آيت أحمد، الذي أعلن تمردا مسلحا أبلجا على النظام والدولة على حد سواء سنة 1963، حيث خرجت المليشية بالزاد الوفير لصالح بن بلة، الذي يخوض صراعا ملغما ونزاعا "ملثما" بينه وبين الحليف "المتربص به" وزير دفاعه هواري بومدين، الذي حسم شنآن السلطة وشؤون الحكم عبر انقلاب عسكري صريح أفل فيه وهج المفجر أحمد بن بلة، وبزغ فيه نجم هواري بومدين الذي منحته حسب العقيد نكسة 1967 نفسًا سياسيا مكنه من استقرار حكمه واستمرار نظامه. كيف باشرت مهامك الجديدة كمسؤول سياسي؟ استلمت مهامي في تازبنت، وقد تم تسليمي قائمة تتضمن أسماء خونة مشتبهين يتعاملون مع الاستعمار الفرنسي، شرعنا في استدعاءهم وتحدثت إليهم في محاولة لرسكلتهم بغية الاستفادة منهم تحت رواية أنهم وطنيون لكنهم متهمون، ولتبرئة ذمتهم طلبت منهم جلب أخبار العدو وعملائه، وخاصة ونحن كنا نتمركز بالقرب من معسكر فرنسي يضم خمسة آلاف جندي في منطقة الماء الأبيض. جاء إعلان وقف إطلاق النار، كيف عشتم هذه اللحظة التاريخية؟ يوم 18 مارس بلغنا أن رئيس الحكومة المؤقتة يوسف بن خدة سيلقي خطابا غدا 19 مارس، فطلب مني صديقي المجاهد ناصر علاوي الذي لم يختبئ طيلة أيام الثورة في أي مخبأ، أن نوفر له كازما نختبئ فيها سويا، كونه يود أن يعيش لحظة الاستقلال، فكان إبراهيم شايبي يملك "كازمة"، طلبنا منه أن يدخلنا إياها ويخرجنا على ساعة 12 في النهار، حتى نسمع خطاب بن خدة، وعند سماعه قام ناصر علاوي بإطلاق كل الرصاص الذي بحوزته، ثم ختم بقوله:"يا ابن أمي نحن عزّنا ومجدنا قد انتهى بدءا من اليوم"، وقد صدقت رؤيته. كيف واصلتم عملكم بعد إعلان وقف إطلاق النار؟ شرعنا بعد خطاب وقف إطلاق النار في عملية التعبئة والتحسيس لصالح الاستفتاء، وبعد إعلان الاستقلال عُينت مسؤول قسمة جبهة التحرير في الماء الأبيض، ونائبا لرئيس البلدية التي ورثناها بمخلفات العدو خاصة الكادر العامل بها، كأنه مكتب "لاصاص"، وتمت إعادة هيكلة الدائرة (المندوبية) فاقترحني محمد علاق (لواء متقاعد حاليا) أن أكون ممثل جبهة التحرير الوطني كعضو في دائرة تبسة. نود الآن أن نعرج على بعض المحطات التاريخية، فهل من تفاصيل جديدة عن تصفية عمر جبار؟ عُيّن الوردي قتّال قائدا على منطقة سوق أهراس، هذا الأخير كان رجلا عنيفا وقد ذكر اسمه وقتها أنه وراء تصفية جبار عمر، ومرد ذلك أن جبار عمر نوفمبري طلائعي قاد الأفواج الأولى في سوق أهراس، في حين أنّ الوردي قتال لم يكن نوفمبري، وجاءت تصفيته بدوافع شخصية من أجل المسؤولية. كونكم جد مقرب من الرئيس أحمد بن بلة، ولم تفارقه حتى آخر رمق من حياته، هل خصك بشيء عن مواقفه، مثل مؤتمر الصومام، وتحالفه مع بومدين، وإعدام شعباني، والانقلاب عليه من طرف وزير دفاعه؟ سألته أكثر من مرة عن مؤتمر الصومام، فأكد لي أنه كان مبرمجا في جبال بني صالح في سوق أهراس، حتى يتمكن الوفد الخارجي من الحضور، لكن سارت التحضيرات في اتجاه آخر ولغايات أخرى، لكن ظل يشك في عبان رمضان الذي أطر المؤتمر، كان يريد من وراء ذلك خطف قبس شعلة الأوراس، ليسير بها داخل الثورة كزعيم، أسرّ لي كذلك أنه كان مع عزل عبان وليس مع تصفيته، وإعدام عبان هو من حوله إلى بطل وزعيم. ماذا تقصدون بأن إعدامه حوله إلى بطل وزعيم؟ القائد الكبير عمر أوعمران له الفضل في نحت وخلق الولاية الرابعة، فلما بقي حيّا إلى ما بعد الاستقلال تمت مكافأته بمنحه محطة بنزين، حتى جنازته حضرها القليل، واليوم نُسي تماما رغم أنه قائد عسكري فذ. كيف تحالف بومدين وبن بلة من داخل السجن؟ وكيف تقاسموا السلطة عشية الاستقلال؟ بومدين استقر اسمه على بن بلة لأنه أثقل اسم بين المفجرين الستة داخل الجزائر وخارجها، ولذلك تحالف معه، لأن بن بلة ثوري له ميولات عسكرية، على غرار خيضر وآيت أحمد، فهما مسيسان جدا، أما بوضياف فكان ثوريا راديكاليا. نعود لمساركم وكيف واصلتم مشواركم النضالي والسياسي بعد الاستقلال؟ بعد انسحاب فرحات عباس من المجلس التأسيسي وقع بيني وبين أعضاء دائرة الحزب في تبسة خلافات سياسية حول استقالة فرحات عباس الذي كنت ضده، فأتخذ قرار بتجميد نشاطي، فقمنا بمراسلة الرئيس أحمد بن بلة في رسالة موقعة من ستين مجاهدا، نطلب منه تصفية الجبهة من المندسين أو نرفع السلاح لتصفيتها من الدخلاء، عندما اطلع على الرسالة كلف محمود قنز باستدعائي، وقد وصلته للعاصمة، فالتقيته ومنحني كتيب مصري عنوانه "مؤسسة الإدارة العامة للتعبئة والإحصاء". ما الهدف من هذا الكتيب في ذاك التوقيت؟ كان الهدف تحضيرنا نفسيا لمهمة استخباراتية، حيث تم بعدها إرسالنا في مارس 1964 نحن الستة إلى مصر، رفقة محمد مسلم، ومحمد زمالي، وعبد القادر موسى، ومحمد بن تومي من أولاد جلال، الوحيد الذي كان بيننا حاملا لشهادة البكالوريا، وصلنا القاهرة والتحقنا بالكلية العسكرية بالإدارة العامة للتعبة والإحصاء، تابعة لوزارة الدفاع المصرية، دورها كان التكوين في كيفية تعبئة الجماهير أثناء الحروب، ومرجعيتها ألمانية. كيف كانت التجربة؟ كانت تجربة ثرية ودورة جد مركزة، تعلمنا فيها مبادئ العمل الاستخباراتي وطرقه وأساليبه، دامت ستة شهور من التكوين المكثف، عدنا بعدها في عطلة للجزائر، حيث شرعنا في تأسيس لجان اليقظة داخل الحزب، وبعد انتهاء العطلة عاد الرفقاء للقاهرة، فيما بقيت هنا في الجزائر، حيث شرعنا في تكوين مليشيات عسكرية تحت إشراف محمود قنز ونائبه جمال قنان. هل يعقل، بلد حديث الاستقلال، يمتلك جيشا وطنيا نظاميا، التأسيس لمليشيات عسكرية موازية؟ في الأصل كانت الفكرة هي تشكيل لجان اليقظة، ثم تحولت إلى مليشيا عشية التمرد المسلح لآيت أحمد الذي أعلن عن إسقاط النظام بقوة السلاح، ولكنها لم تكن مطلقا جيشا موازيا للجيش الوطني الشعبي، والدليل كان تسليحها يتم أخذه من الجيش، والدليل الآخر كانت من بين مهامنا مساعدة الدرك والأمن الوطنيين، وخاصة في ظل تحدي بحجم تمرد آيت أحمد المعزز بكوكبة من المجاهدين التي كانت تشاركه التمرد المسلح. ألا يعد هذا تبريرا سياسيا لفكرة مسلحة؟ كلا. لأن هذه المليشيات لم تكن بدعة جزائرية خاصة ببن بلة أو بنظامه الاشتراكي، بل كانت محاكاة لجل التجارب الاشتراكية سواء الصينية أو الكوبية أو اليوغسلافية، رغم أن بن بلة كان يردد نحن نمثل اشتراكية عمر بن خطاب للعدالة الاجتماعية، لا اشتراكية الماويّة ولا الماركسية. أين كانت متواجدة وما هي مهامها؟ كانت هذه المليشيات المسلحة متواجدة بشكل أساسي في العاصمة ومنطقة القبائل وفي سهل الاخضرية، وقد كانت يد مساعدة للجيش في مطاردته لجماعة الأفافاس التي أعلنت التمرد المسلح ضد النظام والدولة، وقد ساهمت في استسلام آيت أحمد وقبوله الحوار مع بن بلة، ونزول عناصره من الجبل، وحتى تسليم أنفسهم يعود فيه الفضل لشباب المليشيات بمنطقة القبائل، فكان دورهم حاسما في تقديم المعطيات إلى الجيش ومصالح الأمن والحزب. هل يقاوم تمرد مسلح بمليشيات مسلحة؟ نعم.. لأنّ الإخوان في الأفافاس كانوا يعتقدون أن كل مناضل في جبهة التحرير هو عدو وعميل للنظام، والدليل أنهم قتلوا كثيرا من مناضلي جبهة التحرير الوطني. ماذا عن موقف الجيش؟ الجيش كان جد ممتعض من الدور الذي حققته المليشيات، والمتمثل في الحوار الذي دار بين بن بلة وآيت أحمد الذي خلص إلى صلح بموجبه نزل أيت أحمد من الجبل رفقة عناصره، ومن ثمار هذا الصلح ما بلغنا وقتها، أن تسوية على وشك أن تتم، حيث سيتقلّد بموجبها آيت أحمد رئاسة المجلس التأسيسي. جاء الانقلاب الذي اصطلح عليه بالتصحيح الثوري، هل من إرهاصات لاحظتموها قبل حدوثه؟ قبل الانقلاب بأيام جاءني حمودة عاشوري، ملازم أول، نائبا لمدير المحافظة السياسية للجيش، عن طريق إبن خال لي، هو حسين الشريف، الذي كان مع جماعة بوتفليقة، وقد طلب مني عاشوري ملمحا لا مفصحا بقوله: "الجماعة السياسية يرغبون في إبعاد الجيش عن ممارسة السياسة ونحن كمجاهدين، لابد أن نتخذ موقفا منهم". كيف كان ردكم على طلبه؟ أجبته مقتنعا لا متنطعا، العسكري الذي يريد أن يتدخل في السياسية وجب عليه نزع بزته العسكرية وينزل للساحة السياسية ويبرهن على قدراته وكفاءته في خدمة شعبه، وأنهيت كلامي معه أني ضد حكم العسكر وانتهت الجلسة. كيف عشتم لحظة أول انقلاب في تاريخ الجزائر المستقلة؟ كانت بغتة وعلى حين غرة، وجاء من حيث لم نحتسب، فليلة الانقلاب 19 جوان تم اعتقال جمال قنان، أقرب المقربين من شخص ورئيس الجمهورية أحمد بن بلة، والذي كان في زيارة لوالدته، وبعد إطلاق سراحه في حدود ثلاث أسابيع، زرته بعد أيام في مقر مسكنه بتليملي، وأخذت له خفية مسدسا، وأخبرته بأننا بصدد تحضير مقاومة، ضد نظام بومدين والمطلوب منك أن تذهب إلى مصر للحصول على الدعم، كون مصر وعبد الناصر مع بن بلة، ونحن هنا نتكفل بالمقاومة، أجابني يائسا: بومدين رجل متعطش للسلطة ومادام أخذها، فهو مستعد أن يقتل خمس ملايين جزائري ولا يسلم الحكم، وختم كلامه: إن كان ثمة شباب يثقون فيك فلا تغامر بهم حتى لا يقتلوا في معركة خاسرة. أين اختفت المليشيات المحسوبة على بن بلة؟ لم تختف لكن في اليوم الثاني من الانقلاب، كان عموم المناضلين والشعب ضد الانقلاب، فيما كانت لنا مجموعتان واحدة في البليدة، على رأسها المجاهد قارة والثانية في الأخضرية وبها سبعون مناضلا، وقد توجه العشرات إلى جبال الشريعة بأسلحتهم لمناهضة ومقاومة انقلاب بومدين على الشرعية. أين موقف قائد المليشيا محمود قنز؟ محمود قنز تخلى عن دوره وغدر ببن بلة وكان أحد أهم الانقلابين مع هواري بومدين، وفي هذا المقام لا ننسى مطلقا أن محمود قنز كان في جيش الحدود الذي كان على رأسه العقيد بومدين. كيف تصرفتم بعد هذا اللقاء مع جمال قنان أقرب المقربين لبن بلة؟ كان لي صديق معي في المليشيا اسمه محمد بن تومية من أولاد جلال، كان رئيس دائرة في بسكرة، استصدر لي جواز سفر مزيف، وسافرنا سويا في سيارة "رونو 8" إلى القاهرة برّا، وقضينا ثلاثة أيام سيرا، وصلنا القاهرة بهدف طلب دعم من المصريين ضد نظام بومدين، حيث زرت مدير معهد العلوم الإستراتيجية (فرع استخباراتي سبق وأن تكونت فيه) وتحدثت إليه حول طلبي، فمكّنني في صباح الغد، من مقابلة مدير المخابرات اللواء عزت سليمان في قصر القبة. ما الذي دار في هذا اللقاء؟ تحدثت إليه وأخبرته بأن بن بلة حليف عبد الناصر وأنتم طعنتموه في الظهر، لأنكم لم تنصروه، ثم أنكم قررتم عقد قمة عربية في الجزائر يرأسها بومدين، طلب مني العودة غدا لمكتبه، وأثناء اللقاء الثاني أخبرني بأن عبد الناصر قد قرر أن لا يزور الجزائر ولن تعقد القمة فيها. كيف واصلتم البحث عن الدعم بعد هذا الرد القاطع؟ تجدد لقائي مع مدير معهد العلوم الإستراتيجية، حيث طلبت منهم أن يزودوني بإذاعة متنقلة لشن المقاومة، فكان ردهم:حتى لو أعطيناك إذاعة سيحددون موقعها وتتم مصادرتها، لكن عرضوا عليا منحة دراسية تكوينية لمدة خمس سنوات، تحت صفة لاجئ سياسي، رفضت وعدت أدراجي. بعد العودة من القاهرة، كيف سارت الأحداث؟ عرض علي فرحات زرهوني الانضمام إلى المخابرات فرفضت، وأخبرته أني لست موافقا على الانقلاب وأبلغته أنه لو كانت عندي إمكانيات لقمت بانقلاب لوحدي، وأردفت له أن حكم بومدين لن يستمر خمس سنوات، لكن نكسة 1967 أعطت لبومدين نفسا جديدا ومخرجا مكنه من البقاء في الحكم. .. يتبع