من أهم الأعمال التاريخية التي أنجزها المؤرخ والفقيه الدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلاَّبيِّ كتابه "المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام الحقيقة الكاملة"، الصادر عن دار إبن كثير. وقامت فكرة البحث الشيّق على تخريج الآيات التي تحدثت عن سيرة عيسى وأمه عليهما السلام من القرآن الكريم، وصوغها في كتاب منهجي فكري حضاري، يتماشى مع روح العصر والحوار الإنساني، يعتمد على قول الله عز وجل قبل كل شيء في بيان حقيقة عيسى عليه السلام مصحوباً بخطابٍ عقلاني وأساسٍ منطقيّ، يستهدف الوجدان الإنساني المتعطش لمعرفة حقيقة المسيح عيسى ابن مريم. وعكف المؤلف على الآيات القرآنية بمنهجية التفسير الموضوعي، وهو في الأصل تخصُّصه حيث إن رسالته للماجستير كانت حول "الوسطية في القرآن الكريم"، وأما رسالة الدكتوراه فكانت في "التمكين في القرآن الكريم". وبحث الصلابي في تفسير الآيات المتعلِّقة بعيسى وأمه وسيرتهما، ودعوته ومكانته بين الأنبياء والمرسلين، وما ورد من أقوال العلماء في ذلك. يعدُّ هذا الكتاب، بحسب مقدمة المؤلف، بداية لمشروع حضاري كبير، وهو تعريف بني الإنسان بسيرة الأنبياء والمرسلين ودعواتهم من خلال القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وشرح تراجمهم وأخلاقهم وأصول دعوتهم من أحاديث الرسول الصحيحة، وأقوال العلماء الراسخين بأسلوبٍ عصريٍّ يلائم المرحلة التي تمرُّ بها الإنسانية المعذَّبة ببعدها عن هدايات السماء. مباحث الكتاب الأساسية وقد قسم الصلابي هذا الكتاب، الذي توزعه في الجزائر فروع مكتبة ناجي ميغا بوكستور، إلى مجموعة من المباحث، حيث تحدث في المبحث الأول عن الجذور التاريخية للوطن الذي ولد فيه عيسى عليه السلام، فتكلم عن تاريخ فلسطين، وعهود بني إسرائيل كعهد القضاة وعهد الملوك، وعهد الانقسام، وتناول الحالة السياسية والاجتماعية والحياة الفكرية لهم، وأثر الحضارة الإغريقية والدولة الرومانية على فلسطين وبلاد الشام، وكذلك تحدث عن الطوائف اليهودية عند ظهور المسيح عليه السلام، وعقائدهم وأفكارهم، كالسامريين والصدوقيين والفريسيين، والقمرانيين، والاسينيين، وعن الهيكل ورجال الدين، وعن مفاهيمٍ لكلماتٍ مهمة في هذا الكتاب، كالنصارى والمسيحية، ولماذا لُقِّب عيسى بالمسيح؟ وما الفرق بين المسيحي والنصراني؟ أما المبحث الثاني فقد سمَّاه (حديث القرآن الكريم عن عيسى عليه السلام)، وجمع فيه المواضع التي ذكر فيها عيسى عليه السلام وأمه في القرآن الكريم، وتتبع حديث القرآن عن جدته من أمه وعن عائلة آل عمران، ولماذا ذُكروا في سورة آل عمران، ومن هم آل عمران الذين اصطفاهم الله على العالمين؟ وكان حديثه عن ولادة مريم من المنظور القرآني، وبيَّن معنى مريم بأنها العابدة الخاشعة الخادمة للربّ، ووضح دعاء امرأة عمران لله عز وجل ومناجاتها له وتضرُّعها وانكسارها بين يدي ربها ومخاطبته بأسماء الله الحسنى، وأشار إلى الكرامة التي حدثت لمريم من رزق الله لها بغير حساب، وكذلك توجُّه زكريا بدعائه إلى الله عزَّ وجل بأن يرزقه الذرية الطيبة الصالحة بعدما بلغ من الكبر عتيَّاً، واشتعل رأسه شيباً، وقبول الله لدعائه، ووقف على نداء زكريا الخافت وتمهيده البديع للدعاء، وبشارة الله لزكريا وهو في المحراب، وصفات يحيى عليه السلام التي ذكرت في القرآن وبيّن الحكمة والمناسبة من ذكر قصة يحيى وزكريا عليهما السلام في الحديث عن سيرة مريم. وكان حديثه عن اصطفاء الله لمريم على العالمين، هل هي صِديقة أم نَبية؟ وتحدث عن قنوتها وسجودها وركوعها مع الراكعين، وبشارة الملائكة لها بعيسى عليه السلام وجملة من أوصافه، كونه وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، ويكلِّم الناس في المهد وكهلاً، ومن الصالحين، وموقف مريم من هذه البشارة. ونقل الحوار الذي حدث بين جبريل عليه السلام ومريم الذي ذكره الله في سورة مريم، وشرحه من خلال أقوال علماء التفسير وما فيه من معانٍ وقيم، ودروسٍ وعبر، وقدرة الله المطلقة في خلقه وتدبير شؤونهم، ووضح ما معنى كون عيسى كلمة الله وروح منه، وما هي الروح؟ وما معانيها في القرآن الكريم؟ وما هو تفسير قوله تعالى ﴿وَرُوحٌ مِنْهُ﴾. ووصف مولد عيسى عليه السلام من خلال الآيات القرآنية التي بينت عظمة الحدث الجلل، وما مرَّت به مريم عليها السلام من الأم جسدية ونفسية حتى وصلت إلى تمنِّي الموت، وما صاحب ذلك الابتلاء من نفحات وبركات ومنح ربانية عالية. كما ألقى الضوء على معاني الآيات القرآنية العميقة التي بيَّنَت حقيقة عيسى ابن مريم عليهما السلام، ونقل موقف النجاشي ملك الحبشة من سماعه آيات سورة مريم عندما قرأها عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ووضح دور مريم العظيم في تاريخ الإنسانية وأنها مدرسة في الصدق مع ربها ونفسها ودينها، وفي العفة والصبر والاحتساب والعبادة، والابتهال لله عزَّ وجل والاعتماد والتوكل عليه. رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وبسط الصلابي القول في رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، ووجوب الإيمان بأنه عبد الله ورسوله ودعوته إلى التوحيد، وبشريته، وكيف أن القرآن الكريم جلَّى هذه الحقائق وبينها أحسن بيان، بالاستدلال السليم والنظر القويم والمنطق الواضح والدليل الساطع. ووضَّح المؤلف في هذا الكتاب مكانة عيسى عليه السلام بين الأنبياء والمرسلين، وأن تعاليمه وهي من الله تعالى، وأنه من أولي العزم الذي ذكرهم الله في القرآن الكريم. كما بيّن أصول الشرائع التي دعا إليها، وكذلك أصول الإيمان والأخلاق والفضائل، وكذلك التفاضل بين الرسل، وأكَّد على حقيقة مهمَّة مفادها أن دين الأنبياء والمرسلين هو الإسلام، وذكر الحجج والبراهين الدالَّة على ذلك من نوح ومن قبله وإبراهيم ومن بعده إلى خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من خلال الآيات القرآنية الكريمة. وأشار إلى تصديق عيسى عليه السلام لما بين يديه من التوراة، وأوصاف التوراة في القرآن الكريم وما تعرّض له من التحريف، وإلى نزول الإنجيل عليه وما تعرَّض له من التحريف بعدما رفعه الله إليه. معجزات عيسى عليه السلام أما في المبحث الثالث، فقد تحدث عن معجزات عيسى عليه السلام والحواريين ورفعه إلى السماء، وتحدث عن المعجزة وشروطها، والفرق بينها وبين الكرامة، وذكر معجزات عيسى التي ذكرت في القرآن الكريم، كميلاده بلا أب، وتأييده بروح القدس، وتعليمه الكتاب والحكمة، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله، والخلق من الطين كهيئة الطير والنفخ فيه بإذن الله، وإخباره عن الغيوب، وكونها معجزات من الله لتأييد عيسى في رسالته ودعوته إلى توحيد الله عز وجل وعبادته وطاعته. وتكلم عن الحواريين واستجابتهم لدعوة عيسى عليه السلام ونصرتهم له، وعن نزول المائدة، ثم الاستجواب الكبير لعيسى عليه السلام على رؤوس الأشهاد من رب العالمين يوم القيامة. وتحدث عن مكر بني إسرائيل بعيسى عليه السلام وحماية الله له ورفعه إلى السماء، وتأكيد الله عز وجل في القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب. كما بيّن ما جرى ليلة القبض على الشبيه، وترتيب أحداث مسلسل تلك الليلة من خلال ما ذكره المؤرخ الكبير والمفسر الشهير العلامة ابن كثير، وتدبَّر في الآيات التي تحدثت عن نفي قتل عيسى وصلبه، وإنما الذي قتل هو الشبيه، واستأنس بآراء العلماء الراسخين، وتجلَّ له حقائق ذكرها في هذا الكتاب، وبين اضطراب الأناجيل في أحداث مقتل الشبيه، وأن أقربها إلى الصواب إنجيل برنابا، وناقش فكرة الصلب والفداء ومفهومها في عقيدة النصارى، وختم المبحث الثالث بالحديث عن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان والأدلة من القرآن والسنة الصحيحة، والحكمة من نزوله، وبماذا يحكم عليه السلام، وأهم أعماله في تلك الفترة، وكم يبقى في الأرض قبل وفاته؟ بينما أفرد المبحث الرابع لوفد نصارى نجران ومجادلتهم لرسول الله ، ووضحت موقفهم من دعوة النبي وذهابهم إليه وهيئتهم عند وصولهم، ومجالس الجدل والمناظرات، وأهم الموضوعات التي تمَّ مناقشتها والجدال حولها وما نزل من تلك المحاورات من آيات قرآنية، ودعوتهم إلى المباهلة وامتناعهم من ذلك خوفاً من عذاب الله لما يعلمون من صدق النبي وصحَّة نبوته، فقد أكَّدت الروايات الواردة عنهم اعترافهم بأنه النبي الذي بشَّرت به الكتب المقدسة لديهم، وطلبوا الصلح مع رسول الله واستجاب لهم النبي مجادلة نصارى نجران. وختم بالدعوة إلى كلمةٍ سواء، وأن الأنبياء والمرسلين دعوا إلى توحيد الله وعبادته وطاعته، وعرَّفوا الناس بخالقهم العظيم، وحقائق الكون والحياة والموت والجنة والنار والشياطين والملائكة، وطبيعة الإنسان من خلال الوحي الرباني الذي نزَل عليهم من عند الله عز وجل. وقد حفظ الله لنا في كتابه العزيز سيرهم وتاريخهم وأصول دعوتهم، ومن بينهم عيسى عليه السلام من خلال الرؤية القرآنية الصادقة المحكمة التي قدمت سيرة عيسى عليه السلام وأمه في أبهى صورةٍ وأروع بيانٍ وأصدق حقيقة، وبذلك اجتهد الصلابي في تبيان الحقيقة الكاملة لعيسى عليه السلام من خلال التفسير الموضوعي لآيات الذكر الحكيم التي جاءت في كتاب الله العزيز .