محمد أرزقي فراد يعتبر سي أمحمد بن رحال (1857- 1928 م) علما من الأعلام الجزائرية البارزة في مجال الفكر التنويري، خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين، والتي بلغ فيها الاستعمار أوج قوته، فقد ولى عهد المقاومة المنظمة والمقاومة الشعبية بعد إخفاق ثورة1881، ولم تظهر بعد المقاومة السياسية التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى. غير أن ذلك لا يعني استسلام الجزائريين واستكانتهم، ورغم اعترافهم بالواقع الاستعماري، فقد أبدوا من مظاهر الصمود ما جعل جذوة المقاومة تظل متوهجة. وذكر الدكتور عبد القادر جغلول - في هذا السياق- بعض مظاهرها، كالهجرة نحو المشرق، والتمرد الفردي على تعسف الإدارة الفرنسية دفاعا عن الشرف (بوزيان القلعي في الغرب الجزائري، وارزقي البشير في منطقة القبائل، ومسعود أوزلماط في منطقة الاوراس)، وكذا النضال من داخل المؤسسات السياسية الفرنسية- كالمجالس المحلية- من أجل إنقاذ الهوية الثقافية، والتخفيف من وطأة المظالم الفرنسية. (أنظر كتابه: الاستعمار والصراعات الثقافية في الجزائر، ترجمة سليم قسطون، ص 39، دار الحداثة، لبنان. 1984م). وقام بهذه المهمة بصفة خاصة، بعض الجزائريين الذين حالفهم الحظ في الدخول إلى المدارس الرسمية والتخرج منها بنجاح، كالطبيب محمد الصغير بن لرباي (من شرشال)، والطبيب مورسلي (من قسنطينة)، وسي أمحمد بن رحال(من مدينة ندرومة) وغيرهم. هذا ومما تجدر الإشارة إليه، أن الحركة الوطنية الجزائرية قد استفادت من هذه النخبة الجزائرية ذات التعليم المفرنس، خلال مسارها الطويل. وظّف سي أمحمد بن رحال قلمه ولسانه للنضال من أجل الذود عن الهوية الجزائرية المتميزة بروحها الإسلامية، وكذا الدفاع عن مصالح الجزائريين المضطهدين بمقتضى قانون الأهالي، وظل ينافح في هذا الإطار لفترة طويلة، امتدت من سنة 1886م إلى سنة 1925م (حوالي أربعين سنة) دون كلل. واستغل وجوده في بعض المجالس المحلية، والمنابر العلمية، والإعلامية المتاحة له داخل الجزائر وخارجها للدعوة إلى ضرورة احترام الهوية الجزائرية في ركنيها الأساسيين: الإسلام واللغة العربية، وإلى رفع الحيف عن الشعب الجزائري في مجالات التعليم والتكوين والمعاملة الإدارية والقانونية والاقتصاد والتجارة والزراعة. ومن تجليات إخلاصه لوطنه، استقالته من منصب "القايد " سنة 1884م واحتفاظه بلباسه الجزائري الأصيل طيلة حياته. إن ما تجدر الإشارة إليه أن مساعيه ذات "المسحة الوطنية" لم تخرج عن إطار "المبادرة الفردية" في سياق "محاورته" للفرنسيين في ظل قوانين الدولة الفرنسية، لكنها ساعدت من جاء بعده على بلورة انشغالات الجزائريين وهمومهم، لتبرز في شكل حركة سياسية وطنية خاصة على يد الأمير خالد، عقب الحرب العالمية الأولى. بيئة نشأته نشأ سي أمحمد بن رحال في مدينة ندرومة العريقة، التي تقع في جبل فلاوسن بسلسلة طراره المشهورة بكونها قلعة للموحدين، أنشأها عبد المؤمن بن علي-في القرن الثاني عشر الميلادي- في موقع قرية أمازيغية صغيرة. ثم سرعان ما انتعشت الحياة فيها، وقد زارها الجغرافيون والرحالة كاليعقوبي (في القرن 9 م)، والبكري (في القرن 11م)، والإدريسي (في القرن 12م)، وليون الإفريقي (في القرن 16م)، فتحدثوا عن بساتينها الخصبة وحقول الزياتين الوافرة، وصناعاتها المتنوعة خاصة النسيج، بفضل حلول أهل الأندلس بها. كما تميزت بتجارتها الرائجة لوقوعها في الطريق التجاري الرابط بين الصحراء في الجنوب، والبحر المتوسط شمالا، الذي تطل عليه بواسطة مرسى "هنين". واشتهرت أيضا بمساجدها ذات القباب العديدة، وعلمائها ومقامات أوليائها الصالحين. ينتمي سي أمحمد بن رحال إلى أسرة عريقة في الثقافة والسؤدد، اشتهر أبناؤها بتولي مناصب الإمامة والتعليم والقضاء، أما أبوه حمزة فقد تولى منصب القضاء بندرومة في عهد الأمير عبد القادر، واحتفظ به في عهد الاحتلال الفرنسي إلى حين، ليتولى بعده منصب الأغا. وبالنسبة لتاريخ ميلاد أمحمد بن رحال فقد اختلف فيه المؤرخون بين سنوات 1857م، و1858م، 1861م، التي ذكرها على التوالي: د / عبد القادر جغلول (المرجع السابق)، وعاشور شرفي (éditions dahlab.mémoire algérienne) ، وعبد الرحمن الجيلالي(تاريخ الجزائر العام ، ج4. دار الثقافة. بيروت . ط 6 . 1983م). اهتم والده بتربيته وتعليمه، فأدخله إلى المدرسة الرسمية، وبموازاة ذلك كان سي أمحمد بن رحال الطفل يتردد على كتّاب حيّه، أين حفظ القرآن الكريم كما تشرّب الثقافة الصوفية من محيطه الاجتماعي، ثم انتقل إلى مدينة الجزائر لمواصلة تعليمه الثانوي، ويعتبره البعض أول شاب جزائري تحصل على شهادة البكالوريا. هذا وقد مكّنه مساره الدراسي الرصين من امتلاك ناصية اللغة الفرنسية دون أن ينبهر بثقافتها، الأمر الذي مكّنه من أن يكون منافحا لهويته الجزائرية الإسلامية بمنأى عن التزمت والانغلاق. وفي هذا السياق قال عنه الأستاذ والمؤرخ عبد الرحمن الجيلالي: "... ويا للفزع والهول الذي يلحق الفرنسيين حينما كان يقف ابن رحال يخطب في المحافل السياسية، أو يكتب في الصحف والمجلات الدورية، ويأتي بحججه القاطعة وبراهينه الناصعة في نصرة الإسلام والعروبة والوطن، مستشهدا على ذلك بواقع التاريخ، وما قرره العلم وأثبته المنطق، فترى ابن رحال يومئذ كالسيل الجارف فلا يأتي في طريقه عارض إلا أخذه وجعله كالرميم". أنظر كتابه: تاريخ الجزائر العام، الجزء الرابع، ص 469، دار الثقافة، بيروت، ط 6 سنة 1983م. دفاعه عن مصالح الجزائريين من المعلوم أن السياسة الاستعمارية الفرنسية -التي تجلت بصفة خاصة في قانون الأهالي- قد أهانت الجزائريين، وحرمتهم من حقوقهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتجارية، وأنزلتهم إلى ما دون المواطنة، وجعلتهم في درجة العبيد لخدمة المستوطنين. لذلك اتسعت نشاطات سي أمحمد بن رحال -بمعية الطبيب محمد الصغير بن لرباي (1850 - 1939م )- لتشمل مجالات عديدة، يمكن إجمالها في المحاور التالية: 1- الدفاع عن المحاكم الشرعية الإسلامية. 2- المطالبة بتعميم التعليم للذكور والإناث، وكذا بتدريس اللغة العربية للجزائريين. 3- معارضة مشروع "دى رودون" القاضي بتدمير المسجدين الجامعين، جامع الجديد، وجامع الكبير بالجزائر العاصمة. 4- السعي لتخفيض الضرائب على الجزائريين. 5- محاربة القانون القاضي بأخذ الجار بذنب الجار، أي قانون المسؤولية الجماعية المسلط على رقاب الجزائريين. 6- محاربة قانون التجنيد الإجباري. 7- رفض التجنيس لتعارضه مع الشريعة الإسلامية. 8- المطالبة بالمساواة بين الجزائريين والفرنسيين في قضية مصادرة الأملاك لضرورة المصلحة العامة. 9- رفع نسبة تمثيل الجزائريين في المجلس الشوري. 10- المطالبة بتعيين نواب الأهالي (الجزائريون) في المجلس الأعلى الخاص بسَنّ القوانين المطبقة على الأهالي. 11- معارضة القانون الذي يمنع الجزائريين من الرعي في الغابات. 12- المطالبة بمساعدة الفلاحين الجزائريين بتأسيس بنك عقاري يقدم لهم القروض، لسد الطريق أمام المرابين اليهود الذين يستغلون الجزائريين ويرغمونهم على بيع أراضيهم بأبخس الأثمان في الظروف الصعبة. نجح سي أمحمد بن رحال في استغلال شعارات الثورة الفرنسية كهامش للتعبير -في ظل السيادة الفرنسية- عن انشغالات الجزائريين، ووظف قدرته الفائقة على المحاورة، للدفاع عن مصالحهم في المجالات المذكورة آنفا، هذا وقد فرض عليه الظرف السياسي العصيب الالتجاء إلى المصانعة والمراوغة في نضاله الهادئ، حتى لا يؤلّب الفرنسيين ضده، وقد مكّنته مرونته الفائقة من تمرير مطالبه ذات المسحة الوطنية، دون أن يثير الزوابع ضد نفسه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قدم كلمة أمام لجنة الشيوخ يوم 18 جويلية سنة 1891م، مهّد لها بذكر فضائل الحضارة الفرنسية التي شاءت الأقدار أن تصل إلى الجزائر، مذكرا أن إحاطته باللغة الفرنسية تؤهله لمعرفة النوايا الحسنة للدولة الفرنسية، لذلك فإنه لا يجد حرجا في استعمال "خطاب الصراحة" الذي يلزمه بأن ينبّه المسؤولين الفرنسيين، ويشير عليهم بضرورة فتح الأبواب أمام الجزائريين لاختيار ممثليهم في مختلف المجالس المحلية والجهوية والوطنية، لأنهم أدرى بقضايا إخوانهم، مع ضرورة تمكينهم من نفس الصلاحيات والسلطات التي يتمتع بها زملاؤهم الفرنسيون. دفاعه عن الإسلام لقد جعل سي أمحمد بن رحال أمر الدفاع عن الإسلام حجر الزاوية في نضاله الهادئ من أجل صيانة الهوية الجزائرية، وبرهن بالأدلة العقلية على أن الإسلام دين حضارة وتمدّن، جعل سعادة الإنسان محور نشاطه. والحق أنه أبهر المستمعين خلال مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في باريس سنة 1897م، عندما ألقى محاضرة بعنوان "مستقبل الإسلام" دلت على قوة تفكيره وسعة مداركه المعرفية وعمق تحاليله. وقد استهل أمحمد بن رحال محاضرته بالإشارة إلى عدم إلمام أهل الغرب بموضوع الحضارة الإسلامية وفكرها النيّر وإسهاماتها في خدمة الإنسانية، ورغم ذلك -يضيف- فإن المهتمين بها هم قلة. هذا وقد طرح إشكالية مستقبل الإسلام في أربعة محاور: 1- قيمته الذاتية: تساءل المحاضر عن مجالات العقيدة والحياة السياسية والاجتماعية، ومدى قدرته على البناء الحضاري. وفي الحقيقة فإن طرح هذه الفكرة -بالنسبة له- لا يعدو أن يكون مجرد "سؤال المدرك"، لأنه لم يشكّ في قدرة الإسلام على البناء الحضاري، وقد برهن على ذلك في عصوره المزدهرة حينما أضاف المسلمون بصمتهم الواضحة إلى رصيد الحضارة الإنسانية، فضلا عن إسهامهم في نقلها إلى ربوع عديدة من العالم، ثم أبرز تميّز الإسلام ب "الوسطية" التي حققت للمسلم التوازن المطلوب في الحياة، بفضل احترام حقوق الإنسان، ذكورا وإناثا، بألوانهم ولغاتهم وأعراقهم المختلفة، في ظل التضامن والتكاتف ومنع القرض بالفائدة لتلافي الصراع الطبقي المضر، واعتبار العمل والتقوى معيارا للتفاضل، وتفضيل العفو على العقاب، خلافا للديانة اليهودية التي ركزت على التشريع إلى درجة التشدد في العقاب، والديانة المسيحية التي ركزت على التسامح إلى درجة الخور. 2- حاضر المسلمين: لاحظ سي أمحمد بن رحال أن مأساة المسلمين تكمن في "الجهل المطبق" الذي ألقى بجلبابه على الأمة الإسلامية، وبلغ من الخطورة أنه لم يقتصر على جهل المعارف والعلوم الحديثة فقط، بل امتد إلى مجال العقيدة التي لوثتها ممارسات الدروشة والشعوذة، لذلك وقع المسلمون في انحطاط رهيب، جعلهم يتقوقعون على حياتهم الراكدة، ويرفضون كل الأفكار الواردة لعجزهم عن التمييز بين الصالح والطالح. ولئن كان صحيحا -يضيف- أن الأفكار الواردة ليست كلها صالحة لنا، فإن ذلك لا ينفي حاجتنا الماسة إلى الاقتباس، في مجالات العلوم الدقيقة والنظم الإدراية والسياسية والأشغال العمومية، والتعليم، والتجارة، والزراعة، والصناعة. ثم أكد سي أمحمد بن رحال أن الحضارات القديمة قد بادت، لأنها قامت على الديانة الوثنية، ليستدل بعدها بمقولة يهودية مفادها أن الشعوب التي لها ديانة سماوية فإنها لا تموت أبدا. 3- سياسة الدول الإسلامية: اعتبر سي أمحمد بن رحال "ظاهرة الانقسام والتشتت" مصدر بلاء المسلمين، وانتهت الصراعات الحادة بين حكامهم إلى تعطيل النمو. علما أن الإسلام قد تجاوز بقيمه السامية ذهنية العرقية والعصبية والشعوبية، كما خصص مكانة محترمة لأهل الكتاب (أهل الذمة) في كنف المجتمع الإسلامي، وأكد المحاضر في هذا السياق أن الطوائف المسيحية واليهودية بصفة خاصة، قد عاشت حياة كريمة في ظل الدولة الإسلامية، واستدل على ذلك بوصول بعض اليهود، في ظل الدولة المرينية في المغرب، إلى منصب الوزير. كما كان باب الترقية مفتوحا -أيضا- أمام العبيد، فوصل بعضهم إلى مناصب عليا في إدارة دفة الدولة، في حين أن العالم المسيحي-يضيف- لم يصل بعد (في عهده) إلى ما حققه الإسلام، بدليل أن الأهالي مبعدون عن مناصب المسؤولية ما لم يتجنّسوا. وأمام فقدان أوروبا لقيمها الأخلاقية والأسرية، وسقوطها في هوة الخلاعة، بفعل انتصار النفس الأمارة بالسوء، تساءل سي أمحمد بن رحال إن لم تكن أوروبا أكثر اعتلالا من المسلمين، ما دامت العقيدة الإسلامية قادرة على إنقاذهم من وضعهم المتردي والدفع بهم نحو الرقي والسؤدد؟ 4- دعم العالم المتحضر: لاحظ سي أمحمد بن رحال -بكل أسف- في محاضرته أن نظرة العالم المتحضر إلى الإسلام سلبية، تشوبها الريبة والشك، إذ يتوجس الغربيون خيفة من سلوك المسلمين ولو كان مشروعا، كما اختزلوا مواقفهم منه في الأحكام المسبقة التي لا مبرر لها، ولا شك أن حصاد هذه السياسة يتمثل في زرع الأحقاد بين المسلمين والأوروبيين، ومن الطبيعي -يضيف- أن يكون رد فعل المسلمين من نفس الجنس. والجدير بالذكر أن سي أمحمد بن رحال قد كانت له الجرأة الكافية لتنبيه الفرنسيين -ومن ورائهم الغرب برمته- إلى أن تمادي إدارتهم في قهر الجزائريين والزج بهم في أتون البؤس والحرمان، قد يعود بالعواقب الوخيمة عليهم "... إنه لمن مصلحة العالم المتحضر أن يلتفت إلى الإسلام، قصد مساعدته على النهوض والتمدن بالطريقة التي لا تسيء إليه، فإن لم يفعل، فسينهض بالطريقة التي تسيء إليه". أنظر L'avenir de L'islame etautres écrits. édition ANEP. 2005. p36 وعليه فالحل -برأيه- يكمن في ضرورة فتح "حوار حضاري"، قصد معرفة الآخر، واحترامه في خصوصيته، ومثلما احتضن المسلمون الإسلام بالأمس عن طريق "القناعة" فقط، فمن الممكن أن يحتضنوا بنفس الأسلوب قضية الحضارة أيضا، ثم أنهى المحاضر كلمته بالإشارة إلى أن القرن العشرين سيعرف أحد الاحتمالين: إما التوجه نحو التقارب "الإسلامي / الفرنسي"، وإما حدوث الكارثة.(ص 40 من نفس المصدر المذكور آنفا) دعوته إلى تعميم التعليم بين الجزائريين اعتبر سي أمحمد بن رحال مسألة التعليم بمثابة ثالث الأثافي، في نضاله من أجل الدفاع عن حقوق الجزائريين، باعتبارها حجر الزاوية في الحفاظ على الهوية الجزائرية. وشرع في نضاله هذا منذ سنة 1887م، حينما قدم اقتراحه بعنوان "دراسة حول تطبيق التعليم العمومي في البلدان العربية" معتمدا على مرسوم سنة 1883م الذي أقر فتح التعليم العمومي أمام الأهالي في الجزائر. وذكّر الفرنسيين أن مجيئهم إلى الجزائر قد تم بحجة "نشر الحضارة"، ليتساءل -بعده- إن كان هناك أفضل من نشر التعليم لتحقيق هذا الشعار؟ كما أوضح أن الطفل الجزائري يملك -كغيره من الأجناس- القابلية للتعلم والتحصيل، خلافا لما يروجه غلاة المستوطنين الذين يتخذون تمسك الجزائريين بتقاليدهم حجة لحرمانهم من التعلم والتكوين. ثم اقترح تعميم التعليم المجاني، ونقل المدارس إلى عمق الجزائر ليستفيد منها الأطفال أكثر، مع إشارته إلى ضرورة تجهيزها بالوسائل التعليمية الضرورية. وبالنسبة للتأطير التربوي فقد دعا إلى جزأرته، ثم أوصى بضرورة فتح الوظيفة الإدارية أمام الجزائريين المتعلمين، لتحفيز الأولياء على إرسال أبنائهم إلى المدرسة. مطالبته بتدريس اللغة العربية وفي سنة 1921م تخطى سي أمحمد بن رحال مرحلة جديدة هامة في دفاعه عن شخصية الأمة الجزائرية حين طالب بتدريس اللغة العربية للجزائريين، باعتبارها لغة الأمومة لهم، يعبّرون بها عن قيمهم وثقافتهم وفكرهم، لذلك لا يمكن -برأيه- أن تحل الفرنسية محلها، وقال في هذا السياق: "...جميل جدا أن تفتح المدارس الفرنسية، لكن إهمال المدارس العربية يعد خطا لا يغتفر". أنظر المصدر المذكور آنفا، ص 81. هذا وقد أشار في هذه الكلمة التي ألقاها أمام أعضاء اللجنة المالية، إلى أن رئيس لجنة تقصي الحقائق البرلمانية التي أرسلت إلى الجزائر - السيد جول فيري- قد سبق له أن تفهم الانشغالات التي عبر عنها سي أمحمد بن رحال في إحدى اللقاءات، حين قاطعه قائلا: "... لقد فهمت، إن هناك في مشروعك أفكارا لا يجوز للحكومة أن تمهلها، لذلك سأتبنى مشروعك؛ وسأتكفل به !" ثم انتقد بوضوح التهميش الذي طال تدريسها، ذاكرا قلة الوقت المخصص لها، وسوء إعداد المعلمين. هذا وقد أشار إلى التلازم القائم بين اللغة العربية والقيم الروحية الإسلامية التي تعد بمثابة حجر الزاوية لها، ومن شأن الاهتمام بتدريسها من طرف معلمين أكفاء أن يعمل على إنقاذ الأطفال من تداعيات الجهل وأخطار الشوارع، التي تهدد المجتمع. ولا شك أن سي أمحمد بن رحال كان يهدف من وراء ذلك إلى تصحيح التصورات الخاطئة التي رسمها الفرنسيون عن الإسلام، ودوره الحضاري وعلاقته بالتمدن. والجدير بالذكر أن هذا الاقتراح قد أثار غضب الكثير من ممثلي المعمرين الذين اعتبروه "اعتداء" على فرنسا. تلكم هي الخطوط العريضة لمحامد المثقف سي أمحمد بن رحال، الذي لم يدخر أي جهد من أجل الدفاع عن مكونات الشخصية الوطنية الجزائرية، عن طريق استغلال المنابر السياسية العلمية، لمحاورة الفرنسيين في أمر ضرورة احترام شخصية المسلمين في الجزائر. ولئن كانت هذه الجهود لم ترق إلى مستوى "المشروع السياسي الوطني"، فقد كانت خطوة إيجابية في الاتجاه الصحيح، ومقدمة له.