تستقبلك المدينة بحرف "القاف" الواقف على جدرانها وأعمدة الكهرباء، وبأرصفة مكسرة وبنايات في طور الإنجاز، تستقبلك رائحة الغبار المتطايرة في كل مكان وتذمر سكانها من الزحام واختناق حركة المرور جراء الورشات المفتوحة في كل مكان باختصار إنها عاصمة الثقافة العربية ترحب بك. لا شيء يوحي بأن الوعود التي قطعتها وزارة الثقافة والسلطات المحلية بتسليم المشاريع في عاصمة الثقافة العربية في آجالها المحددة ستتحقق، فعندما دخلنا المدينة قبل يومين من الافتتاح الرسمي للتظاهرة كانت الأشغال ما تزال جارية في الطرقات وتهيئة الأرصفة والفنادق وقاعات العرض التي ستحتضن مختلف الفعاليات المبرمجة. ففندق الماريوت الذي سيستقبل الضيوف العرب لم تنته به الأشغال بعد. الدخول والتصوير ممنوع لكن أخبرنا بعض المطلعين على المشروع أن عددا من الغرف التي تأوي الضيوف الرسميين تم تجهيزها ليعاد غلقه من جديد في انتظار أن يدشن بصفة رسمية في الخامس من جويلية القادم. الفنادق التي يجري بها الترميم أيضا لم تنته بها الأشغال مثل البانوراميك وفندق سيرتا. الفنادق الموجودة في المدينة لا تكفي لاستقبال كل الضيوف الوافدين إلى عاصمة الثقافة فالحصول على غرفة في فندق وقضاء ليلة في قسنطينة مشروع كبير بحاجة لتخطيط مسبقا. فكل الغرف الجاهزة تم حجزها والسلطات الولائية طالبت بإخلاء غرف بعض الفنادق التي حجزت للإعلاميين تحسبا للأعداد القادمة من ضيوف الافتتاح. فقد طلبت السلطات الولائية بإخلاء بعض الغرف التي حجزتها الفرق الإعلامية.
الإعلاميون تائهون بدون إيواء والمحافظة غير معنية يومين قبل افتتاح التظاهرة كان رجال الإعلام يتساءلون عن الجهة المخولة بمنحهم اعتمادات العمل للقدوم لعاصمة الثقافة، فممثلو الصحافة الدولية ما زالوا ينتظرون اعتماد اتهم للقدوم إلى قسنطينة، رغم أن البعض منهم تلقى دعوة للحضور لكن الاعتماد تجاذبته أطراف عدة بعدما نزعت المحافظة من الديوان صلاحيات منح الاعتماد للصحفيين بينما المحافظة لا تتوفر على مكلف بالإعلام يمكنه القيام بهذه المهمة. وأسندت المهمة أخيرا للمركز الدولي للصحافة الذي اعتمد بكل سهولة كل الصحفيين الذين توجهوا إليه ولكن بدون ضمان المأوى لأن ذلك من صلاحيات المحافظة. التجوال في مدينة قسنطينة عذاب حقيقي جراء صعوبة حركة المرور والغبار المتطاير في كل مكان، المدينة كلها ورشات مفتوحة والسكان متذمرون من هذا العذاب اليومي خاصة وأن مركز المدينة تم غلقه لأشغال التنظيف التي انطلقت منذ يومين فقط من انطلاق التظاهرة حتى وزارة التضامن أصدرت تعليمة للسلطات المحلية بجمع المشردين والمجانين من شوارع المدينة وإيوائهم بالمراكز تحسبا لذوق الشارع خلال التظاهرة.
أين المرافق الجاهزة يا بن الشيخ ووالي قسنطينة؟ عندما كانت الوزيرة لعبيدي تتحدث في فروم الإذاعة عن احتضان المجتمع المدني للتظاهرة على أمواج القناة الأولى كنا في "طاكسي" توجه بنا إلى بيت مالك حداد، الشاب الذي كان يقود السيارة لا يعرف حتى من يكون مالك حداد؟ كم شخصا سألناه عن المكان فدلنا على المركز الثقافي الذي يحمل اسمه الكاتب الذي مات عشقا للغة العربية وصمت إلى الأبد؟ في الأخير نصل إلى البيت ذي الأبواب والنوافذ الزرقاء، هناك أطل قريب وصديق طفولة مالك حداد الأستاذ جمال علي خوجة الذي وصل لتوه من الجامعة، رغم هذا استقبلنا في بيته وتحدثنا مطولا عن صديق طفولته الذي صمت احتراما للغة أحبها ومات عاشقا لها. كان الأستاذ يتحدث بإسهاب عن إنسانية مالك الذي كان يحب الكتابة ليلا ويتحدث إلى أوراقه بصوت مرتفع، وفي الصباح يمزق ما ليس راضيا عنه، كان يحب الليل مثلما يحب امرأة جميلة، وعن سر عشقه للون الأزرق قال علي جوجة إن مالك كان يرمز بهذا اللون للسلام ولون المتوسط الذي أحبه، كان عندما يشتد به الوجع في المعدة يكتب بعصبية ويقوم برش واجهات لوحاته بالأزرق.
الشروق في بيت "مالك حداد" وبن باديس بيت مالك حداد ما زال يحافظ على طبيعته الأولى وألوانه الزرقاء البهية وكأن طيفه واقف جنب الطاولة التي كان يحب الكتابة عليها ليلا. مالك حداد رفض عدة مناصب اقترحها عليه بومدين وبقي وفيا لنفسه وكتبه. يعود الأستاذ علي خوجة بذاكرته إلى الوراء إلى أيام الطفولة في المدرسة الفرنسية عندما كان الحديث بالعربية كفيلا بأن يصنفك في خانة الاندجان، مالك الذي فرضت عليه المدرسة الفرنسية كان يتجول أزقة المدينة وهو يحمل روح الوطن فيه كان صديقا لمحمد يزيد ومحبا لفرحات عباس والكثير من القيادات الوطنية. علي خوجة الذي حضر دكتوراه الدرجة الثالثة من فرنسا عن أعمال مالك حداد رفض أن يتحدث عن قصة بيت مالك الذي كان يمكن أن تصنفه وزارة الثقافة كمتحف واكتفى بابتسامة غير مبالية يرسمها بحكمة أستاذ جامعي أتعبه الواقع المر لتجاهل رموز صنعت عروبة قسنطينة. اكتفينا من جهتنا بأخذ صور للذكرى في بيت أحد عظماء قسنطينة، فما فائدة الحديث عن عاصمة الثقافة العربية ومن مات عاشقا وشهيدا لهذه اللغة تنكره شوارع المدينة وذاكرة الجيل الجديد؟
الراي يعوض المالوف والخراب يسكن "القصبة" في باب السويقة ورحبة الصوف والقصبة المباني القديمة تنهار أرصفة وضجيج الباعة ورائحة المأكولات الشعبية تصفع الأنوف هي كل ما تبقى من عراقة المدينة، بقايا مواد البناء، الإسمنت، القضبان الحديدية، والألواح في كل مكان فيما كان الزميل جعفر يأخذ صورا لموزاييك الأشغال الجارية كنت أنا أتحدث إلى أحد شيوخ المدينة الذي ما زال يحن إلى الزمن الجميل يشير إلى انهيار المباني القديمة ويقول " كيف يمكن أن نتحدث عن عاصمة الثقافة العربية بدون التراث؟ بدون البناء التركي القديم وبدون تراث ابن باديس في هذه المدينة؟ كيف نستقبل الأجانب في فنادق الماريوت وابيس؟ ماذا نقدم لهم؟ وكيف نجعلهم يكتشفون أن قسنطينة ليس عربية فقط، لكنها المدينة التي صمدت على مر التاريخ ؟. لم أعرف حجم وثقل أسئلة هذا السائر إلى شيخوخته بأمان وهو يدلني على بيت ابن باديس إلا عندما دخلت البيت. ورشة الترميم مفتوحة منذ 2014 .. والبلاط مقلوع، ورشات الترميم فتحت به منذ ماي 2014 ولم يتم انجاز أي شيء بهذا البيت الذي قضى به رمز عروبة قسنطينة 40 سنة وهو يفسر القرآن ويدرس ويستقبل طلاب العلم من كل حدب وصوب، يوم كانت قسنطينة عاصمة حقيقية للعلم والثقافة. صدمة حقيقية يتلقاها الداخل إلى البيت وهو يرى الحالة التي وصل إليها. استقبلنا شاب في أواسط الثلاثينات قال إنه الحارس الذي عينته وزارة الثقافة من أجل حراسة المكان لم يتلق أجره منذ عام والمقاول المكلف بالمشروع لم يظهر منذ ستة أشهر لنفس السبب مستحقاته المالية العالقة بوزارة الثقافة، وبين هذا وذاك صورنا الأطلال وغادرنا درب ابن باديس بحثا عن مسجده" الأخضر" الذي كان يلقي فيه خطبه ويصلي فيه.
زحام حول تمثال "بن باديس" و"المسجد الأخضر" مقفل المسجد هو الآخر مقفل لأشغال الترميمات اكتفينا بأخذ صورة لدرب الجزارين واللافتة التي تعلو مدخل الحي وعليها كتب" 5 أوت 1935 معركة بين اليهود والعرب المسلمين دفاعا عن المقدسات". الشيخ عبد الحميد بن باديس، أطلق عليها اسم فاجعة قسنطينة، بينما وصفتها السلطات الفرنسية بأنها معركة قسنطينة.. وهي المعركة التي دفع اليهود ثمنها غاليا منذ أن سبّ أحد أبنائهم الرسول- صلى الله عليه وسلم - في قلب جامع الأخضر، فوقفوا إلى جانب الفرنسيين في الثورة، فقتل رمزهم الفنان الشهير ريمون، بينما فر من بقي بعد الاستقلال غير بعيد درب 40 شريف حيث تعرض ابن باديس لمحاولة اغتيال عام 1932 من قبل أنصار الزاوية العلوية. في ساحة المدينة كان الشبان يتزاحمون على تمثال ابن باديس لالتقط الصور وهم يناقشون لماذا تم تصويره في وضعية رفع يده اليسرى بينما في الصور الحقيقية يرفع اليمنى يجيب أحدهم حتى لا يرفع القرآن باليسرى؟ في الوجهة المقابلة لأرصفة المنزوعة البلاط. عمال يقومون بأعمالهم بروتين وملل تحت سياط الحرارة التي بدأت مبكرا هنا، بينما المدينة تحت حصار أمني تحسبا لأي أعمال شغب ممكنة، خاصة وأن التجار الذين اخترقت محلاتهم المقابلة لفندق ابيس ما زالوا يفترشون الأرصفة المقابلة في انتظار أي مستجدات بخصوص التعويضات التي يمكن أن تدفع لهم.
فنيون إسبان يبدعون في قصر "أحمد باي" تقودنا أقدامنا إلى حيث "مقهى نجمة" الشهير الذي يعرف خطى كاتب ياسين، المقهى مغلق هو الآخر للترميم، يقودنا ضجيج الأسواق وصراخ الباعة إلى محلات الذهب والمجبود المنتشرة في أزقة السويقة والقصبة المدينة ترثي تراثها وتاريخها يرتفع صوت الراي ويقذف بنا بعيدا إلى قصر أحمد باي حيث جزء من تاريخ المدينة ينام من زمن الأتراك. ونحن نتجول في بهو القصر صادفنا فنيين إسبان يعيدون رسم المنمنمات على الجدران بصمت وهدوء وإتقان منقطع النظير الأشغال تجري في إطار الترميمات التي تستكمل في القصر الذي يؤرخ لقصة حب بين آخر بايات قسنطينة ومدينة اسمها سيرتا، يوفر لك القصر جولة مختصرة في عمق التاريخ، يتوفر على حديقتين واحدة للبرتقال بها شجرة الأرز اللبناني تعود لزمن نابليون بونابرت الذي أرخ بها لسقوط قسنطينة على يد الفرنسيين في 1837 وحديقة أخرى للنخيل. إضافة إلى غرفة الديوان ومحكمة مدنية بالمذهبين الحنفي والمالكي ومحكمة عسكرية وجناح للقضاء وآخر لحريم القصر بناه المهندس الإيطالي "شيافينو" واثنان من أشهر الفنيين "الحاج الجابري" و"الخطابي"، افتتح القصر الشاهد على جمال العمارة العثمانية في خريف 1835م. إلا أن أحمد باي لم يسكن القصر إلا عامين، وتسقط قسنطينة في يد القوات الفرنسية عام 1837م.
قاعة المسرح جاهزة.. وحملة تنظيف لاستقبال سلال غادرنا قصر أحمد بأي إلى المسرح الجهوي، بناية عتيقة من عهد الاستعمار الفرنسي لم يتم تجديد طلائها من الخارج، فيما أعيد ترميم قاعة العرض بشرفاتها وكسوة المقاعد بقطيفة جديدة أعطت للقاعة لمسة جمالية خاصة، أما البهو الخارجي فكانت أشغال التزين والطلاء ما تزال متواصلة به الرواق تحول إلى ورشة مفتوحة على بقايا الزجاج والألواح. جميع الطرقات المؤدية إلى وسط المدينة تم إغلاقها من أجل حملة التنظيف وأشغال التهيئة التي أخذت وتيرتها تتسارع في اليومين الآخرين، فالدخول والخروج ومن وإلى المدينة يتحول إلى جحيم حقيقي ولا حديث وسط الناس البسطاء إلا عن الزحام. أحد الشبان العاملين في المتحف قال أن بناء مدينة لا يتم بين يوم وليلة ولا حتى في سنة، المدينة مشروع تتم صياغته على المدى الطويل بدمج مشاريع التنمية المحلية مع المتطلبات الثقافية للبلد لأن أي تظاهرة لا يحتضنها الشعب ولا يتفاعل معها لن تكون لها أي فائدة وربما علينا أن ننتظر لوقت طويل حتى نرى نتائج ملموسة للمشاريع التي تم إطلاقها في قسنطينة وهي التي لم تحتضن أي مشروع جدي منذ الاستقلال. قسنطينة مثل كل المدن الجزائرية تنام باكرا وهي تواجه رهان تغيير هذه العادة، خاصة وأن الفعل الثقافي مرتبط بالحياة الليلية ويمكن للمدينة أن تسوق سياحيا وثقافيا بتوفير خدمات بدون انقطاع للزوار، فالجسور وأشجار الشوارع في قسنطينة تصير أجمل عندما تنيرها الأضواء الملونة، فالليل يغطي عيوب النهار كما تواجه مدينة الصخر العتيق إعادة الاعتبار لثقافتها والكثير من الحرف التي توشك على الاندثار في الأزقة القديمة، فهل تتمكن عاصمة الثقافة من كسب الرهان. الأيام وحدها كفيلة بالإجابة.