لم يكن الحضور العربي في الدورة التاسعة والعشرين لصالون جنيف الدولي للكتاب والصحافة التي احتضنتها عاصمة المال الحلال والحرام والأعمال والهيئات العالمية من التاسع والعشرين من الشهر الماضي وحتى الثالث من الشهر الجاري بنفس النكهة والطعم بسبب غياب الروائية أحلام مستغانمي التي صنعت الحدث في دورة العام الماضي إلى جانب ابن جلدتها واسيني الأعرج. اسماء عربية آخرى كثيرة آخرى تغيبت، لكن ليس بالشكل الذي ميز الغياب الجزائري التراجيدي هذه المرة مقارنة بدول معروفة بفقرها وبجوع ابنائها ، ولعل جناح الأفارقة الذين لا يملكون الملايير التي تبذر لحظة كتابة هذه السطور في مدينة ابن باديس ومستغانمي ومالك حداد خير دليل على تأخرنا الفظيع في مواكبة الجيران البعيدين والقريبين على السواء. لم يكن الحضور الجزائري حديث أحد، ولولا حديثنا مع يونس عجراي المسؤول عن جناح الثقافات العربية لما بلغنا تحسر الكثير لغياب أحلام مستغانمي التي انتظرها معجبوها ولاسيما بنات حواء اللواتي تهاتفن عليها حاملات شتى أصناف الورد ولما عرفنا أن بوعلام صنصال قد وافق على تلبية الدعوة لحضور الدورة القادمة التي ستصادف الذكرى الثلاثين لميلاد صالون الشعب السويسري الاسعد عالميا بحسب أحدث الدراسات الاجتماعية. عيسى مخلوف الروائي السوري ومدير الاخبار في إذاعة الشرق التي تعد راعيا اساسيا للصالون تغيب هو الآخر بسبب ضغط الشغل، لكن رفيق دربه السوري الآخر فاروق مردم باي مدير سلسلة سندباد في دار "أكت سود" قد حضر إلى جانب رانيا سمارة واللبنانيين إلياس خوري وصلاح ستيتيه وكوليت فلوس والمغربيين عبد اللطيف اللعبي وكبير مصطفى عمي والمصري الشهير صنع الله إبراهيم صاحب الروايات البديعة نجمة أغسطس واللجنة والجليد والشيوعي الذي لم يجد حرجا في الإشادة "للشروق" بالسيسي الذي جنب مصر حربا أهلية على حد تعبيره. تونس لم تكن حاضرة هي الأخرى لكن تكريم الأديب الراحل عبد الوهاب مدب الذي رحل العام الماضي في باريس عوض بشكل كبير عن تواجد تونسي غير مباشر وكان مدب مبرمجا لحضور الدورة الجديدة رغم مرضه الذي استفحل لاحقا وأدى إلى وفاته. الشاعر صلاح ستيتيه ينقذ الحضور العربي ومن بين المحاور التي أعطت زخما للحضور العربي نذكر الصالون الأدبي الذي حضرنا فيه جانبا من اللقاء الذي جمع الشاعر الكبير صلاح ستيتيه بحضور مترجمه إلى الإيطالية جيوفاني دوتلي الذي يحسن التحدث باللغة الفرنسية، الأمر الذي سهل عليه مهمة التعريف بالكاتب اللبناني الأصل الذي مثل بلده في اليونسكو وفي كل من المغرب وهولندا كسفير استثنائي وكمثقف كبير ترجم الشعر العربي إلى الفرنسية وعاصر كبار الشعراء والرسامين الفرنسيين، وتحدث ستيتيه بإسهاب عن كتاب مذكراته الضخم "غرائب" الذي صدر العام الماضي في باريس عن دار روبير لافو وهو الكتاب الذي غطى كل حياته الأدبية والفكرية والفنية الزاخرة بلقاءات مع سياسيين ومثقفين كبار مثل جورج شهادة والجنرال ديغول. اللقاء الذي جمع بين الروائيين اللبناني إلياس خوري والمصري صنع الله إبراهيم بحضور الكاتبة والناقدة رانيا سمارة كان أكثر تميزا وإثارة بحكم خصوصية تجربة الكتابة الروائية عند الإثنين وتحدث الثاني عن الكتابة من وراء قضبان الزنزانة. ومما جاء في اللقاء قول الخوري إن لبنان وفلسطين والشرق الأوسط قد شكلوا محورا ثلاثيا في رواياته وخاصة لبنان الذي يلخص مأسي ومفارقات العالم في حين تحدث صنع الله إبراهيم عن كيفية تحايله على الحراس للكتابة في الزنزانة على ورق الاسمنت، كما قال الخوري أن أحد أبطاله في روايته التي تحكي قصة مهاجر لبناني يشبه المثقفين اليساريين الجبناء على مرأى ومسمع رانيا سمارة اليسارية وصنع الله ابراهيم الشيوعي ويونس عجراي التقدمي العلماني.
مالك شبل وعبد اللطيف اللعبي يحاضران حول التطرف الديني فقرات أخرى برمجت في اطار نشاطات جناح الثقافات العربية، وتمثلت في اللقاءات التي جمعت الجمهور مع مالك شبل ومردم باي وعبد اللطيف اللعبي والتي تمحورت حول التطرف الديني الذي يشهده العالم العربي والإسلامي. معرض الكتاب الذي سهر عليه الأن بيطار السوري المصري والسوداني الاصل ومؤسس المكتبة العربية عي جنيف منذ 35 عاما وصاحب إطلاق فكرة إنشاء جناح للثقافات العربية (غدا ينشر حديثنا ومعه يونس عجراي في اطار الحلقة الثانية للتغطية) كان الفقرة الاهم التي عكست انتاج حوالي 100 دار نشر عربية. وكما كان منتظرا في سياق عربي فجائعي، سيطرت الكتب السياسية التي تناولت المأسي الطازجة وأقبل الزوار على كتب تحمل عناوين مثيرة اقرب الى المفهوم التجاري وعلى الاخرى الفكرية والرصينة ومن بينها "الجغرافيا السياسية للإسلاميين وإلى أين يذهب العالم العربي ودروب دمشقوتونس .. أسئلة لبلدي والفرنسيون الجهاديون وعن الإسلام والمسلمين والأخلاق الإسلامية وكيف اصبح الحجاب مسألة إسلامية وحالة العالم العربي واليمن مقاطع من ثورة مختارة والعنف والسياسة اليوم والشرق الأوسط اليوم والمأساة السورية والبرابرة الجدد والعربية السعودية مملكة الظلام وفخ داعش والدولة الإسلامية ومن الربيع العربي إلى الشتاء الإسلامي إلى آخر العناوين المثيرة التي تعكس جهد متخصصين محترمين وآخرين دخلاء ركبوا الموجة باسم الاجتهاد الصحفي والدعاية الإيديولوجية.
روسيا دب ثقافي على ضفاف بحيرة ليمان البديعة كتبت إيزابيل فالكونييه رئيسة صالون جنيف للكتاب والصحافة في الملف الصحفي "إن صالون جنيف قناة وساطة ثقافية وأدبية رائعة يسمح كل سنة بابتكار أساليب جديدة تسمح بنقل عالم الكتاب وجعل اللغة والفكر والقراءة محاور حدث فريد من نوعه وبهذا المعنى الكتاب ليس في حاجة إلى مناضلين لأنه قادر على أن يدافع عن نفسه وحده بكل الوسائط المذكورة الكفيلة بإرضاء الشرائح المختلفة من الجمهور الذي نطمح أن يقارب هذه السنة المائة ألف" .. الحقيقة التي تحدثت عنها السيدة فالكونييه هي الحقيقة التي وقفنا عندها ونحن نتجول عبر فضاءات التظاهرة التي نظمت من التاسع والعشرين من الشهر الماضي حتى غاية الثالث من الشهر الجاري في قصر المعارض غير بعيد عن قلب العاصمة السويسرية، وألان بيطار السوري والمصري وسوداني الأصل وصاحب فكرة تأسيس الجناح بعد 35 عاما قضاها على رأس مكتبة جنيف العربية الأولى ويونس عجراي مسؤول الجناح ورئيس مهرجان الثقافة المغاربية سابقا في مدينة كون الفرنسية الواقعة شمال فرنسا والمقيم حاليا على ضفاف بحيرة ليمان البديعة بجوار حسين آيت أحمد أطال الله عمره عبر مساحة 32 ألف متر مربع، اصطفت أجنحة حوالي 800 دار نشر أوروبية وفرنكفونية وسويسرية وعربية (حوالي مائة استنادا للكتب المنشورة عربيا والمعروضة للبيع بحسب ميشال شوفالييه) واقتصرت المشاركة العربية كأجنحة على دور جمعية الجالية التونسية في سويسرا والناشرين المغاربة ووزارتي التربية السعودية والأوقاف والشؤون الدينية الكويتية وليس أكثر وجمعية النساء المسلمات الثقافية وليس أكثر؟
حرب باردة روسية وبروز إفريقي لأن البلد القوي لا يمكن أن يكون كذلك دون ثقافة وفكر وأدب، كتب عن روسيا في الملف الصحفي أنها تشارك بجناح يغطي مساحة 600 متر مربع ويعكس غناء النشر في بلد تولستوي وديستوفسكي وتشيكوف وسولنتجسين. روسيا التي تنشر أكثر من 100 ألف كتاب سنويا حضرت في جناح بديع طلي بألوان العلم الوطني (الكتاب هو الوطن والذاكرة والشخصية والوجود لمن لا يفهم المغزى) واستقبل أهم كتاب روسيا اليوم بمن فيهم فلاديمير ميدنسكي وزير الثقافة الذي لايسير شؤون وزارته فقط بل ويبدع كتابة مثله مثل أوجين فودولازكين ووزهار بريبلان واندري غيلاسيموف واندري بالدان ورومان ساتشان وأوليغ بافلوف وفلادسلاف اوتروشنكو ومارينا ستنبوفا وإلى جانب آخرين. هؤلاء اجتمعوا مع نظرائهم الأوروبيين والسويسريين الذين التقوا للدفاع عن الفرنكفونية المهددة في إطار حرب باردة تمتد للساحة الثقافية وغير محصورة في الصراع السياسي التقليدي القائم بين العم سام والدب الأبيض.
إفريقيا .. الفنون بكل الحروف
جناح الصالون الإفريقي الذي جاور جناح الثقافات العربية كان هو الآخر محطة مرجعية ثقافيا في الدورة التاسعة والثلاثين لصالون جنيف. من جهتها، حضرت القارة السمراء بقوة لافتة من خلال الصالون الإفريقي الذي يحضر منذ 12 عاما هذه المرة وتحت شعار "الفنون بكل الحروف"، شاركت الدول الإفريقية بعدد كبير من الكتاب الروائيين والمسرحيين والمخرجين والرسامين مواكبين الأحداث والمستجدات التي تتلخص وتختزل إعلاميا في المد الديني المتطرف ولعل الترويج لفيلم تمبكتو الذي تناول الموضوع خير دليل على ارتباط المشاركة الإفريقية بأخطر التحديات القائمة. ويأتي تكريم المخرج عصمان سمبان في إطار الفقرة الفكرية التي تناولت التجربة السينمائية الإفريقية المستوحاة من مختلف الكتابات الأدبية لعدد من الروائيين وفي إطارها اندرجت الندوة التي دارت حول الاقتباس عند المخرج التشادي محمد صلاح هارون.