أفرزت الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية لعالمنا الإسلامي، مصطلحات ظهر فيها صراع قوى سياسية مع أخرى، من أبرزها مصلح "إسلامي"، الذي ارتبط في عصرنا بحركات الإسلام السياسي، باعتبارها جماعة من الناس تتبنى سياسة فصل الدين عن الدولة، أو تطالب إن صدقت النيات وخلص العمل بالعودة إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، * وعلى الجانب الآخر تحوّر الجماعة الرافضة تسييس الدين، مصطلح "إسلامي" إلى "إسلاماوي" وبذلك تنقله إلى مستوى آخر من التعبير يحمل دلالة سياسية أكثر منها لغوية أو اصطلاحية، وحين يتم تداوله يظهر الطعن في أهداف هذه الجماعة أو تلك، مع إصدار حكم، حقاً أو باطلاً، أن مواقفها وأفعالها ذات غرض دنيوي وليس دينياً. * وفي واقع الأمر فإن التغيّرات السياسية التي حدثت أثبتت بشكل أو بآخر سبب التسمية، ومن دون الدخول في تفصيلات أشكال الصراع السياسي، لأنها ليست الهدف من هذا المقال، لنعود إلى التأصيل لهذا المصطلح الإسلامي من حيث نشأته الأولى وتطبيقاته عبر محطات بعينها من التاريخ الإسلامي. * * شاعر إسلامي * مراجع عدة ورد فيها مصطلح "إسلامي" على رأسها كتاب "الأغاني لأبي فرج الأصفهاني"، و"شرح ديوان الحماسة لأبي تمام" وكتاب "وفيات الأعيان لابن خلكان".. فكيف ورد يا ترى؟ * يتعرض كتاب الأغاني لعدد من تراجم شعراء العرب من عصر جاهلي ومخضرمين وعصر إسلامي وعباسي، وغالباً ما يقرن أبي فرج الأصفهاني التعريف بالشاعر على أنه شاعر إسلامي فمثلاً نجد في الصفحة الثالثة والتسعين من المجلد الثالث عشر عند ذكره "المغير ابن حيناء" يقول عنه شاعر إسلامي، وبتقليب صفحات الكتاب نجده يذكر شاعراً آخر وهو "شبيب بن يزيد بن عوف" فيقول شاعر إسلامي وعن العجير السلولي يقول شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، لكن يختفي مصطلح شاعر إسلامي عندما يترجم لأي من شعراء الدولة العباسية، كما يختفي عند الحديث عن الشعراء المخضرمين، وبالضرورة هو منعدم عند الحديث عن العصر الجاهلي. * * الأخطل مسيحي.. لكنه إسلامي * ولنا أن نتساءل هنا: لماذا خصّ الشعراء في الدولة الإسلامية بمصطلح إسلامي دون غيرهم من العصور الأخرى؟.. تبدو الإجابة واضحةً في تواريخ الوفاة لهؤلاء الشعراء، إذ تترواح من سنة 65 ه إلى ما يزيد عن المئة بقليل، ما يعني أن هؤلاء الشعراء الذين أطلق عليهم لفظ "الإسلامي" وعرفوا به، وعرفوا الإسلام ولادة لأنهم مازالوا يعيشون بين الصحابة ولو قلة منهم والتابعين، وقد يكون هذا هو التحليل الأقرب إلى الصواب في هذه المسألة، وربما زاد من سلامة هذا التحليل أن المصطلح أو اللفظ اشترك فيه شعراء يهود ونصارى أيضاً، من ذلك ما جاء في ترجمة الأخطل، كما سنرى لاحقا، وإن لم نجد كلمة إسلامي أثناء التعريف به، مع ملاحظة أن هذا الوصف قد أسقط عن بعض من تنطبق عليهم أسباب التسمية، وليس هذا عيباً من صاحب الكتاب على ما أظن، لأن الحديث أحياناً يجعل الأصفهاني يتطرق إلى موضوع يراه أكثر أهمية وجدوى بالبحث. * إذاً، فالبعودة إلى الأخطل نقول: أنه أثناء الحديث عن جرير والفرزدق نجد الأصفهاني في المجلد الثامن من كتابه يقرنه بهذا في عبارة جاءت كما يلي:"..جرير والفرزدق والأخطل وقد كان هذا الأخير نصرانياً كما نعرف المقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعاً "كما يورد جملة أخرى تفيد الشيء نفسه وهي:"اتفقت العرب على أن أشعر أهل الإسلام ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل". * * شاعرات إسلاميات * كتاب "شرح ديوان الحماسة لأبي تمام" هو الآخر نحا المنحى نفسه، عندما عرف صاحب الأبيات التي اختارها لشرحها نجد ذلك في الصفحة 45 من المجلد الأول في قوله عن قريط بن أنيف "إسلامي" ويأتي على ذكر رجل اسمه أبوالغول الطّهوي، ونجد في الهامش محقق الكتاب يضيف كلمة "شاعر إسلامي". * ولم يختص هذا المصطلح بالشعراء الرجال دون النساء، إنما أطلق على النساء من كن في حالات هؤلاء الشعراء، منهن في الحماسة "صفيّة الباهليّة" و"أم الصريح الكندية"، وعنها قال "الفسوي" "إسلامية" وجاءت جملة الفسوي عنها في الهامش في كتاب "شرح ديوان الحماسة" لأبي تمام. * ومن الشاعرات اللواتي ترجم لهن أبو الفرج الأصفهاني "ليلى الأخيلية" وجاء قوله عنها "من طبقة شعراء الإسلام" وهي تعني الشيء نفسه من حيث المحتوى. * * الأسالمة.. والشيوخ * أما مصطلح "إسلاماوي" فلم أقف له على أثر في كتب التراث وإن كنت قد عثرت على مصطلح آخر يحمل معنى طائفياً متعنتاً بعض الشيء نجده في كتاب "النجوم الزاهرة" لأبي تغري بردي، وهو "الأسالمة" ويأتي شرح هذا المصطلح في الهامش كالآتي"يراد بذلك الذين يدخلون في الإسلام من أهل الذمة، خاصة الكتاّب والصيارف ومن في معناهم من اليهود والنصارى". * وعن "صبح الأعشى" ينقل قوله: "وقد اصطلحوا أي أهل الذمة من الكتاب وغيرهم على ألقاب يلتقبون بها غالبها مصدرة بالشيخ، ثم منهم من يجري على الرسم الأول في التلقيب، إضافة إلى الدولة فيتلقّّب بوليّ الدولة وشمس الدولة ونحوه، ومنهم من يحذف المضاف إليه فيقول: الشيخ الشمسي، والشيخ الصفي... فإذا أسلم أحدهم أسقطت الألف واللام من أول لقبه، وأضيف إلى الدين فيقال في الشيخ الشمسي، شمس الدين، وفي الصفي، صفي الدين وما أشبه". * أما عن أول لقب كان من اسم مضاف إلى الدين وهو لقب "بهاء الدولة بن بويه ركن الدين"، وإن كان المؤرخون يختلفون في إيراد لقبه بين قوام الدين ونظام الدين، وقد تكون هذه الألقاب محاكاة بخلفاء الدولة العباسية الذين لقبوا بألقاب مختلفة مثل الهادي والمهدي والرشيد والمعتصم ..إلى غير ذلك، وبعد أن صار الأمر إلى العنصر غير العربي تغيّرت الألقاب تغيراً حذريا، وهذا ما قام به "الديلم" أو الدولة البويهية التي أسسها "علي بن بويه الديلمي" وقد يكون إظهار الشعوبية، والقول أن الإسلام شاملاً لا يفرق بين عربي وأعجمي، وأن العرب لا يفضلون عن غيرهم من الناس، فقد أسلموا كما أسلم غيرهم، كما جاء مثلاً في أقوال "ديك الجن". * * عدو أزرق.. و"إسلاماوي" * العرض السابق جاء للتدليل على أن استعمال الدين قد يكون لأسباب سياسية، تظهرها قلّة تجاه كثرة، أو يفرضه الأصل التاريخي كما هي الحال بين المسلمين والديلم لما كانوا أعداء وحاول العرب فتح بلادهم، حتى أنه من الأقوال المأثورة عند العرب وصفهم للعدو اللدود بأنه عدو أزرق، ويفسر هذا على أنهم الديلم لشدة العداء الذي بينهم وبين العرب، وسموا بالعدو الأزرق لغلبة العيون الزرق عليهم، إبان الدولة البويهية، وبعدها ظهر مصطلح الأسالمة كما سبقت الإشارة. * من ناحية أخرى، يعيدنا مصطلح إسلاماوي المتداول حالياً إلى القرن الرابع الهجري، حيث هناك نماذج نقرأ عنها من النصارى واليهود الذين أسلموا وطعن في إسلامهم من البعض، بحجة أن المصلحة الدنيوية أو الحاجات كانت وراء ذلك، وقد نظم في هذا شعر كثير. * خلاصة القول أن الناس يتحركون في فضاء واسع، وينزحون إلى مكامن النفس والهوى، كما يجنحون إلى الجانب الروحاني في النفس، كل هذا ضمن تفاعلات جبارة يختلط فيها كثير من الرؤى لتظهر على السطح مع الأيام حقيقة الأشياء. * لقد أظهر التاريخ أن الأوائل سعوا وراء الدين لأجل رؤية آمنوا بها، وأصبح اليوم ميراثاً لنا، يمكن أن نحوّله إلى مرآة أ ومرايا، نرى فيها أنفسنا فيسهل علينا التعاطي مع من حولنا طبقاً للظروف الداخلية والخارجية، مع ضرورة تأصيل المصطلحات أو ابتكارها بوعي وعلم، وعندها لن تترك لهوى أهل الجهل، أو للتلاعب السياسي.