هلل الكثير لمرحلة ما بعد الدستور المعدل، ووصل الأمر ببعض السياسيين المحسوبين على الموالاة، إلى وصف تلك المرحلة ب "الجمهورية الثانية"، في إشارة إلى أنها ستؤسس لأفكار وممارسات سياسية تشكل قطيعة مع الماضي، غير أن مؤشرات تلك المرحلة تبدو أنها لا تختلف كثيرا عن سابقتها. فالوجوه السياسية التي حكمت في السابق لا تزال في الواجهة، بل وهي مرشحة لأن تخلف نفسها في المسؤوليات السامية للدولة. فهل تصلح الوجوه القديمة لقيادة "الجمهورية الثانية"؟ هذا السؤال المحوري سيجيب عنه الملف السياسي لهذا العدد؟ بدخول الدستور الجديد حيز التنفيذ هل ستبدأ "الجمهورية الثانية" الشهر المقبل؟ يجمع الكثير من رجالات السلطة، على أن مصادقة البرلمان على الدستور الجديد، تعتبر بداية مرحلة جديدة قوامها التأسيس لجمهورية ثانية، غير أن هذا التوصيف لا يلقى التأييد المأمول لدى رجالات المعارضة .. والانتقال من جمهورية إلى أخرى، توصيف جاء به الفرنسيون، وعادة ما يربط بالرئيس الفرنسي الأسبق، الجنرال شارل ديغول (مؤسس الجمهورية الخامسة) الذي جاء إلى الحكم في 1958 في أعقاب الانهيار المتكرر لحكومات بلاده، بسبب الثورة الجزائرية، وقد حاول تقديم نفسه على أنه المنقذ، لكنه فشل أيضا، إذ في عهده حصلت الجزائر على استقلالها . وكان أول من بشّر ب"الجمهورية الثانية" أو "الدولة المدنية"، هو الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، عمار سعداني، أما التوصيف الذي قدمه بشأنها، فهي "تعني دولة ديمقراطية مبنية على أسس اجتماعية، توفر العدالة لكل مواطنيها، وتنهي مرحلة الشرعية الثورية.. وتخرج البلاد من الحالة الاستثنائية التي وضعها فيها دستور 1996، فضلا عن تمكين المجتمع الجزائري ومؤسسات الدولة المختلفة من العمل والسير الطبيعي ككل الدول المستقرة والآمنة والقوية والديمقراطية ". وفي الضفة الأخرى، ترفض المعارضة التوصيف القائل بانتقال البلاد إلى "جمهورية ثانية" بمجرد دخول الدستور الجديد حيز التنفيذ، من وبين من يقولون بذلك، رئيس حزب جيل جديد، جيلالي سفيان. أما مبرراته فتتمثل في عدم مرور القانون الأسمى على الاستفتاء، واكتفائه بالمرور عبر بوابة "برلمان مطعون في شرعيته"، ما يجعله "دستور برامج وليس دستور قانون"، على حد تعبير هذا السياسي المعارض. ويتضح من خلال توصيف الرجل الأول في الأفلان، أن الانتقال من جمهورية إلى أخرى، يعني الانتقال من وضع إلى وضع أفضل منه، وهو أمر قد ينطلق من معطيات قوامها بعض الجوانب الإيجابية في الدستور الجديد، مثل العودة إلى العمل بنظام العهدتين الرئاسيتين، كما كان الحال قبل تعديل 2008، ومنح المعارضة فضاءات جديدة وصلاحيات أوسع على مستوى البرلمان خاصة. هذا من حيث النصوص. لكن ماذا عن الإطارات والوجوه التي ستقود مرحلة ما بعد اعتماد الدستور الجديد. هل ستستمر تلك التي قادت "الجمهورية الأولى" إن صح التعبير، أم إنها ستختفي لتحل محلها وجوه جديدة مثلما يفترض؟ لأن "الجمهورية الجديدة" لا يمكن أن تسيّر ب"وجوه قديمة". ما هو معروف، أن الدستور الجديد لا زال أمامه نحو ثلاثة أسابيع كي يدخل حيز التنفيذ، وهذا يعني أن البلاد لم تدخل بعد مرحلة "الجمهورية الثانية"، بتوصيف الرجل الأول في الأفلان، غير أن المتربصين بالمناصب السياسية السامية في الدولة، لم يتغيروا، وهم في عمومهم لم يغادروا الواجهة منذ نحو عقدين ونيف من الزمن. المؤكد هو أن أول منصب ستطاله مستجدات الدستور الجديد، هو منصب رئيس الجمهورية، لأن العودة إلى العمل بنظام العهدة الرئاسية الواحدة القابلة للتجديد مرة واحدة، سيفرض تولي شخصية أخرى غير الرئيس بوتفليقة هذا المنصب، غير أن هذا الجديد سيتأخر إلى العام 2019، بحكم احترام مدة العهدة الرئاسية المقدرة بخمس سنوات. وما دام الأمر كذلك، فالأنظار ستتوجه نحو المسؤوليات الأخرى الأدنى، مثل رئاسة الوزارة الأولى. وهنا تجدر الإشارة إلى الصراع المحتدم بين حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي حول هذا المنصب، بعد تعديل الدستور قبل نحو أسبوعين. وتبدو المسألة أكثر إلحاحا، عندما نجد أن الوجوه المرشحة، ولو في الأوساط غير الرسمية، لتولي سدة قصر الدكتور سعدان، هي ذاتها الشخصيات التي شغلت هذا المنصب على مدار المراحل السابقة، وهو معطى إن وجد طريقه للتجسيد قريبا، سيخلط الحسابات السياسية بالنسبة إلى السلطة، كونها صورت الدستور الجديد على أنه بداية لمرحلة جديدة. ومن شأن استمرار الوجوه السياسية التي قادت "الجمهورية الأولى" في الواجهة، أن يضر بالصورة التي سوّقتها السلطة عن مشروعها السياسي لمرحلة ما بعد الدستور الجديد، وسيزيد من تسمّر المعارضة عند مواقفها الراديكالية ويدفعها إلى المزيد من التشدد، في وقت تبدو فيه البلاد بحاجة أكثر من أي وقت مضى، إلى توافق داخلي لمواجهة التحديات التي تتربص بها على الحدود وعلى المستوى الإقليمي.
عبد الرزاق مقري رئيس حركة مجتمع السلم المشكل في الأشخاص والمنظومة.. والجمهورية الثانية لغو سياسي الموالاة تبشر الجزائريين بجمهورية ثانية في ظل الدستور الجديد، هل تتوافق تجربة "الجمهوريات" مع مضمون التعديلات الأخيرة؟ لو كانت التعديلات الدستورية الأخيرة بهذا الحجم لتمت عن طريق الاستفتاء الشعبي وإلا تكون غير دستورية، الادعاء بأن هذا التعديل ينقل الجزائر إلى جمهورية ثانية فيه تناقض صارخ مع طريقة تمريره. هذه العبارات هي مجرد لغو سياسي لجهة حاكمة فقدت قدرتها على الفعل وعلى التأثير، وهذه التعديلات هي تزيينات لا قيمة لها. هل يمكن أن يشرف رجال "الأحادية" و"العهد القديم" على تدشين المرحلة الجديدة تحت أي مسمّى كان؟ ربما الجزائر هي البلد الوحيد الذي تتغير فيه الأيديولوجيات والولاءات والتوجهات على مستوى الحكم، ولكن النظام الحاكم لا يتغير. فعلا الذين حكمونا بالاشتراكية وسجنوا الناس وقهروهم باسم الاشتراكية، بل اعتبروا الخيار الاشتراكي خيارا لا رجعة فيه وكل من يخالفه يفقد صفة الوطنية ويصبح خائنا للثورة وللتاريخ، هم أنفسهم الذين انقلبوا على الاشتراكية وحكموا البلد باسم نظام هجين في زمن الأزمة الوطنية، وهم أنفسهم الذين تسببوا في الإخفاق المهول في زمن الوفرة المالية، وهم أنفسهم الذين تسببوا في صناعة شبكات الفساد الدولية، وهم أنفسهم الذين حكمونا باسم الحزب الواحد، وهم أنفسهم الذين حكمونا في زمن التعددية المتحكم فيها عن طريق التزوير، وهم أنفسهم الذين حكمونا باسم الشرعية التاريخية وهم أنفسهم الذين حكمونا تحت غطاء السلطة العسكرية والأمنية. هؤلاء هم أنفسهم الذين يتحدثون عن عهد جديد ويريدون أن يحكمونا بوهم الحكم المدني وباسم الرأسمالية المتوحشة. وكأنهم قدر مقدور علينا يلازمنا إلى يوم الدين. هل يكمُن المشكل برأيكم في ذوات الأشخاص أم في طبيعة الأفكار الإصلاحية والتجديدية؟ المشكل في الأشخاص وفي المنظومة في آن واحد. هؤلاء الأشخاص أعطونا ما يكفي من البراهين على عدم أهليتهم للحكم وللتسيير. وفي هذا الشأن، الأرقام هي التي تتحدث. لسنا نحن من ابتدع الأرقام المهولة التي دلت على الأموال التي أنفقوها في الاقتصاد الوطني، ولسنا نحن من أخرج ملفات الفساد إلى الساحة الإعلامية والسياسية ولسنا نحن من أظهر حالة الإخفاق الشديدة حينما انهارت أسعار البترول. نحن كنا نقرأ تلك الأرقام التي نأخذها من مؤسسات الدولة ونحللها، فتوصلنا إلى استشراف حالة الفشل قبل وقوعها وحين ظهرت جليا هم أنفسهم اعترفوا بذلك. وتكمن في المنظومة ذاتها كذلك، إذ لا يتصور أن الأفكار الأحادية تصنع نجاحا، النظام السياسي لا يؤمن بالديمقراطية والتدافع والرقابة على الشأن العام. وأي نظام من هذا النوع في أي مكان في العالم وعند أي شعب من الشعوب لا ينجح. لأن الإنسان لا تصلحه المواعظ وإعلان المبادئ كما هي حال الدساتير فقط، بل يصلحه التدافع بين الأفكار والمصالح، والمنظومة الديمقراطية هي اكتشاف بشري يحل هذه المشكلة، وهي تتطابق كلية مع قوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". إلى أي حدّ قد تكبح الممارسات والسلوكات التي حكمت بها السلطة البلد 54 عاما إرادة الانتقال الديمقراطي؟ قلت إن النظام لا يؤمن بالديمقراطية، وهو لن يتخلى عن الحكم بإرادته وقد رأينا في العديد من الدول العربية كيف أن الحاكم بإمكانه أن يقتل ويشرد ويسجن الملايين، وأن يدمر بلدا بكامله من أجل البقاء في السلطة. ولذلك نحن نتوقع أن النظام السياسي لن يتنازل عن أي شيء لصالح الإصلاح السياسي والديمقراطية دون تغيير موازين القوة لغير صالحه. ودورنا نحن في المعارضة هو هذا، كيف نطور موازين القوة دون أن نعطي الفرصة للحاكم لكي يدمر البلد ويسفك الدماء. هي مهمة صعبة ولكنها ممكنة. ونحن في الجزائر نتسلح بتجربة كبيرة وإنما المطلوب هو الصبر والرهان على توعية الجزائريين وتأهيلهم وتدريبهم على الفعل المعارض الصارم والفاعل والمؤثر ولكن في نفس الوقت المحافظة على استقرار البلد ما أمكن وحرمان النظام السياسي من خلق بيئة صدام وفوضى يقتات منها من جديد.
الوزير المنتدب السابق للجالية الجزائرية بالخارج بلقاسم ساحلي: الدستور جدّد الجمهورية.. والمرحلة المقبلة لا تبنى بالقطيعة مع الماضي هل يمكن القول إن الجزائر دخلت مرحلة الجمهورية الثانية، بعد تعديل الدستور؟ في البداية، نحن لا نحبّذ استعمال مثل هذه المصطلحات، طالما أن المسألة تتعلق بالحريات والمبادئ التي جاء بها الدستور الجديد، خاصة وأن هذا المصطلح عادة ما يرتبط بالدول التي تكون بصدد الانتقال من وضع إلى وضع آخر. أما الوضع في الجزائر فهو يختلف كثيرا لكون البلاد لا تعيش على وقع أزمات، الأمر الذي يجعلنا نستعمل كلمة "تجديد الجمهورية" بدل "الجمهورية الثانية"، كون "الجمهورية الأولى" لاتزال قائمة بذاتها وبمكاسبها وانتصاراتها المحققة عبر سنوات من تأسيسها. بالحديث عن تجديد الجمهورية برأيك، ما هي مواصفات الجمهورية المتجددة؟ التجديد ليس متعلقا فقط بالسلطة أو المعارضة، وإنما بالأمة بصفة عامة، كونها هي التي صنعت لنفسها وقفات عبر 53 سنة من الاستقلال، لذلك التجديد من اجل خلق التوازن أضحى أكثر من ضرورة بين السلطة وصلاحيات الحكام وكذلك الحقوق والواجبات، والدستور الجديد جاء بكل هذه المتطلبات. كما حمل الدستور الجديد جملة من الحريات التي من شأنها الحفاظ على أمن الدولة، ويمكن اختصار ما جاء به الدستور المكمل في عدة نقاط أهمها تعزيز الوحدة الوطنية والهوية العربية الأمازيغية وتعزيز دولة القانون، وتحقيق التوازن بين السلطات، فضلا عن كونه أعطى للمعارضة مكانة إلى جانب المجتمع المدني وحرية الإعلام، خاصة وأن المجتمع عامة والمواطن بصفة خاصة أضحى في الآونة الأخيرة يتوجس من بعض توجهات الحكومة كالتنازل التدريجي عن البعد الاجتماعي، غير أن الدستور الجديد أوضح كل هذه النقاط، بما فيها تلك المتعلقة بسياسة الدولة خارجيا، والتي أكد عليها من خلال تجديد الدعوة لرفض أي تدخل في الشؤون الداخلية للدول والدفاع المستميت عن حق تقرير مصير الشعوب المظلومة. هل ترى أن تجديد الجمهورية في تصورك يشكل قطيعة عن أفكار وتصورات الجمهورية الأولى، أو بالأحرى ماذا سيضيفه التجديد الجديد عليها؟ لا، على الإطلاق، بين هذا وذاك، الدستور الجديد لا يشكل أي قطيعة عن الأفكار والتصورات التي كانت في الجمهورية الأولى أو بالأحرى التجديد الدستوري، لأن هذا المصطلح في الحقيقة هو من صنع المعارضة. الجمهورية لاتزال قائمة وكل تعديل أو تجديد يعتبر مواصلة، لذا هذا التعديل هو تكميلي، وجاء بمتطلبات جديدة للمجتمع في ظل التحولات الحاصلة على الساحة الوطنية والدولية، فدستور 2008 مثلا إذا نظرنا إلى محتواه ليس نفسه دستور 2016، وهكذا مع باقي الدساتير التي عرفتها الجزائر التي تأتي بالجديد وتكمل الناقص منه. برأيك، هل يمكن الحديث عن التجديد، في ظل نفس استمرار الأشخاص والأفكار والممارسات؟ في نظرنا، تجسيد المكاسب والتحديات التي تشهدها البلاد، لا يرتبط بالأشخاص، بل بمدى تطبيق هذه الممارسات على أرض الواقع، وفي هذا الإطار أريد أن استغل كلمة الرئيس التي وردت في خطابه خلال جلسة المصادقة على الدستور حين قال إن "الجيل القديم الذي صنع الثورة قدم كل ما عليه"، وعليه أقول إن الجيل الذي صنع الثورة، ولايزال يواصل نضاله إلى يومنا هذا قدم أكثر مما هو مطلوب منه، وبتالي فالتجديد في نظرنا يتطلب تجسيد هذه الآليات والتصورات، لذلك نحن لا نربطها بالأشخاص، بل بالدهنيات، فماذا يمكن أن يقدم شاب مثلا، لو وصل إلى أعلى المسؤوليات في الدولة، في حين أنه لا يتوفر على المقومات والاستعدادات الذهنية التي تؤهله للعب الدور المنوط به.