حدثني والدي فقال: ارتفع نداء الحق، فهوت الأفئدة، واستجابت الأرواح الطاهرة مسرعة إلى بيت الله الحرام بدعوة إلهية خلقت في الأنفس شوقا وهمة، وانبعاثا، ردد والدي "لبيك اللهم لبيك" فرددت القول بعظمة جل جلاله، نعم لقد هيأ الله لخليله إبراهيم عليه السلام التعرف على مكان البيت العتيق ليقيمه مثابة للناس وأمنا. اسمع يا ولدي إياك والحقد والبغضاء ونقض العهود مع الله، واعلم علم اليقين أنه من المسلم به أن سنة الله من ملكوت خلقه منذ وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا أنه خطاء، فكان حظه من الخطأ، فهناك فرق بين الخالق والمخلوق فالكمال لله وحده، والإنسان ترتابه عوائق جسمية فأولها هي نفسه التي بين جنبيه مولعة بالشهوات والهوى تتجاوب معها النفس فيهوى في محكم قوله تعالى "وما أبرئ نفس إن النفس لأمارة بالسوء". وثانيها ياولدي زخرفة الدنيا وغرورها فإذا تملكت في قلب الإنسان أذهبت عنه عقله وأفسدت عليه دينه بالرياء والتفاخر فيصبح عبدا أسيرا لها ذليل النفس في داخله، مغترا في ظاهره يظهر ما لا يبطن كما جاء في الحديث النبوي تعس عبد الدينار، تعس وانتكسى.. وثالثها الشيطان الذي يزين دائما لضعاف الإيمان الخبائث فضائل، والأضغان خلق" والشر خير، والتكبر والاحتقار عدل، والرياء خلق ساميا كما جاء في قوله تعالى "إن الشياطان لكم عدو فاتخذوه عدوا". يا بني اصغ بقلبك وحسن سمعك، إن رحمة الله بعباده وعفو منه أن يخسروا ديناهم وأخراهم ويشتد عليهم اليأس والقنوط فقد فتح أمامهم أبواب التوبة، وفعل الطاعات التي تسمو بهم إلى العليا، وتحيي في نفوسهم محبة الله جل وعلا وإن من أعظم العبادات التي خصها الرحمان بالعبادة المكفرة للذنوب والمعاصي وقبول التوبة فيها بعد معانقة أسوار بيت الله الحرام، إنها فريضة الحج التي تجمع المسلمين من مختلف الأجناس ومن شتى بقاع المعمورة على موعد مع سبك العبرات في باحة الكعبة المشرفة والحجر الأسود، على موعد مع الطواف بأول بيت وضع للناس للذي ببكبة مباركا، موعد مع الصفا والمروة من شعائر الله، على موعد ركعتي خلف مقام إبراهيم، على موعد مع الوقوف بعرفات في مكان فسيح انمحى فيها كل شيء، وزالت آثار الدنيا، قلوب تبتهل إلى السماء نفوس تصيح من أعماقها يا الله يا الله، وجوه بللتها الدموع طالبين العفو والغفران، إنهم على موعد مع شد الرحال إلى مقام الحبيب المصطفى والروضة المطهرة موطن الإجابة، إنهم على موعد مع اللقاء العالمي في هذه البقاع المقدسة يشهدوا منافع لهم وقد خلصت نواياهم، وتظهرت أنفسهم، وزالت أحقادهم، جمعتهم كلمة التوحيد، وامتلأت قلوبهم بالإيمان والتقوى وأجسامهم وأرواحهم بالصبر والامتثال لأمر الله وأحكامه. يا بني أدرك قولي الإسلام دين اجتماع يعني بتربية النفس، وتقوية الجسم، وتعزيز الروح الجماعية والسامي بقيم مدرسة مكارم الأخلاق ويا سعد من توسم بوشاح هذه المدرسة التي تلتقي فيها جميع الفضائل السامية التي وعد الله عباده بالاستخلاف في الأرض والتمكين فيها. يا بني إن مدرسة الحج تتطلب من الإنسان استحضار قلبه بنية خالصة لوجه الله لا رياء فيها، وبدنه وماله، بحيث يكون الاختبار شاقا والامتثال واضحا. لأن الدلالة العظمى من الحج هو تكفير عن الذنوب والتعود على الصبر في القيام بالأعمال من سفر وبذل جهد ومعاناة وغيرها وعلى قدر صبر الإنسان واحتماله يكون قبول عبادته، فانتقال الإنسان من حيث مكان الراحة الظاهرية حيث تحيط به الخيرات في بلدته إلى موقع آخر يجهد فيه الإنسان نفسه جهدا كبيرا، إلا أن البعض يغفل عن الراحة الروحية النفسية المتعلقة بمعارج العلياء الإلهي. إن الحج عبادة إلهية وحكمة بالغة يوجب منا الإيمان المطلب بالحكيم العليم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وبالتالي الامتثال لله سبحانه وتعالى الذي أمرنا بأداء هذه الأعمال من دون أن نعلم ماهية الحكمة الإلهية من ذلك، لأن حقيقة الامتثال هو الخضوع في القيام بالطاعات مع الثقة المطلقة في الأمر والآمر وذلك ميزان تقوى العبد الصالح، لأن الأعمال إذا ظهرت حكمتها وثمرة نتائجها فإن الإنسان يندفع إليها بلهف شديد لاقتناعه التام بمردودها الواضح، أما الأعمال التي لا تظهر دواعيها للإنسان، فإنه يعملها استجابة للأمر وللآمر الموثوق به. يا بني رسلك علي إن الإنسان يتحمل المشاق في ميدان الحج وهو لا يدري ولا يعلم الحكمة التي جعلته يستجيب ويرضى بتأدية هذه الأعمال وليس أمامه إلا شيء واحد يرتجيه وهو طلب الرضا من الأمر الموثوق به. فالدافع الأساسي هو محض خالص عبادة الله وحده دون أن يفهم الإنسان حكمتها، من أجل هذا سميت شعائر اتسمت بالإخلاص مصداقا لقوله تعالى "ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" من هذه الفجاج السرية في حكيمة الحج ومقاصده الكبرى هو الامتثال للأمر الإلهي والصبر على التحمل، فالحاج، يستوجب عليه بالزاد القوي تقوى القلوب والصبر العظيم لينال بعد توفيق من الله في آخر الأمر أجر الفائزين. ومن حكمته رمزية المساواة لا تمايز في مظهرهم الحاكم والمحكوم، الغني والفقير، فالكل في خضوع للقاهر الديان الوحدانية لله جل وعلا التي ضمت جميع الخلائق تحت ظلالها فطوبى لمن تنسّم بها. إن مما لا شك فيه على الإطلاق أن هذا المؤتمر الإسلامي السنوي في أطهر بقعة على وجه الأرض تحت إشعاعات الأنوار الإلهية تغرس مبادئ المحبة والتآخي والسلام بين مختلف الأجناس على اختلاف ألوانهم دون تفرقة، فيا ليت الدول الإسلامية راعي ورعية يدركون هذا المعنى الجليل لمقاصد الحج ويسارعون إلى هذا الفيض الرباني ليتعاون الجميع على نبذ الخلافات والحساسيات في بيت الرحمن، في بيت خشعت فيه القلوب وسمت فيه الأرواح، ونادت الألسنة لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك ن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. *زاوية بلعموري/ مكلف بمهمة رئاسة الجمهورية