الشيخ محمد السعيد الزموشي من رواد الحركة التربوية الإصلاحية بغرب البلاد، انطلاقا من مدينة معسكر، مدينة الأمير عبد القادر، إلى جانب الشيخ العربي التبسي الذي سبقه إلى مدينة سيڤ قبل ثلاث سنوات، وكانت جهود الشيخين نعم المدد والسند لجهود الشيوخ من أبناء المنطقة الغربية، أمثال المجاوي والمهاجي وبوعبدلي وغيرهم... * وكان من المساعدين الأوائل للشيخ عبد الحميد بن باديس الذي اصطفاه للتدريس معه، في الجامع الأخضر بقسنطينة. وشاءت الأقدار كذلك أن يكون من أوائل شيوخ جمعية العلماء الذين التحقوا بجبهة التحرير الوطني، بواسطة ثوار ناحية خنشلة وعلى رأسهم القائد الشهيد عباس لغرور. * وقد خرج إلى المغرب في خريف 1956 بعد أن سُجن وعُذّب، وساهم في توطيد علاقات بوالصوف ورفاقه هناك بجلالة الملك محمد الخامس. * ولد السعيد الزموشي بعين البيضاء (ولاية أم البواقي) في 4 مارس 1904 وسط عائلة علم وفصاحة. وكان والده محمد بن بلقاسم تاجر أقمشة بالبلدة، على قدر من اليسر. وقد ارتأى أن يوجه ابنه هذا إلى التعليم العربي وعلوم الدين، خلافا لشقيقه الطاهر الذي وجهه نحو المدرسة الفرنسية. * بدأ محمد السعيد مساره التعليمي بتعلم العربية وحفظ القرآن الكريم الذي ختمه وهو في 13 من عمره. وبعد فترة استغلها للاحتكاك بعلماء الناحية، التحق بجامع الزيتونة لاستكمال دراسته، وقد تخرج منه بعد 6 سنوات حاصلا على شهادة التطويع. * وبهذه المناسبة، أقام والده إثر عودة العالم الجديد من تونس حفلا ضخما، دعا إليه العديد من العلماء والمشايخ يتقدمهم العلامة عبد الحميد بن باديس الذي ما لبث أن طلبه للتدريس معه، بالجامع الأخضر في قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري آنذاك. وحدث أن قام إبن باديس بجولة في غرب البلاد فاصطحب الشيخ الزموشي معه، وقد دشن الجولة بزيارة معسكر، وتخللتها دروس في معظم مساجد المدن التي مروا بها. * لقيت هذه الجولة صدى طيبا لدى أعيان معسكر من المستنيرين أمثال أحمد خليل، والغوثي بن دلاّل، والحاج الطاهر عبد المومن... وغيرهم، فرغئِبوا في استقدام أحد شيوخ الحركة الإصلاحية الوليدة، لتعليم أبنائهم مبادئ الشرع والسنة بوسائل وأساليب حديثة. وتجسيدا لهذه الرغبة عاودوا الاتصال بالشيخ ابن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسست رسميا في 5 مايو 1931 فلم يتوان في تلبية طلبهم، بانتداب الشيخ السعيد الزموشي لهذه المهمة في غضون 1932. * * محاربة الشيخ... حتى في زواجه! * للتذكير، أن الشيخ العربي التبسي أحد مؤسسي الجمعية كان قد مهد للحركة الإصلاحية بالمنطقة، انطلاقا من مدينة سيڤ التي حلّ بها سنة 1929، وبدأت جهوده فيها تؤتي ثمارها الطيبة. * في البداية تحفّظ والد الشيخ الشاب على تعيينه بمعسكر لبعدها - بمنظور ذلك العهد - لكن رئيس الجمعية تمكن من إقناعه وتطمينه قائلا: "إن معسكر لن تسعد إلا بالسّعيد!" * استقبل أعيان مدينة الأمير عبد القادر المتعاطفون مع حركة الإصلاح الشيخ الوافد من شرق البلاد بحفاوة، ووضعوا تحت تصرفه شقة لتكون نواة مدرسة الجمعية، من إهداء الحاج محمد بن يخلف الملياني... * مرت السنة الأولى من عمل الشيخ الشاب بسلام، بعد أن أكد حسن الظن به، بتأهيل عدد من أبناء البلدة وإيفادهم لمواصلة دراستهم بجامع الزيتونة في تونس. * غير أن رد فعل الإدارة وحلفائها من الطرقية ما لبث أن عبر عن نفسه بأشكال مختلفة، علما أن الحركة الطرقية بالناحية كانت قد استنفرت جموعها مباشرة غداة جولة ابن باديس، ووجدت سندا قويا في الباشاغا عدة شنتوف. * ففي فبراير 1933 صدر عن الولاية العامة قرار يمنع باختصار شيوخ الجمعية من التدريس والوعظ والإرشاد بالمساجد... وفسرت ذلك السلطات المحلية بمعسكر حسب هواها، فقررت إغلاق المدرسة باختصار... ولم يبق الشيخ الزموشي والأعيان المتعاطفون معه مكتوفي الأيدي طبعا، فقد استغلوا فرصة انتخابات محلية وشيكة، ليعقدوا تحالفا مع مرشح كورسيكي الأصل يدعى "موزيلي" مشروطا بالسعي لإعادة فتح المدرسة في حالة فوزه... فاز المرشح فعلا ووفّى بوعده، لكن إدارة الاحتلال حاولت الالتفاف على قرار إعادة الفتح، باشتراط أن يقتصر التدريس على المراهقين ما فوق سن 16! وحاول الشيخ بدوره الالتفاف على هذا الشرط بتعليم الصغار ما دون 16 سنة ليلا! * وشهدت صائفة 1934 تصعيدا في الحملة باستهداف الشيخ من خلال عقد قرانه من الآنسة خيرة عبد المؤمن بنت الحاج الطاهر، جراح الأسنان بالبلدة. فقد استغلت الإدارة وحلفاؤها عودة الخطيب إلى مسقط رأسه أثناء العطلة الصيفية وسفر الوالد إلى إسبانيا للطعن في عقد القران، بدعوى أن الخطيبة لم تبلغ السن القانوني بعد! * ولم تتوقف الحملة عند هذا الحد، بل تواصلت في شكل رسائل التهديد، بل بالترهيب المباشر أيضا! وتفسير ذلك أن الشيخ تعوّد الخروج للنزهة في اتجاه بني شقران، رفقة صديق كان بمثابة سنده المعنوي في آنٍ واحد. وذات يوم بينما كانا يصليان في الهواء الطلق ناحية سيدي دحو، أطلق مجهول عليهما الرصاص وهما ساجدان... فما كان من الشيخ إلا أن استعاذ بالله، وطمأن صديقه بتلاوة الآية الكريمة: "لا تحزن إن الله معنا". * هذا العداء المستفحل من إدارة الاحتلال وحلفائها دفع الشيخ والمتعاطفين معه إلى تنظيم الدفاع عن أنفسهم، بإنشاء شبكة تجسس على الخصوم لإحباط دسائسهم والحد من أذيّتهم! * لكن الأذية الكبرى ما لبثت أن جاءت من وزير الداخلية "شوتان" الذي أصدر في 8 مارس 1938 مرسوما يعتبر اللغة العربية لغة أجنبية ويمنع تعليمها في مدارس جمعية العلماء! وبناءً على هذا المرسوم الجائر أغلقت مدرسة معسكر مؤقتا، ما جعل الشيخ الزموشي يعود إلى عين البيضاء بعض الوقت مرفوقا بأسرته، بعد أن رزق بنتين فتيحة وصليحة. * وردّا على مرسوم "شوتان" نظمت جمعية العلماء وحلفاؤه من حركة المنتخبين سلسلة من الاحتجاجات المدوية، جعلت إدارة الاحتلال تتراجع بعض الشيء فلا تتشدد في تطبيقه... لذا ما لبث الشيخ أن استأنف التدريس بقسنطينة. * * النفي إلى الجزائر... وتبسة * وعندما رجع إلى معسكر في السنة الموالية استأنفت إدارة الاحتلال وحلفاؤها المحليون ضغوطها عليه، إلى أن تقرر نفيه إلى الجزائر... فأقام بعض الوقت في وادي كنيس (ارويسو) واستأنف التدريس بالحراش سريا... وكان تحت المراقبة، مطالبا بالتوقيع يوميا في سجلات مركز الشرطة... * ولحسن الحظ أن هذه الفترة لم تزد على ثلاثة أشهر، عاد إثرها إلى غرب البلاد، لكن إلى وهران هذه المرة لأن معسكر منعت عليه. * استقر بالمدينة الجديدة في وهران، وأخذ يدرس في مدرستها المتواضعة التي كانت قد فتحت أبوابها في منتصف الثلاثينيات. * وبمجرد اندلاع الحرب العالمية الثانية في خريف 1939 اشتد القمع والتضييق على الحريات، فمنع الشيخ من حضور جنازة العلامة ابن باديس الذي وافاه الأجل في 16 أفريل 1940... قبل أن ينفى من جديد إلى تبسة هذه المرة في أواخر 1941. * كان الشيخ العربي التبسي قد استقبل ابتداء من موسم 40 / 41 تلامذة الشيخ الراحل في "مدرسة تهذيب البنين والبنات"، فشارك الشيخ الزموشي أثناء وجوده إلى جانبه في مهمته النبيلة تلك طيلة الموسم 41 / 42 تقريبا. * وشهد نوفمبر 1942 نزول قوات الحلفاء بالجزائر، ورافق ذلك ظهور نظام جديد على أنقاض بقايا حكومة فيشي. ومافتئ هذا النظام بتشجيع من الحلفاء أن اتخذ سلسلة من الإجراءات خلقت نوعا من الانفراج، لاسيما بعد عودة معظم الشخصيات السياسية والعلمية التي كانت رهن السجون والمحتشدات والمنافي. * وفي هذه الأجواء، عاد الشيخ البشير الإبراهيمي من منفاه بالأغواط، ليستلم مهامه كرئيس لجمعية العلماء بعد تعيينه غيابيا في هذه المهمة، بإجماع الهيئة الإدارية غداة وفاة رئيسها الأول ابن باديس. * عقب ذلك ترأس الإبراهيمي اجتماعا عاما، حضره الشيخ الزموشي، الذي انتدب من جديد إلى وهران فعاد إليها في غضون نفس السنة ليقيم بمدرسة المدينة الجديدة 24 شارع "أميل دلور"... * استأنف نشاطه بعاصمة الغرب الجزائري بالمساهمة في تأسيس جمعية خيرية باسم "جمعية الفلاح"، رفقة نخبة من رجال السياسة والمال أمثال الحسين بن شراب، الهواري سويح، أحمد حفرات، محمد بن عبد الرحمان، الحيب الرڤيڤ... هذه الجمعية، التي حملت مشروع بناء مدرسة جديدة، فضلا عن مسجد وحمام... وقد استوجب ذلك شراء قطعة أرض بنفس الحي، وتجشّم متاعب السعي لاستخراج رخصة البناء الذي استغرق قرابة السنة! * * إسعاف يتامى 8 مايو 45 * وعندما اهتز الشرق الجزائري بمجازر ومناكر 8 مايو 1945، لم يعش الشيخ الزموشي تلك المأساة بجوارحه فقط، بل هبّ إلى سطيف وخراطة لنجدة أيتام المجازر، ونقلهم إلى وهران لتوزيعهم على العائلات من أهل البر والإحسان. وكانت إلى جانبه في تلك العملية الإنسانية الجريئة السيدة الفاضلة خيرة بن داود، شقيقة العقيد الشهير في الحبس الفرنسي الذي اشتهر بالمثل الشعبي القائل: * "العربي عربي... ولو كان العقيد بن داود" تعبيرا عن حال الضابط الجزائري في جيش الاحتلال! * وامتد نشاط الشيخ الزموشي بوهران إلى الحقل الرياضي، كما يدل على ذلك حضوره ومباركته ميلاد نادي مولودية وهران بحي الحمري في مايو 1946... * لم يكن نشاط الشيخ التربوي والثقافي والرياضي ومضامينه السياسية ليخفى على إدارة الاحتلال التي كانت عيونها تراقبه عن كثب، علما أن عامل وهران "لامبير" كلف مصالح الأمن باستدعائه عقب كل خطبة جمعة تقريبا! * وفي 1948 دشنت جزئيا مدرسة الفلاح الجديدة في حفل ضخم، حضره رئيس جمعية العلماء الشيخ الإبراهيمي ونائبه التبسي، وشيوخ آخرون أمثال توفيق المدني والعباس بن الشيخ الحسين... وقد نظمت بالمناسبة مسيرة من المدرسة القديمة إلى الجديدة، ارتدى خلاله التلاميذ والتلميذات أزياء بلون العلم الوطني... وقد فوجئت سلطات العمالة بضخامة الحفل، فهبّ العامل "لامبير" مزمجرا... فما كان من الشيخ المضيف إلا أن ذهب لمقابلته برباطة جأش وهو يقول: "هذا اليوم يومي! وغدا أزورك!". * وألقى الشيخ التبسي باسم الجمعية خطابا مدويا مما جاء فيه: "اليوم فتحنا مدرسة بالمفتاح، وغدا نفتح الجزائر بالمدافع!". * وما لبثت الحركة الإصلاحية التربوية أن توسعت بوهران ذاتها، فأصبح لكل حي من أحيائها الهامة مدرسته الخاصة، من ڤمبيطة إلى سيدي الهواري مرورا بالحمري ومديوني... وتوسع نشاط مدرسة الفلاح إلى الحقل المسرحي، عبر مسرحية بعنوان "الجزائر"، وهي مسرحية تستنهض الهمم بالعودة إلى رموز المقاومة المسلحة والثقافية من الأمير عبد القادر إلى الشيخ ابن باديس... ومن ممثلي هذه المسرحية التلميذة فاطمة طياب والتلميذان عيسى مسعودي ومحمد سجّاري... * وفي الموسم الدراسي 49 / 50 كُلّف الشيخ الزموشي بالإشراف مؤقتا على مدرسة الحديث بتلمسان، ليعود إلى وهران إثر ذلك، كممثل لجمعية العلماء على مستوى الغرب الجزائري كله. وقد ازدهرت الحركة الإصلاحية به، بعد أن أصبحت تسيّر نحو 50 مدرسة و20 جامعا حرا، فضلا عن العديد من النوادي الثقافية على غرار نادي الترقي بالعاصمة. * (يتبع)