يروي عضو اللجنة المركزية في حزب الشعب رئيس الوزراء الأسبق بلعيد عبد السلام، في هذه الشهادة التاريخية تفاصيل كثيرة ومثيرة حول خفايا حزب الشعب وخبايا حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وأسرار الثورة المسلحة (من 1945 إلى 1962) على امتداد 10 حلقات، تدفق فيها بشلال من المعلومات وركام من المعطيات، لأهم القضايا الشائكة والمعقدة من الحركة الوطنية إلى الحرب التحريرية، أرخ فيها لأحداث إما كان فاعلا فيها أو شاهدا عليها خص بها الشروق. بداية جئتم لهذه الحياة مابين ميلاد حركتين، الوطنية والإصلاحية (نجم شمال إفريقيا1926 وجمعية العلماء المسلين 1931) حدثنا باقتضاب عن النشأة والتعليم؟ كما تعلمون من مواليد سنة 1928 بعين كبيرة، انتقلت عائلتي في القرن 19 من القبائل الكبرى إلى عين الكبيرة للبحث عن الرزق، قرّر جدي مغادرة القرية التي يسكنها بعد افتتاح مدرسة فرنسية رسمية، معتبرا الالتحاق بها بمثابة الدخول في الكفر وتمهيد لدخول لاحقا في جيش المستعمر، وحتى يجنب والدي دخولها قام بإرساله رفقة بعض أقاربي للإقامة في سوق أهراس، الذي قطع المسافة إليها مشيا وكأنها رحلة نفي بالنسبة إليه.
هل أفهم منكم أنكم ترعرعتم في أسرة ترفض المدرسة الفرنسية لدواع عقائدية؟ والدي أصبح ميسور الحال يمارس التجارة، فاشترى بعض الأراضي من طرف المعمرين معتبرا نفسه بمثابة أول المحررين لتراب بلاده من خلال أمواله التي حصلها من جهده وعرق جبينه، لكن عدم دخوله المدرسة الفرنسية منعه من استعمال لغة المستعمر خاصة في تعامله مع الكولون، فاعتبر نفسه في درجة أسفل منهم رغم امتلاكه الأراضي الخصبة أسوة بهم، ومنه قرر أن يعلمني في المدرسة الفرنسية حتى يواجه الفرنسيين بلغتهم، وعندما حان وقت الالتحاق بالمدرسة الفرنسية، كانت ثمة فكرة سائدة في مجتمعنا وقتذاك، بضرورة الحفظ القرآني قبل التعليم الاستعماري، فحسب اعتقادهم حفظ كتاب الله في صدورنا مناعة من تسلل الكفر عبر دروس المحتل، هكذا كان اعتقاد الوالدين آنذاك، وأعتبره بلغة اليوم بمثابة أول قرار للمحافظة على الشخصية الجزائرية العربية الإسلامية، ولا توجد عقيدة وطنية من دون عقيدة إسلامية.
الصراع الممتد من الجد إلى الأب بين عقدة اللغة وصون العقيدة.. كيف تلقيت تعليمكم في مدارس المستعمر؟ تلقيت تعليمي الابتدائي في عين الكبيرة "بمدرسة الأهلي للذكور" ثم انتقلت سنة 1942 إلى الثانوية العامة بسطيف "كولاج كولنيال" أكملت بها تعليمي الثانوي سنة 1950.
كيف عايشتم مجازر الثامن ماي 1945؟ عايشت مظاهرات الثامن ماي كسجين ولكن لم أشارك فيها كونها حدثت يوم الثلاثاء المتزامن مع انعقاد سوق سطيف، قدم والدي من عين كبيرة إلى سطيف قاصدا سوقها، لكن عندما بدأت الأحداث طلب مني العودة معه للبيت، خشية أن تتطور الأمور ولا يعلم إلى أين تؤول، لأن الهجوم كان عنيفا من طرف الشعب حسب رواية المستعمر، وتوقعنا رد فعل منه لقمع الجزائريين وهو ما حدث بالفعل، لا ننسى أن المحرك الأساسي للمظاهرات هو انتصار الحلفاء على هتلر، فخرجت الجماهير تطالب السلطات الفرنسية الوفاء بالتزاماتها التي قطعت للجزائريين المجندين إجباريا في حربها كونهم جزءا من هذا النصر.
قلتم عايشتها كسجين ولم تشارك في مظاهراتها.. ما سبب اعتقالكم إذن؟ كنت من الأوائل الذين سجنوا، فبعد عملية القمع والإعدامات الميدانية وارتفاع عدد الضحايا شرعوا في الاعتقالات التي انتشرت على نطاق واسع، فسجن عدد كبير من المواطنين، وتم القبض عليّ من طرف الشرطة الفرنسية التي حوّلتنا إلى المعتقل العسكري في ثكنة سطيف (باب بجاية) قضينا فترة الصيف كاملة هناك، ثم تم نقلنا في شهر سبتمبر إلى سجن الكدية بقسنطينة.
ما هي تهمتكم وكيف جرت فصول المحاكمة؟ عرضنا على المحكمة العسكرية الفرنسية يوم العيد من سنة 1945، بتهمة العصيان ورفع السلاح في حركة تمرد، وتم الحكم عليّ بأربع سنوات سجنا نافذا، أسقطوا علينا نفس قانون التمرّد الذي تم تطبيقه على المتمردين الفرنسيين سنة 1830، ولزلت أتذكر ما قاله لي المدعي العام العسكري أثناء المرافعة "أعطوه أربع سنوات حتى يخرج من السجن باتجاه الخدمة العسكرية هناك يعلموك من هي فرنسا".
ما سرّ قسوة وتحامل المدعي العام على شخصكم؟ لأنه يعتبر مروري عبر المدرستين الابتدائية والثانوية، وما تعلمته فيهما لم يعرفني من هي فرنسا، قضيت عقوبتي المقدرة ب10 أشهر بين سجني قسنطينةوسطيف، ليتم الإفراج عني عشية صدور العفو الشامل الصادر من البرلمان الفرنسي سنة 1946 الذي شمل كبار القيادات التاريخية نحو فرحات عباس والبشير الإبراهيمي (باستثناء المتهمين بالقتل والنهب).
هل من أسماء قاسمتك محنة السجن؟ التقيت عدة مناضلين، يحضرني منهم محمدي سعيد (أصبح القائد الثاني للولاية الثالثة أيام الثورة التحريرية) والطيب بالحروف (أصبح عضو اللجنة المركزية في حزب الشعب) جمال دردور (أصبح نائبا برلمانيا عن حركة انتصار الحريات) والحاج سعيد (محامي في قسنطينة)
كيف واصلتم دراستكم ونضالكم بعد الإفراج؟ حاولت استئناف نشاطي النضالي بعد خروجي من السجن مجددا، لأنه سبق قبل الاعتقال أن انضممت إلى حزب الشعب على يد عمار بوجريدة، لكن بعض المناضلين الشيوعيين في سطيف حاولوا جلبي لحزبهم، محاولين إقناعي بأن حزب الشعب لم يتكفل بنا أيام السجن، مؤكدين أنهم وراء صدور قانون العفو الذي استفدت منه وبأنه نتيجة عملهم، الذي مكن الكثير الخروج من السجن.
متى جندك عمار بوجريدة في صفوف حزب الشعب؟ عمار بوجريدة يعد من المناضلين الذين تعرضوا للسجن في حكم "بيتا" رفقة مصالي بسجن تازولت، تم نفيه إلى عين الكبيرة، كان مناضلا صلبا ونشيطا، بفضله دخلت لحزب الشعب، التقيته بعد خروجي من السجن صدفة في قسنطينة، كان وقتها مسؤول عمالتها، وعلى يده عدت لحزب الشعب ثانية.
وماذا عن مصير دراستكم؟ كنت قد طردت من ثانوية سطيف إثر أحداث 8 ماي، وبعد خروجي من السجن بذل والدي جهدا كبيرا حتى أتمكن من العود لمقاعد الدراسة، وكونه من محبي عباس فرحات، اتصل به شخصيا، أو بنائبه الأمين العام بن محمود، لست أدري، وعن طريق عميد الأكاديمية الذي اتخذ قرار إعادتي للدراسة فالتحقت بثانوية العصرية في قسنطينة أواخر 1946 بداية 1947، جامعا بين الدراسة والنشاط السري، مسؤولا عن طلبة الثانوية المنتمين لحزب الشعب.
ما نوع نشاطكم السياسي داخل الثانويات الفرنسية؟ نضالنا كطلبة يهدف لنشر فكرة وجود الجزائر كأمة، خاصة أمام الذين تعلموا عند فرنسا وأصبحوا يشككون، بل ينفون وجود الجزائر كشعب وأمة ودولة، فكان دورنا محصورا في التحسيس بوجودها خاصة وهم يعتبروننا من دون ثقافة، فكنا نرد عليهم بنشر كل ما يعبر عن الثقافة العربية والإسلامية ونتكفل بتوزيعه.
كيف بدأ وعيكم السياسي وحسّكم الوطني بالقضية الجزائرية؟ المناخ السياسي الذي كان سائدا آنذاك يتمحور حول مطالب حركة الأهالي المنادية بالحقوق أسوة بالفرنسيين كون فرنسا تعتبرهم آهالي عندها لكن لا تقر لهم بحقوقهم كمواطنين فرنسيين غير أن بعد مجازر الثامن ماي وقع انقسام في الحركة الوطنية، بين حزب الشعب بقيادة مصالي الحاج من جهة والتوافق القائم بين الاندماجيين والإصلاحيين من جهة أخرى، الأول ممثل في حركة أحباب البيان بقيادة عباس فرحات، والثاني ممثل في جمعية العلماء المسلمين بقيادة الشيخ البشير الإبراهيمي.
(مقاطعا).. حول ماذا كان يدور الخلاف وما هي أسباب الانقسام؟ كان الخلاف سياسيا وعميقا بينهما، فالبشير الإبراهيمي وفرحات عباس يتهمان حزب الشعب بتنظيمه لمسيرات الثامن ماي دون تهيئة الظروف لذلك، بل حسبهم دفعوا الناس إلى التمرد ويختبئون وراءهم معرضين الناس للهلاك، حيث يرى كلا من فرحات والبشير إمكانية ممارسة السياسة بعيدا عن أي تمرد معتبرين مرحلة التمرد قد انتهت مع المقراني والحداد وأولاد سيدي الشيخ في الجنوب، ويعدونها آخر معارك السلاح مع المحتل.
ما هو تصوّرهم إذن، للنضال في ظل استعمار استيطاني ارتكب لتوّه إبادة الثامن ماي؟ حسب رأيهم المجال المتبقي هو النضال السياسي، للحصول على بعض الحقوق في إطار القانون الفرنسي، الذي ينص على أن الأهالي الجزائريين مواطنون فرنسيون، والتراب الجزائري رقعة جغرافية لا تتجزأ عن التراب الفرنسي، على خلاف قناعة حزب الشعب الذي يعد الفصيل السياسي الوحيد الذي يفكر في ثورة مسلحة، أما فرحات عباس وبشير الإبراهيمي فيعتبران العمل الثوري فعلا شيطانيا، واستعماله يؤدي إلى هلاك الشعب دون أن يمس بالمسؤولين المختبئين وراء التمرد.
لكن ثمة ارتباك على مستوى قرارات الحزب.. ما مرد ذلك؟ لأول مرة سأتكلم حول قضية "Ordre et contre ordre" المتعلقة بقرار صادر عن قيادة حزب الشعب الذي أبرق عشية مسيرات الثامن ماي 1945. الأمر الأول (إعلان التمرّد) لمناضليه بنشر العصيان في جميع أنحاء الوطن، حتى يجبروا السلطات الفرنسية على توزيع قواتهم وإمكانياتهم في شتى ربوع الجزائر بغية تشتيتهم واستنزافهم، ولكن بعد سماعهم للمجازر الفظيعة التي اقترفتها الآلة الاستعمارية في ڨالمة وخراطة وسطيف، خشي الحزب أن يمنح مبررا للمستعمر بتعميم مجازره في جميع القطر الوطني، فأبرق الأمر الثاني(المضاد) من القيادة بوقف التمرّد، لمنع قوات العدو استمرارها في ارتكاب الإبادة.
أين تكمن خطورة الأمر والأمر المضاد؟ تكمن الخطورة حسب بلعيد عبد السلام بخصوص قضية " Ordre et contre ordre" في كون الأمر الأول قد سرى مفعوله، وبموجبه تكونت خلايا ومجموعات لشن عمليات مسلحة في عدة مناطق، فمثلا منطقة القبائل كانت على وشك تنفيذ هجمات فتوقفت بعد أن وصلها قرار الأمر المضاد، في حين لم يصل إلى باقي المناطق الأخرى، على سبيل المثال سعيدة ومعسكر لم يبلغهما "القرار المضاد" فقاموا بهجمات وعمليات كلفت منفذيها المقبوض عليهم عقوبات قاسية تراوحت بين المؤبد وعشرات السنين، وقد التقيتهم شخصيا في سجن الكدية بقسنطينة سنة 1945 ،أثناء مرورهم إلى سجن "لمباز" في باتنة لقضاء عقوبتهم.
كيف شكلت عودة مصالي للحزب من منفاه بالكونغو برازافيل؟ مصالي الحاج أثناء عودته من منفاه بكونغو برازفيل بعد استفادته من العفو الشامل سنة 1946 وجد حزبه قد تغير والتحقت به عناصر جديدة ولم يبق بصورته القديمة، وهو الذي ترك على رأس القيادة عناصر مثل لمين دباغين وحسين لحول ويوسف بن خدة وأحمد مزغنة ومحمد خيضر وأحمد بودة وغيرهم، هؤلاء الذين كانوا معروفين آنذاك بين الجماهير، وإن لم يكونوا يتمتعون وقتها بثقافة كبيرة غير أن ثقافتهم البسيطة كانت شعبية.
ماذا أفرز التغير الحاصل في تركيبة الحزب سياسيا؟ العناصر الجديدة التي التحقت لا يعرفها ومن هنا بدأ فتيل الأزمة، فمصالي كونه زعيما شعر بخطورة وجود أناس جاؤوا أثناء غيابه وسيطروا على الحزب، هذه العناصر الجديدة وجدها تؤمن فقط بالتطرف السياسي لا بالنضال وحده، بل أصبحت ترى في التمرد على فرنسا عملا معقولا، يمكن القيام به ولم يعد تصرف مجانين، وقد انتشرت هذه القناعة لدى الكثير من عناصر الحركة الوطنية خلافا لرؤية مصالي، وهنا بالذات لا ننسى المناخ السائد منذ مطلع الأربعينيات لاسيما هزيمة الجيش الفرنسي أمام النازيين وتوقيعه لوثيقة الاستسلام، كان له بالغ الأثر على الجزائريين، لأن الفرنسيين تمركزوا في استعمارهم للجزائر وفق منطق القوة.
ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا التغير؟ تغير الحزب سببه الانتقال من جيل إلى جيل آخر، فجيل الثلاثينيات الذي عرفه مصالي كان يمارس السياسة في ظل الحركات الفرنسية الموجودة آنذاك، والقائمة على النضال السياسي السلمي في إطار القانون الفرنسي.
ما هي الأسئلة التي واجهها المؤتمر "العاصف" والقضايا التي عالجها؟ السؤال الأول الذي واجهه مؤتمر فيفيري سنة 1947، صدر من الجماعة التي كلفت بتنفيذ الأمر الأول الملغى بموجب الأمر المضاد الصادر من نفس القيادة(Ordre et contre ordre)هذه الأخيرة وجدت نفسها متهمة بالمساءلة من طرف الجماعة: لماذا أوقفتمونا عن تنفيذ العمليات التي حضرناها؟ دفع القيادة من أجل إسكاتهم أو إقناعهم، اتخاذ قرار بتكوين المنظمة الخاصة "لوس"، أما السؤال الذي كان مطروحا بعد عودة مصالي، هل نكتفي بالاستمرار في النضال السياسي؟ وهل يبقى هذا النشاط سريا أو علنيا أم نحضر لكفاح مسلح؟ وبهذين السؤالين فتح النقاش في مؤتمر فيفري 1947 الذي عرف نقاشات ساخنة دامت ثلاثة أيام.
(مقاطعا).. ماذا تمخّض عنه؟ تمخض عنه قراران: الأول تأسيس المنظمة الخاصة كجناح عسكري سري، والثاني ميلاد حركة انتصار الحريات الديمقراطية كجناح سياسي علني.
كيف توصلوا إلى قناعة العمل السياسي العلني بعد مرحلة السرية؟ توصلوا بعد نقاشات طويلة، إلى قناعة الدخول في نضال سياسي علني، وعليه خلقت حركة انتصار الحريات الديمقراطية كغطاء سياسي لضرورة مواصلة النشاط الحزبي، لأن مصالي الحاج من الجماعة التي تؤمن بالنضال السياسي العلني الذي يمكنه من حرية النشاط والتواصل مع الشعب وهي الغاية المرجوة منه، كما يسمح له بالمشاركة في الانتخابات، كونها فرصة تمكنه بالاتصال الجماهيري وتعبئته، وهو الهدف المنشود من العمل السياسي الحزبي، لأن البقاء في النضال السري حسبه يعيقه كون الانتماء للحزب يتم عن طريق العلاقات الشخصية القائمة على الثقة ولولاها ما سمح لأي مناضل بدخول الحزب.
كيف خلقت الأزمة البربرية في قلب حزب الشعب وماهي أطوارها؟ هزيمة العرب في نكسة فلسطين 1948 أمام الصهاينة، كان لها أثر سلبي بالغ على جميع العرب، فبعض العناصر بالقبائلن بعد هذه النكبة، شمتوا بالهزيمة وقالوها صراحة، لا علاقة لنا بالعرب،هنا ظهرت الأزمة البربرية أولا في أوساط المثقفين داخل الفئات الطلابية بالجامعة من طرف المتكوّنين والمتشبعين بالثقافة الفرنسية.