دعا الشيخ مأمون القاسمي في هذا الحوار إلى إعادة إحياء نظام الوقف في الجزائر، وذلك لا يكون حسبه إلاّ بتفعيل آلياته؛ كما كان الشأن بالنسبة إلى فقه المعاملات، الّذي تحرّك وعاد إلى الحياة، باعتماد النظام المالي الإسلامي، وتطبيق الصيرفة الإسلامية. حضرتم ملتقى انعقد في مدينة الجلفة، تناول بالبحث النظام الوقفي وتفعيل آلياته. فكيف تنظرون إلى إسهام الأوقاف في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المسلم؟ نظام الوقف قدّم الخير العميم للأمّة الإسلامية؛ وأسهم بفعالية في بنائها الحضاريّ، بما لم يُعرف له مثيل في التاريخ. فقد شملت مؤسّساته وعمّت عطاءاته مختلف مجالات الحياة الروحية والمادية؛ حيث أسهم في بناء المساجد والمدارس والزوايا، والمصحّات والمستشفيات، والملاجئ ودور الأيتام، والمكتبات؛ وغير ذلك من المؤسّسات الوقفية، التي كان لها دور فعّال في الحياة العلمية، وفي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبإمكان نظام الوقف اليوم أن يُسهم في التخفيف من المعاناة التي تعيشها المجتمعات المسلمة، من جرّاء الجهل والفقر والمرض، وكل مظاهر التخلّف والحرمان. بإمكان الوقف أن يسهم في الرعاية الصحية، والحماية الاجتماعية؛ وفي الأمن الغذائي والتنمية الريفية. بإمكانه الإسهام في ترقية البحوث العلمية، وتطوير مناهج التعليم؛ لاسيما في مجال العلوم الإسلامية. المسلمون مدعوون إلى إحياء نظام الوقف، لإصلاح أحوالهم، وترقية حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وللقضاء على ظاهرة الجهل والفقر والمرض، وكلّ مظاهر التخلّف. المسلمون في حاجة إلى العودة إلى التنافس في الخيرات، ومعالجة النقائص والسلبيات؛ قدوتهم في ذلك آثار الأوّلين من السّلف الصّالح، الذين ملؤوا صحائفهم بأعمال الخير، وتركوا بصماتهم، في كلّ جانب من جوانب الحياة. ما هي، في نظركم. الأسباب التي كانت وراء تراجع الوقف؟ ما شهدناه من تراجع الوقف في مجتمعاتنا، وإعراض الناس عنه في العقود الماضية، كان من أسبابه الاحتلال الأجنبي ومصادرته أوقاف المسلمين. وظهر ذلك، أكثر ما ظهر في الجزائر؛ حيث أقدمت على ذلك فرنسا، خلال فترة الاحتلال. والمؤسف أنّ بعض الدول الإسلامية التي تحرّرت من الوجود الأجنبي، فعلت هي الأخرى، ما فعله الاحتلال من مصادرة الأوقاف، وتحويلها عن مقاصدها الخيرية. وكان هذا من أهمّ الأسباب لإعراض المحسنين عن الوقف الخيري؛ يضاف إلى ذلك سوء الإدارة للمؤسّسات الوقفية، ممّا أفقدها الثقة والمصداقية؛ وزهّد المحسنين في الإقبال على هذه الصدقات. والمحسنون، حين يعلمون فضل الصدقة الجارية، وأنّ خيرها قائم، وأجرها دائم؛ وحين يوقنون بأنّ صدقاتهم تكون بأيد أمينة، لاشكّ في أنّهم يقبلون عليها، ويتنافسون في سبيلها مطمئنين. كيف تنظرون إلى النهوض بمؤسّسات الوقف، وتطويرها، وتفعيل آلياتها في حياة المجتمع؟ لتحقيق هذه الغاية، دعونا إلى إحياء فقه الوقف؛ وندعو إلى إحياء فقه الزكاة؛ كما كنّا ندعو إلى العناية بفقه الأولويات، وفقه المقاصد والمآلات. وفي تقديرنا، فإنّ إحياء فقه الوقف، لا يكون إلاّ بتطبيق نظام الوقف، وتفعيل آلياته؛ كما كان الشأن بالنسبة إلى فقه المعاملات، الّذي تحرّك وعاد إلى الحياة، باعتماد النظام المالي الإسلامي، وتطبيق الصيرفة الإسلامية. وهنا نرى من الضروري إصدار تشريعات وسنّ قوانين خاصة بالوقف، تراعي المستجدّات، وتأخذ بالاعتبار متطلّبات الحياة. وحبذّا لو نستفيد، في هذا المجال من الأبحاث والدراسات التي أنجزتها مراكز البحث في عدد من الجامعات. كما يحسن بنا الإفادة من تجارب البلدان التي سعت إلى تطوير النظام الوقفي، وكذلك الإفادة من التجارب الناجحة في بلدان الغرب، في أمريكا وأوربا، التي نقلت عنّا نظام الوقف الإسلامي؛ وأنشأت، وفق هذا النظام، مؤسّسات خيرية كثيرة، تعدّ بالآلاف؛ أصبحت تُسهم بفعالية، في مجالات: التعليم والبحث العلمي، والطاقة، والبيئة، والرياضة، والثقافة، والفنون، والأغذية، والزراعة، والثروة السمكية، والصحة، والضمان الاجتماعي، والعمل، والتجارة، والصناعة؛ فضلا عن مجال رعاية الطفولة والأمومة والشيخوخة. ونحن كثيرا ما لاحظنا، في الاتّجاهات الحديثة، تزايد عناية المجتمعات بمؤسّسات العمل الخيري، وإبراز دورها في التمنية الاجتماعية؛ وهو ما يتّفق مع نظام الوقف، في الوسائل والغايات. هذا ما نجده في أمريكا الشمالية والجنوبية، وفي الدول الأوربية، ومنها بريطانيا، على سبيل المثال، التي كان فيها، قبل نحو ثلث قرن، ما يزيد عن خمسمائة جمعية خيرية، بنظام الوقف؛ ونحو مائتين وثلاثين مؤسّسة وقفية، تعمل في المجالات التعليمية والتربوية، ومجال البحوث العلمية؛ فضلا عن مشاركتها في توفير الخدمات المختلفة. وماذا عن دور الجامعات؟ نرجو أن تهتمّ الجامعات في البلاد الإسلامية، لاسيما كليات الاقتصاد، وكليات العوم الإسلامية، بالدراسات العلمية الّتي تدرس نظام الوقف، وتبحث عن أفضل الطرق والأساليب، لاستثماره، وتفعيل آلياته، حتّى تتحقّق الثمرة المرجوّة من الأوقاف، بإسهامها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات المسلمة. كما نرجو أن تتكرّر مثل هذه الملتقيات، وتراعى فيها خصوصيتها العلمية، بالعناية أكثر بجلساتها العلمية، والإعداد الجيّد لتنظيمها، والحرص على اختيار المشاركين فيها، والتركيز على الباحثين من أهل الاختصاص، وعلى الجامعيين من طلبة الماجستير والدكتوراه، لتتحقّق الغاية منها، وتتمّ الفائدة المنشودة من تنظيمها.