حلت أول أمس الثلاثاء الذكرى الخمسون لإطلاق منظمة "أوبك" للدول المصدرة للنفط. كان ذلك في الرابع عشر من سبتمبر العام 1960 في بغداد العراق * ولكن فكرة أوبك سبقت هذا التاريخ بعشرين عاما، وبالضبط في فنزويلا وبدوافع فلسفية فكرية سرعان ما تحولت الى أبعاد تجارية أدخلت الذهب الأسود الى الأسواق العالمية من بوابة توازن الأسعار. وقليل من الناس من يعرف أن وراء إطلاق أوبك فكرة أخلاقية تتعلق بعدالة توزيع خيرات الطبيعة بين شعوب الكوكب أي بين الدول التي نصفها بالنامية وتلك الصناعية أو المتقدمة. وقليل من الناس من يعرف أن للمنظمة عند تأسيسها صندوق للتنمية هو "الأوفيد" أي صندوق أوبيك للتنمية الدولية يعنى بمصالح الشعوب الفقيرة وحماية البيئة، ولكن لا أحد يعرف مصير هذا الصندوق أو إسهاماته في تحقيق الهدف الأسمى للمنظمة وهو تحسين ظروف حياة المجتمع النفطي باقتناص أقصى قدر من الفرص الناجمة عن التبادل التجاري العالمي. فماذا تعرف الشعوب عن ماضي وحاضر الأوبيك؟ وبما استفادت من هذا التاريخ؟ وهل تعرف تلك الشعوب شيئا عن مستقبل المنظمة المنتظر في ضوء تقارير دولية محترمة تقول: "عصر النفط ...انتهى"؟ * * قبل 70 عاما كانت الفكرة * في العام 1940 والحرب العالمية الثانية تشتعل، أطلق وزير البترول الفنزويلي في ذلك الوقت "ألفونسيو بيريس" وهو مفكر مرموق، فكرة انشاء اطار تنظيمي للدول المصدرة للنفط، أثمرت بعد عشرين سنة ميلاد الأوبك. وكانت الفكرة قائمة على مبدأ التحرر من تبعية نفط الجنوب لشركات الشمال المعبرة عن فلسفة المركز الرأسمالي في تأمين التدفقات المالية الضرورية لتمويل الحرب من جهة ولدعم الانتاج الصناعي من جهة ثانية، أي من خلال التبادل غير المتكافئ، ومنه التبادل في ساحة الاستثمارات والتجارة النفطية. كما بنيت الفكرة على مصلحة فنزويلا في حماية نفطها من نفط الشرق الأوسط الذي بدا سلعة منافسة بفضل تكاليف انتاجه المنخفضة. إلا أن مبدأ التبادل العادل في صناعة النفط كان الركن الغالب في الفكرة مما شجع كلا من السعودية والعراق وإيران والكويت على اعتناقها وإخراجها العام 1960 في شكل منظمة دولية تعنى بتنسيق المواقف بين الدول المصدرة للنفط خدمة للفكرة التي أطلقها "ألفونسيو بيريس" ودعمه فيها نظيره السعودي الشيخ "عبد الله محمود الطريقي" إلا أن تحولات مست الفكرة وتحولت أوبك بعدها الى مؤسسة شبه تجارية تعنى بتوازن السوق النفطية وحماية أسعار الذهب الأسود من الانهيار . * * الآمال المعقودة والأهداف المفقودة * تنتج دول أوبك 40 بالمئة من إجمالي الانتاج العالمي من النفط؛ أي 29.15 مليون برميل يومي، وهو ما يزيد قليلا عما اتفق عليه خلال قمة الجزائر شهر جانفي 2009 بسبب عدم احترام الأعضاء لمبدأ الحصص، وتملك دول أوبك الإحدى عشر وحدها 70 بالمئة من المخزون العالمي من الذهب الأسود المعبر عنه بالاحتياطي القابل للاستخراج . * وفضلا عن الانتاج بالمستوى الحالي، تملك أوبك قدرات انتاجية تصل الى مستوى 35 مليون برميل يومي، خاصة بعد عودة العراق الى المنظمة العام 2003، وبهذه المعطيات تتربع المنظمة على عرش السوق النفطية من خلال تجربتها الناجعة في التأثير في الأسعار وموازنة العرض بالطلب، وهو الهدف التجاري الذي رسم لها بعد أن تضاءلت الفكرة الأصلية وهي استخدام النفط كسلاح لمقاومة الشركات البترولية العالمية وإطلاق صناعات وطنية ومحاربة الفقر والتخلف وهشاشة البنى الانتاجية التي ما زالت تميز المجتمعات النفطية عن نظيرتها الصناعية. ولهذا تتهم المنظمة بأنها أطالت من عمر التخلف الصناعي لأعضائها لأنها حولت إيرادات النفط الى مجرد ريع يمول الخزينة ويحمي الأنظمة الحاكمة من السقوط، والدليل على ذلك أن آمالا عقدت على "صندوق أوبك للتنمية الدولية" سرعان ما تراجعت تحت ضغط الأهداف التجارية الضيقة، وظلت جل الشعوب النفطية حبيسة اقتصاديات هشة لا تقوى على مقاومة الصدمات على الرغم مما جنته الحكومات من إيرادات نفطية لامست 530 مليار دولار لصالح مجموعة أوبك العام 2009 وحده، وظلت الاقتصاديات النفطية تسجل أرقاما متأخرة في مجال تنافسية الأسواق عدا دولة واحدة هي الامارات العربية المتحدة على وقع الجذب الخدماتي فقط . * * النفط يتمدد في فراغنا الاقتصادي * حاول الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين -رحمه الله- إحياء الفكرة الأصيلة لإنشاء الأوبك من خلال دعوته الى ربط أسعار الواردات الصناعية بأسعار النفط، وهو الربط الذي يشكل واحدا من أبعاد التجارة المتكافئة. وتم إطلاق هذه الفكرة العام 1975 تحت قبة منظمة أخرى هي الأممالمتحدة دون أن تجد مناصرين كثر، وتحاول حاليا كل من فنزويلا وإيران إحياء الأفكار الأصيلة للأوبك، ولكن في حيز يبدو ضيقا هو "مؤتمر القادة" بينما تتجه المؤتمرات الوزارية نحو الهدف التجاري، ويكتفي مجلس الحكام بمراقبة تنفيذ القرارات المتعلقة بالحصص. وأنشأت المنظمة صندوقا هو "صندوق الأوبك للتنمية الدولية" بغرض اطلاق مشروعات محاربة الفقر وترقية البيئة في دول الجنوب، ولكن قليلا من الناس من يعرف شيئا عن هذا الصندوق، ولا أحد يكاد يقيم فعاليته في تحقيق أهدافه بسبب الغموض المحاسبي وضيق أفق الشفافية حوله. وفي جانب أنماط الإنتاج تتميز الدول النفطية باقتصادات غير متنوعة تماما -عدا دولة واحدة هي السعودية التي أبدت استجابة محسوسة لأهداف التنمية المبنية على الصناعات المتوسطة والصناعات المشتقة من النفط- وكأن النفط بين أعضاء أوبك يتمدد في فراغاتها الاقتصادية، في حين أنه يساهم مباشرة في التطور الصناعي لدى الدول المستهلكة، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان التي بنت قاعدتها الاقتصادية على مبدأ التنوع فأثمرت دولة صناعية ظلت لوقت طويل ثاني أكبر دولة اقتصادية في العالم. * وتحتفل دول الأوبك بالذكرى الخمسين لإنشاء المنظمة وقد تحولت الشعوب النفطية الى متفرج ممتاز على قضايا الصفقات غير القانونية التي طالت قطاع النفط في عديد الدول العضوة ليتحول الذهب الأسود بدوره الى ساحة أخرى للفساد الكبير ولتحقيق منافع شخصية على حساب التنمية الوطنية التي لا تزال رهينة مستوى أسعار النفط في الأسواق الدولية ورهينة الجباية البترولية التي لامست في بعض دول أوبك سقف 60 بالمئة من اجمالي الجباية ورهينة الصادرات من النفط الخام والتي تحتل لدى البعض 97 بالمائة من اجمالي الصادرات. * وفي كل الأحوال تستعد دول أوبك لاستقبال تحديات جديدة على منحى الأداء التجاري قد يسبب لها متاعب أخرى وخاصة مع خطط الانتاج في العراق الجديد والهادفة الى الرفع من حصة هذا البلد من 2 مليون برميل يومي الى 12 مليون بحلول العام 2016، خطط ستجر معها خططا موازية لبقية الدول مما يعيق مرة أخرى مبدأ التنسيق في اتجاه المحافظة على استقرار الأسعار ويمهد - بالتالي - لمشاهد محتملة ربما تأتي على الهدف التجاري للمنظمة بعد أن تم القضاء على هدفها الفكري والفلسفي .