دخلنا الاحتراف الذي تفرضه الفيفا في كرة القدم بقرار إداري من الاتحادية ودعم من الحكومة اللتين تجرّان النوادي قسرا نحو عالم مغاير لذلك الذي عهدناه على مدى أكثر من أربعين عاما. غير أن النتائج ليست مضمونة مسبقا والنجاح لن يأتي بقرار مماثل، لأن الاحتراف ثقافة وفكر قبل أن يكون ممارسة، ويلزمه مناخ وشروط وموارد بشرية تفهم في الماناجمنت والتسيير وتفهم في كرة القدم، وتختلف عن كل الذهنيات التي أشرفت على الكرة عندنا منذ الاستقلال، وهو ليس استجابة لشروط دفتر أعباء وتغيير في تسمية النادي، وليس قطعة أرض يملكها الفريق، وعشرة ملايير سنتيم تمنحها الدولة، ومدرسة كروية يشرف عليها ومرافق إدارية أخرى.. بل هو في الأصل أيضا رئيس محترم يفهم في التسيير ومدير إداري كفء يفهم في إدارة المؤسسات ومواردها المادية والبشرية، وهو إطارات فنية وإدارية وطبية وقانونية مؤهلة تشرف على مؤسسات تصرف الملايير وتجر وراءها ملايين المناصرين، وتلعب دورا هاما في التنشئة الاجتماعية والتوعية والتربية، وتقدم خدمة عمومية لا تختلف عن الخدمات الأخرى من حيث الأهمية، لأن الأمر يتعلق بكرة القدم، وما أدراك ما كرة القدم! قد يعتقد البعض بأنني أبالغ عندما أتحدث عن أهمية الاحتراف في كرة القدم بهذه الكيفية، ولكن واقعنا في كل المجالات وعبر كل المحطات والتجارب التي مررنا بها هو الذي يقودني وغيري إلى إثارة الانتباه.. كم اتخذنا من إجراءات وقرارات، وكم أنجزنا من مرافق وهياكل على كل المستويات، ولكننا فشلنا في الاستغلال والاستثمار والوصول إلى قمة الاحتراف والفعالية في الممارسة ولم نحقق الغايات من وجودها، لأننا لم نفكر في تكوين الإطارات التي تتكفل بتلك المرافق وتستغلها الاستغلال الأمثل، ولم نضعها بين أياد مهنية كُفأة، حتى جاءت النتائج معاكسة لكل التوقعات، وتحولت النعمة إلى نقمة، والكم إلى هم، والاحتراف إلى انحراف في الإدارة والتربية والتعليم والصحة والسكن وغيرها.. جميل جدا أن ننجز مطارات وطرقات ومستشفيات ومدارس ومراكز تكوينية ومؤسسات ومدنا بأكملها، ولكن أغلبها يوجد في حالة يرثى لها بسبب الضعف الفادح في تسييرها واستغلالها، وانعدام المهنية والاحترافية في إدارتها، وكأن جزائر اليوم لم تعد تنجب من يشرف على مشاريعها ومؤسساتها، وكأنها لا تعرف أن الرأسمال البشري أهم عوامل النجاح التي يجب أن يتوفر في كل عملية، فصار التكوين والرسكلة وإعادة التأهيل آخر اهتمامات الإدارات والمؤسسات ولا يُصرف من أجلها سنتيم واحد.. الرياضة في الجزائر بدورها تتوفر على إمكانات وهياكل ومرافق هامة من دور الشباب إلى المركبات والملاعب والقاعات والمعاهد والجمعيات والاتحادات، لكن العنصر البشري والكوادر التي تشرف عليها تبقى أكبر عائق في طريقها، بالإضافة إلى غياب السياسات والاستراتيجيات الملائمة لكل مكان وزمان، رغم أننا كنا السباقين دائما إلى طرح الأفكار وسن القوانين وبناء المرافق، ورغم أننا ندرك أين الخلل وما العمل، وكيف السبيل للوصول إلى الاحترافية والعالمية.. حال كرة القدم مع الاحتراف لن يختلف - من دون شك - عن باقي القطاعات، وقد يتحول إلى انحراف عن الغايات والأهداف، لأن الاتحادية والرابطات بحاجة إلى إطارات محترفة، والنوادي بحاجة إلى مؤطرين ومسيرين وإداريين من نوع آخر يختلف عما ألفناه لحد الآن.. لهم القدرة على التسيير الأمثل للملايير التي ستمنح للنوادي، والقدرة على التخطيط ورسم الأهداف وتوفير الإمكانات لتحقيقها، ولا يمكن لمن عاش وكبر هاوياً وعمّر طويلا في وسط كروي هاو، أن يتحول بقرار وقانون، أو بقدرة قادر، أو بين عشية وضحاها، إلى محترف يقود الاحتراف ويشرف عليه في الجزائر، لأن الفارق يصنعه الرجال بأذهانهم وسواعدهم وليس بحجم القوانين والمرافق ولا الأموال التي بحوزتهم. النوادي المحترفة لا تمارس كرة القدم في ملاعب لا تصلح للممارسة، ولا يسيرها الرئيس لوحده حسب أهوائه ونزواته كما تعوّدنا، ولا تخضع لضغط الشارع والأهواء، بقدر ما تخضع لمقاييس ومعايير اقتصادية وتنظيمية، أكثر مما هي رياضية شوفينية ترتكز على الفوز بالمباريات بكل الطرق، والظفر بأحسن المدربين واللاعبين، والحصول على الملايير والشهرة والسلطة والنفوذ.. الأمر يحتاج إلى تكوين وإعادة تأهيل للرؤساء والمسيرين والإداريين والمحاسبين والأطباء، وتوعية الجماهير واللاعبين بأن المال والانتصار وسيلة لا غاية في عالم اليوم، والغاية الكبرى هي مساهمة الكرة مع السياسة والتربية والثقافة في تجسيد المشروع الاجتماعي الذي نريده لأبنائنا.. وهي إعادة بعث الروح الرياضية وسط أبنائنا وتقديس الجهد والبذل والعطاء.. وهي أيضا نشر ثقافة التسامح والتآخي بين الرياضيين والجماهير، وليس ثقافة الحقد والكراهية والانتصار والهزيمة. الدوري الجزائري المحترف سيبدأ هذا الأسبوع، ويبدو أنه لن يختلف عن سابقه إلا في التسمية والملفات والوثائق التي تم إيداعها على مستوى الفاف من طرف نفس المسيرين الذين كانوا في الموسم الماضي وبإشراف نفس المدربين.. كما أن المباريات ستلعب في نفس الملاعب التي لا تتوفر كلها على أدنى شروط الأمن والراحة للمتفرجين واللاعبين والإعلاميين.. وغاية الجميع ستكون الفوز بالمباريات وبالبطولة بكل الطرق، دون أدنى اعتبار أو وعي بأهمية المشروع الاحترافي في الجزائر، ودون أدنى استعداد فكري ومهاري وتنظيمي.. ومع ذلك يبقى المهم في هذه الحالة أننا بدأنا بالخطوة الأولى في انتظار التالية، لأننا لو انتظرنا أكثر لفاتنا القطار..