(الجزء الأول) أصغر أبنائي مولع ولعا شديد بالحيوانات، فهو منذ صغره يطالب بالمزيد من الدببة والأحمرة الوحشية والقردة والضباع والقطط والفهود.. وقد كوّن على مدى سنوات ثروة حيوانية هائلة، يحتفظ بها في درج سريره في غرفة بالبيت، ويقضي معها أوقاتا مرح ولعب طويلة. الأمر لا يتعلق بحيوانات حقيقية، إنها مجرد نماذج مصغرة؛ بعضها مصنوع من البلاستيك، (صناعة صينية)، أو من الصوف أو القطيفة أو أي قماش خاص، وبعضها الآخر يطلق أصواتا غريبة، أو أنغاما راقصة مصحوبة بموسيقى، كما يفعل ذلك الجمل الرائع الذي أهدته إياه إحدى خالاته، بعد عودتها من رحلة سياحية إلى تونس قبل قيام الثورة. إنه جمل لطيف مصنوع من قماش جيد، يمكن إفراغه من حشوة الصوف التي بداخله وجهاز صوتي صغير، وغسله يدويا ثم نشره وتجفيفه، وبعد ذلك إعادته إلى الحياة كما كان في السابق. وعلامة الحياة هي تلك النغمة التي يطلقها بعد كل ضغطة خفيفة على بطنه : الله.. الله يا بابا و سلام عليك يا بابا.. سيدي منصور و نجيك نزور.. ابني يقول عادة :"أريد الحصول على حيوانات من تونس". ربما لأنه يعتقد بجودة سلالتها. والسلالة في هذه الحالة، لا تعني سوى الصناعة الجيدة. كما أنه يريد أن يعرف دائما، أيهما أقوى النمر أم الأسد؟ ولديه في قاموسه عبارات علمية من قبيل: فرس النهر يحب العيش في المياه العذبة، أما التمساح فهو يعيش في المياه القذرة.. ولا أظن أنه يفرق بين العذوبة والملوحة.. إن أية بركة من مياه الصرف تجعله سعيدا ومتحمسا لاتهام فرائسه. حدث مرة أن أحد أصدقائي اكتشف ولع ابني بالحيوانات، فصار يتحدث إليه عن الأرانب والأيائل والثعالب.. ويخبره بقصص غريبة عن الغابات والأفاعي وما إلى ذلك.. وتجاوب ابني مع هذا الحديث إلى أن سأله صديقي: هل تريد أن تكون صاحب حديقة حيوانات في المستقبل؟؟.. "بلى.. بلى.. أريد ذلك بشدة". هل تريد أن تذهب إلى إفريقيا وتجلب من هناك أسدا أبيض.. أو فيلا؟.. "بلى.. بلى.. أريد ذلك بشدة". هل تريد أن تكون بيطريا..؟؟ هل .. هل تريد.. .. هل.. .. هل.. وبلغ الحماس بابني إلى أن صرح بعظمة لسانه: في الواقع يا عمي.. أريد أن أكون حيوانا. أنا أيضا في طفولتي كنت أحب الحيوانات، ولدي معها قصص رائعة، انتهى بعضها نهايات غير سعيدة؛ حمام، كلاب، أرانب، قطط.. دجاج.. ماعز.. خرفان.. و..جحش واحد. حصلت عليه صدفة، وربيته حتى بلغ أشده وصارت بيننا صداقة عميقة، لكن والدي، في آخر الأمر أطلق عليه النار ذات يوم، فأرداه قتيلا. لقد حزنت من أجله وجلست لساعة قربه، وهو يلفظ أنفاسه، بينما كانت أمعاءه تنبض بسرعة، وثمة بخار يتصاعد منها. لا أريد العودة إلى هذه الذكرى السيئة الآن، ربما سأتحدث عنها في فصل لاحق. قبل سنتين تقريبا أهدى صديقي الشاعر «محمد عياش» لابني، قطة صغيرة بيضاء، على ظهرها بقع سوداء صغيرة، وفي نظرتها عذوبة بالغة. رباها ابني (المغازي)، تربية جيدة، وصار يتقاسم معها طعامه وينظفها كل يوم بمساعدة والدته، وعلمها أن تقضي حاجتها في التواليت، وتشاهد أفلام الكرتون، وأحيانا يقرأ لها قصصا مشوقة. وقد أطلق عليها اسم «مجدولة». في الواقع أن هذا الاسم كان واحدا من بضعة اقتراحات عرضتها عليه صديقة مغربية مغرمة هي الأخرى بتربية قطة رائعة من نوع غريب، كما أغرمت الشاعرة «سليمى رحال» بقطتها «سما» فاعتبرتها، في نص لها بجريدة «الجزائر نيوز» ممثلها الرسمي والوحيد للشعر في حياتها. لقد قالت عنها حرفيا: (علاقتي بالشعر تشبه تماما علاقتي بقطتي الشيرازية.. إنها تعاملني كخادمة لها وتتأفف وتهز ذيلها بعصبية إن تأخرت أو تكاسلت في أداء واجباتي نحوها، فهي تختصر وجودي في كوني حيوان طويل القامة، موجود في غابتها الصغيرة ليهتم بمأكلها ومشربها وتنظيف مكان نومها ومكان قضاء حاجتها وحمايتها من القطط الضالة التي تترصد النافذة..).. القطط الضالة... يا إلهي.. إنها مشكلة مربي القطط. الأستاذ محمد الصالح حرز الله، لديه قطة رائعة، من سلالة «السيامى»، ذات فرو فاخر، يشبه شوكولوطا بالحليب، إنها أصيلة وهادئة، تقفز إلى الطاولة بمجرد أن تلقى الترحيب، لكنها، للأسف ممنوعة من الحمْل، بسبب تحرشات القطط الضالة. لقد عاشرتْ في الماضي قطا سيء الطباع وأنجبت منه «داموس» الذي بلغ أشده اليوم، رأيته ذات مرة يتجول، وكله فخر بنفسه. لقد حدثني عنه الأخوان بوزيد حرز الله ومحمد الصالح. وأخبراني أن "«داموس» قط لطيف.. يستحق كل المحبة، لكنه يبت عادة في الشارع". «مجدولة» التي أنجبت مرتين، صارت هي الأخرى تبيت في الشارع. لقد بلغت سن الرشد قبل حولي عام، فظهرت عليها تصرفات غريبة؛ تخفض بطنها وتهز جذعها وتموء.. فيما بعد أخبرني أحدهم أنها تريد أن تتزوج. لهذا لجأت لأحد الأصدقاء واستعرت منه قطا بلون الثلج، من سلالة خاصة، ووضعتها معه في غرفة واحدة، لكنها منذ البداية لم تستلطفه فنفرت منه، بل صارت أحيانا تعامله بسوء. في الأخير اكتشفت أنها معجبة بقط متشرد وأن خجلها فقط، أو لتقلْ قلة تجربتها هي السبب في امتناعها عن مواعدته. لقد اكتشفت هذا بالصدفة، فتولدت لدي خيبة أمل من أن «مجدولة» لن تكون قطة صالحة أبدا، وأن ما بذله ابني وباقي الأسرة لتربيتها وتنقية عِرقها لم يكن إلا عبثا في عبث. إنها ترغب في الإنجاب من قط صعلوك، وإذا بقيت على علاقة به فسيكون لدينا المزيد من القطط الشوارعية. وهذا أمر بالغ السوء. في النهاية أصرت مجدولة على اختيارها وصار القط المتشرد يبقى لساعات طويلة أمام عتبة بيتي، بانتظار أن أرأف به وأشفق على حاله فأسلمه حبيبته على طبق من ذهب. وهذا ما حدث بالفعل.
أنجبت «مجدولة» ثلاثة أولاد ومرت الأمور بسلام. لكن القط المتشرد تركها واختفى من حياتها تماما، فيما هي انشغلت بتربية أولادها غير آسفة على ما حدث. توقعت أن «مجدولة» قد حفظت الدرس وتعلمتْ بالتجربة أن أغلب الذكور يخونون دائما حبيباتهم، وأن الحب الذي لا يبنى على التكافؤ الاجتماعي والثقافي مآله الخسارة دائما. «مجدولة» أنجبت مرة أخرى قبل أسبوع، قطين صغيرين، أحدهما أحمر مخطط والثاني رمادي. الغريب في الأمر أن «مجدولة» أثناء فترة التزاوج الأخيرة قد عادت إلى القط المتشرد، وعاشرته بينما كان قط آخر يعرض نفسه عليها ويتودد لها، وهي ترفضه. إنه قط ضخم وقوي، رغم ذلك لا يبدو أنه من النوع الذي يضمر السوء للإناث الضعيفات. أظن أنه أحبها بعمق. لكنها لم تبادله الحب وتمسكت بحبيبها الأول. ما أثار انتباهي أن القطين الذين أنجبتهما "مجدولة"؛ أحدهما يشبه تماما القط المتشرد، (زوجها الحقيقي)، والثاني يشبه تماما القط العاشق الذي لم يلنْ قلبهُا له. إن هذه الواقعة لتدهشني حقا، وإنني لأتساءل هل يمكن أن نبدأ بسرد حكاياتنا مع الحيوانات، وقد كان لها التأثير البالغ في طفولتنا. ابني له أيضا تراث صغير من الحكايات مع الحيوانات غير الحقيقية، التي تعيش في درج سريره، وأيضا مع القطة "مجدولة" المشاغبة. يقول باحثون أن القط المنزلي ينحدر من سلالة القط البرّي الإفريقي الذي استأنسه المصريون، في عام 3500ق.م تقريبًا. والقطط المستأنسة هي تلك التي تقتل الفئران والجرذان والثعابين ولذلك منعت هذه الآفات من غزو الحقول المصرية ومخازن الحبوب. وأصبحت القطط حيوانات أليفة مدللة وخُلِّدَت في اللوحات والنقوشات والنحت. في القرن السادس عشر قبل الميلاد قدّس المصريون القدماء القطط. فعبدوا إله الحب والخصوبة المسمى «باستيت» أو «باست»، وهو على هيئة رأس قط بجسم مرأة. وكان المصريون يعاقبون كل من يسبب الأذى لأي قط عابر حتى ولو كان مشردا، وقد تصل العقوبة إلى حد الإعدام. وعندما يموت قط كان المصريون يحلقون حواجبهم علامة على الحداد ويحولون القطط الميتة إلى مومياوات. وقد وجد علماء الآثار مقبرة قديمة للقطط في مصر تحتوي على أكثر من 300.000 مومياء للقطط. إذن فإن القطط كانت كائنات مقدسة لدى المصريين. تتمتع القطط بمهارة كبيرة في الصيد والافتراس تقارب السنوريات الكبيرة كالنمر، إلا أنها لا تشكل خطراً حقيقياً على الإنسان نظراً لصغر حجمها. تزن القطة بين 4 و 7 كغ، وقليلا ما تصل إلى 10 كغ. من الممكن للقطة أن تصل ل23 كغ ويحدث ذلك عندما تطعم بشكل زائد. وهذا غير جيد فالطعام الكثير يسبب أضراراً للحيوانات. وللقطط قدرة كبيرة على الرؤية في الظلام، وللقطة غطاء ثالث للعين، إذا أظهرت القطة هذا الغطاء بشكل مزمن، يعني هذا أن القطة مريضة. وتحب القطط النظافة، وكثيراً ما تلعق فراءها لتنظيفه ولكسب فيتامين سي. كما تحب القطط مطاردة الفئران...