تتنوع حياة الإنسان بين مدركها ومجهولها، حاضرها وماضيها، مجدسها وغائبها، وهي كلّها تتحرك في دينامية مستمرة بين المصدر والتشكل والوظيفة، في نسق زماني مكاني يخضع لمنطق الحاجة على تعددها وتنوع خلفياتها، ثم القدرة وإمكاناتها، فوظيفتها التي هي صور التحقق الذي يحدث لاحقا. ضمن هذا السياق ولدت الفنون الإنسانية جميعا، وانبثقت أنشطة الكائن البشري فيما حصل الاتفاق عليه بأنه يخاطب جماليات النفس البشرية، وكانت في هذا الفلسفة الموسوعية في نظرتها الشمولية تحاول قراءة شبكة الفنون وتجلية صورها بالعودة إلى الحاضر منها في مساحة الاشتغال، منطلقة إلى صياغة قواعد تحليلية لما أصبح إنتاجا وظيفيا له كفاءة البناء، ولعل ما كان ثابتا في تلك الفلسفة، على تباعد أزمنتها وتباين منطلقاتها وخلفياتها وتمايز حضاراتها، هو وضعها للإنسان في نقطة المركز من شبكة الفن، وما كان ذلك باتفاق منتخب ولكن حصل من لدن الفن نفسه ومن داخل ذاته، وبذلك فالمادة هي التي تحكمت في التنظير والدرس، حين فرضت حضورها في بؤرة الأنا المفكر، تماما كما تحكمت الظواهر الفيزيقية في استنباط القوانين العلمية. هذه هي نظرة الأنثروبولوجيا البنيوية في تفسير الظاهرة الفكرية الإنسانية عموما، وبخاصة النص الأدبي مولية اهتماما كبيرا للظواهر الأدبية الكبرى (المركزية) ذات البعد الجماعي التاريخي، من حيث هي بنيات مركبة تمتزج فيها روح شعب كامل، كالأساطير مثلا والملاحم والفنون الشعبية المنطوقة منها والممارسة والنفعية. ويقع النص الأدبي الشعبي في القلب من هذه البنيات بأنواعه المختلفة، وهو إبراز كلامي فني على خلفية اللغة النفعية التواصلية المباشرة، يخطّب فيه المبدع الشعبي مادة جمعها من الحياة ومفاعلاتها، ويرهّن بنيات ثقافية واجتماعية ونفسية مستوعبة في بنية الزمن والمكان، ويحدث ذلك حين يحوّلها ضمن البنية النصية المنتجة التي ينتمي إليها حضاريا إلى دلالات ثقافية عبر علامات لسانية ذات تفاعل اجتماعي تحمل المعاني الوظيفية. ولعلنا مما تقدم نُمَوضع مفهوم الواقعية الشعبية في سياق النقاط التالية: 1- النص الأدبي الشعبي فعل دال يتكون في إنتاجه من مشتركات فكرية وفنية جماهيرية، وحين تلقيه تحصل له قراءة منتجة ضمن الخلفية نفسها، من حيث هو خطاب، ومن حيث هو نص، ولذلك يحدث اختفاء المبدع الشعبي، فيخرج النص من (أنا) ذاته إلى (أنا) الفن الكلامي الشعبي بخروج المبدع من (أنا) الفرد إلى (أنا) الجماهير والشعب. 2- من حيث الخطاب الذي هو الموضوع المادي للإبداع، يمظهر النص الشعبي صورة اللغة والقانون المجسد (الأمبريقي) في سياق غير مملوك للفردية، ولذلك لا يمكن القبض على التفاعلات النصية (التناص) في النص الأدبي الشعبي، لأن الخطاب يحجبها بكثافته الجماعية، إلا إذا ركزنا على المحور العمودي في إنتاجية الدلالة النصية (التاريخ). 3- تتحكم الوظيفة كاستراتيجية كبرى في إنتاجية النص الشعبي، وهو ما جعله واقعيا من الناحية السسيولوجية تمتزج فيه خطابات كثيرة، تنتظم وتتناغم في حدود أدبيته، ويتم تلقيها كبنيات سسيولسانية وسسيونصية في بيئة اجتماعية ثقافية متزامنة ومتجايلة. يسوغ لنا تشغيل دائرة السؤال والتساؤل بحثا عن الجواب التجاوب، لنؤشكل ما سبق طرحه في السؤال التالي: لماذا لا يأخذ النص الأدبي الفصيح (النخبوي) بأنواعه بهذه الواقعية الشعبية في إبداعه وإنتاجيته؟. أقول هذا لأنه قد حدث لدى المجتمعات الغربية بشكل واسع، وأهل الأدب يعرفون. أما عندنا فلم يحدث إلا في النادر ولدى أسماء محصورة، فقد طغت على كتابنا (أدبائنا) الشوفينية الفردية الضيّقة الخانقة، وانخرطوا في تقاليد إبداعية هي في حقيقتها واقعيات شعبية لغيرنا، وإن تسّمت بالمذاهب في الزمن القريب، وهي الآن تتلون بألوان العولمة.. فماذا نحن مبدعون؟؟..