يقول الله سبحانه وتعالى في بيان أذى الكفار للمسلمين مع الاستنصار بسلاح الصبر لتحقيق مقصد الإيمان واكتمال ضرورة البلاء التي تستوجب حسن الجزاء وتمامه من الله تبارك وتعالى قوله في سورة «آل عمران» "لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور"، وهذه الآية تحمل من دلائل ضرورة الصبر لملازمة البلاء لكل ملتحف بدين الله ما يكفي لمعرفة قدر وعزة الإسلام المُفترضة والمُثل المنتظرة من أتباعه لضربها تحقيقا لتلك النُّصرة العظيمة التي سبق بها الأولون من الصالحين، وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين". نزلت في «ابن أبي سلول» ذكر «البخاري» رواية حول سبب نزول قوله تعالى "لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور"، وحاصلها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ مع بعض أصحابه على «عبد الله بن أبي ابن سلول» وكان في جماعة، فوقف ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم شيئًا من القرآن، فقال «عبد الله بن أبي ابن سلول»: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول. إن كان حقًا فلا تؤذنا به في مجلسنا، ارجع إلى بيتك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال رجل من صَحْب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى يا رسول الله، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يقتتلون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يفضُّ بينهم، حتى هدؤوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على «سعد بن عبادة»، فقال له: يا سعد، ألم تسمع ما قال «عبد الله بن أبي»، فقال «سعد»: يا رسول الله، اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد أوشك أهل المدينة على أن يُتَوِّجُوه، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله، لم يرض به، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا"، هذا حاصل راوية «البخاري»، ولم يرد فيها تصريح بسبب نزول هذه الآية، غير أن معظم المفسرين يذكرون رواية «البخاري» هذه في معرض حديثهم عن سبب نزول هذه الآية، وقال «القرطبي» أن الآية نزلت بسبب ما جاء في هذه الرواية، ثم إن صنيع «البخاري» يرشد إلى أن سبب نزول هذه الآية ما جاء في هذه الرواية، وقد ذكر «الواحدي» رواية «البخاري»، ما يومئ أيضًا إلى أنها واردة في بيان سبب نزول هذه الآية. نزلت في «كعب بن الأشرف» ذكر «أبو داوود» وغيره في سننه أن «كعب بن الأشرف» كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون واليهود، وكانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأمر الله عز وجل نبيه بالصبر والعفو، وفيهم أنزل الله تعالى "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، فلما أبى «كعب بن الأشرف» أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم «سعد بن معاذ» أن يبعث رهطا يقتلونه، فبعث «محمد بن مسلمة» وذكر قصة قتله، وهذه الرواية فيها تصريح بسبب نزول هذه الآية. نزلت في «فنحاص» اليهودي روى «ابن أبي حاتم» وغيره عن «ابن عباس» رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث «أبا بكر» رضي الله عنه إلى «فِنحاص» اليهودي يطلب منه عونا، فقال «فنحاص»: قد احتاج ربك إلى أن نمده، فهمَّ «أبو بكر» رضي الله عنه أن يضربه بالسيف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه: لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي، فتذكَّر «أبو بكر» رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب، ونزلت هذه الآية، وهذه الرواية ذكرها «الطبري». الكُفر ملّة والأذى سبيله يقول العلماء إنه لا تعارض بين هذه الروايات الثلاث وأن مضمونها واحد وهو إيذاء المشركين للمؤمنين، وليس ثمة ما يمنع أن تنزل الآية على أكثر من سبب، وإذا تقدمنا خطوة أخرى بعد بيان ما ذُكر من أسباب نزول هذه الآية وجدنا أن الآية الكريمة تبيّن موقف الكفار عموما من أهل الإسلام، فهم كما آذوا الرسول والمسلمين في مفتتح دعوة الإسلام، فسيؤذون حاملي دعوته أيضا في مستقبل الأيام بكل طريق يمكّنهم، إيذاء بالنفس وإيذاء بالمال، أما الإيذاء بالنفس فواضح، وأمثلته الاحتلال، ماديًّا بالقتل والتدمير ومعنويًّا بالإذلال وما يتبعه من إخضاع وقهر، والإيذاء بالمال ليس أقل نصيبًا من سابقه، فقد أصبحت ثروات المسلمين نهبة للمستغلين والمستعمرين.