هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد، أبو الطيب الجعفي الكوفي، ولد سنة 303 ه في الكوفة بالعراق، وكان أحد أعظم شعراء العرب وأكثرهم تمكّنا من اللغة العربية، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية، حيث يُوصف بأنه نادرة زمانه، وقد ظل شعره مصدر إلهام للشعراء على مرّ العصور، وتدور معظم قصائد «المتنبي» حول مدح الملوك، ويقولون عنه بأنه شاعر أناني ويظهر ذلك في أشعاره، ترك تراثاً عظيماً من الشعر، يضم 326 قصيدة، صوّر فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير. يعتبر بعض النقاد أن شعر «المتنبي» هو خلاصة ما وصلت إليه الثقافة العربية الإسلامية في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة وتصوير لها، هذه الفترة كانت فترة نضج حضاري، وهي في الوقت نفسه فترة تصدّع سياسي وتوتّر وصراع عاشها العالم العربي، فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش، ومعظمهم من الأعاجم، ثم ظهور الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، ثم تعرّض الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم الحركات الدموية داخل العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. طموح وكبرياء «المتنبي» شاعر صاحب كبرياء وطموح وهو محب للمغامرات، في شعره اعتزاز بالعروبة وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج، يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم، لكن شعره لا يقوم على التكلّف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لونا من الجمال والعذوبة. عصره شهدت الفترة التي نشأ فيها «المتنبي» تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها، فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون، فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب، ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرّضت الحدود لغزوات الروم والصّراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة، وكان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يُدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك، والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره، فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته، وفي هذا العالم المضطرب كانت نشأة «المتنبي»، حيث وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتّحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة، مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام، أثمر عن عبقرية في الشعر العربي، كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلحّ عليه في ذهنه وأعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحا حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذّره من مغبّة أمره، فلم يستمع له إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن. قصصه في مجالس سيف الدولة ظل «المتنبي» باحثاً عن أرضه وفارسه، غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حطّ رحاله في أنطاكية، حيث يوجد «أبو العشائر»، ابن عم سيف الدولة سنة 336 ه، واتصل بسيف الدولة «بن حمدان»، أمير وصاحب حلب سنة 337 ه وكانا في سن متقاربة، فوفد عليه «المتنبي» وعرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء، فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا وأصبح «المتنبي» من شعراء بلاط سيف الدولة في حلب، وأجازه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة وقرّبه، فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودّة واحترام، وخاض معه المعارك ضد الروم، وتعد سيفياته أصفى شعره، غير أن «المتنبي» حافظ على عادته في إفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحة، فكان أن حدثت بينه وبين سيف الدولة جفوة وسّعها كارهوه وكانوا كثرا، وازداد «المتنبي» اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرّماً مميزاً دون شعراء حلب، وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه، وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة حلب العربية الذي يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه، وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره جالسا، وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه، ولربما احتمل على مضض تصرّفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان، وفي المواقف القليلة التي كان «المتنبي» مضطرا لمراعاة الجو المحيط به، فقد كان يتطرّق إلى مدح آباء سيف الدولة في عدد من القصائد، لكن ذلك لم يكن إعجابا بالأيام الخوالي وإنما وسيلة للوصول إلى ممدوحه. الوُشاة يُفسدون جوّ الأشعار أحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راضٍ، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير، وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر والأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما، وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها، وأصابته خيبة الأمل لاعتداء «ابن خالويه» عليه بحضور سيف الدولة، حيث رمى دواة الحبر على «المتنبي» في بلاط سيف الدولة، فلم ينتصف له سيف الدولة، ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، ولم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه، فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته سنة 345 ه ومنها "لا تطلبن كريماً بعد رؤيته"، بعد تسع سنوات ونيف في بلاط سيف الدولة جفاه الأمير وزادت جفوته له بفضل كارهي «المتنبي» ولأسباب غير معروفة، قال البعض إنها تتعلق بحب «المتنبي» المزعوم ل«خولة»، شقيقة سيف الدولة التي رثاها في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها، وكان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك، فانكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة ب«المتنبي». فارق «المتنبي» سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير، فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوّة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرّض للموت أو تعرّض كبرياؤه للضيم، فغادر حلب وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد «أبو الطيب» إلى الكوفة وبعد ترحاله في بلاد عديدة. خيبته مع «كافور الإخشيدي» كان «كافور الإخشيدي» الشخص الذي تلا سيف الدولة الحمداني قدرا في سيرة «المتنبي»، فقد فارق «أبو الطيب» حلب إلى مدن الشام ومصر وكأنه يضع خطة لفراقها ويعقد مجلساً يقابل سيف الدولة، ومن هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوى، ودفع به للتوجه إلى مصر حيث يوجد «كافور الإخشيدي»، وكان مبعث ذهاب «المتنبي» إليه على كُرهه له لأنه طمع في ولاية يوليها إياه، ولم يكن مديحه ل«كافور» صافيا، بل بطنه بالهجاء والحنين إلى سيف الدولة في حلب، واستقر في عزم أن يغادر مصر بعد أن لم ينل مطلبه، فغادرها في يوم عيد، وقال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على «كافور» وكان مطلعها: عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد قصائده صورة عن عصره كان شعر «المتنبي» صورة صادقة لعصره وحياته، فهو يتحدث عما كان في عصره من ثورات واضطرابات وبذلك على ما كان به من مذاهب وآراء ونضج العلم والفلسفة، كما يمثل شعره حياته المضطربة، فذكر فيه طموحه وعلمه وعقله وشجاعته وسخطه ورضاه وحرصه على المال، كما تجلّت القوة في معانيه وأخيلته، وألفاظه وعباراته، وقد تميّز خياله بالقوة والخصابة، فكانت ألفاظه جزلة وعباراته رصينة، تلائم قوة روحه وقوة معانيه وخصب أخيلته، وهو ينطلق في عباراته انطلاقا ولا يعنى فيها كثيراً بالمحسنات والصناعة، وقد أجاد «المتنبي» وصف المعارك والحروب البارزة التي دارت في عصره وخاصة في حضرة وبلاط سيف الدولة، فكان شعره يعتبر سجلاً تاريخيا، كما أنه وصف الطبيعة وأخلاق الناس ونوازعهم النفسية، كما صوّر نفسه وطموحه، كما لم يكثر الشاعر من الهجاء، وكان في هجائه يأتي بحكم يجعلها قواعد عامة، تخضع لمبدأ أو خلق، وكثيرا ما يلجأ إلى التهكم أو استعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها، وتشيع حولها جو السخرية بمجرد اللفظ بها، كما أن السخط يدفعه إلى الهجاء اللاذع في بعض الأحيان. وفاته لما كان «المتنبي» عائدًا إلى الكوفة، وكان في جماعة منهم ابنه «محسّد» وغلامه «مفلح»، لقيه «فاتك بن أبي جهل الأسدي»، وكان في جماعة، فاقتتل الفريقان وقُتل «المتنبي» وابنه وغلامه بالنعمانية، بالقرب من «دير العاقول» غربيّ بغداد، وقصة قتله أنه لما ظفر به «فاتك»، أراد الهرب فقال له ابنه: أتهرب وأنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم فقال «المتنبي» "قتلتني يا هذا"، فرجع فقاتل حتى قتل.