مثلما كان يدور في رأس زين العابدين، ويتوقعه كثيرون، كانت فرنسا تبدو الوجهة المفضلة والأولى للرجل في حال انقلب عليه شعبه ولم تعد تونس الخضراء تسعه هو وعائلته. فقد تحركت طائرة الرئيس ''المخدوع'' و''المخلوع'' بسرعة في اتجاه الجار الشمالي الذي طالما عبّر حكامه عن اعتزازهم بصداقة بن علي وتفاخرهم بما يحققه من إنجازات تنموية في بلاده. نعم، لطالما افتخر حكام الإيليزي بتجربة زين العابدين في تونس. لقد وصل الأمر بالرئيس السابق جاك شيراك إلى وصف سياسة بن علي ب''المعجزة الاقتصادية'' وكانت عيناه في ذلك ترمقان مشاهد العنف اليومية في الجزائر والحصار الأمريكي الغربي المضروب على ليبيا، فقد كانت تونس تضع الاستثناء في التنمية والاستقرار، المطلوب أوروبيا في دول جنوب البحر، ولذلك كانت موضوعات الحريات والانفتاح تأتي دائما في الدرج الأخير عندما يتعلق الأمر بالسياسة التونسية في نظر الغرب. لقد توهم بن علي، أو أوهمه الفرنسيون بذلك، أنه صديق حميم وشريك نوعي، بل ربّما توصل إلى أنه سيكون ''خيارا أبديا'' لن تتمكن متغيرات الداخل وحسابات الخارج من المساس به لمجرد أنه يحكم البلاد ب''الكل البوليسي'' ويوفر للخارج ما يطلبونه من خدمات ولو على حساب شعبه. لكن أحلام الرئيس بدت أوهاما، وهو يرى رفض ساركوزي استقباله وقد فرّ من تونس في جنح الظلام بل إنه - كما سُرّب- رفض الحديث معه شخصيا وكلف تقنيي المطار المدني بإعلان عدم إمكانية استقبال طائرة الرئيس التونسي السابق. حبّ الفرنسيين لنظام بن علي لم يكن حبا لشخصه، وانقلابهم عليه كان طبيعيا، بل ومنتظرا، طالما أن الجميع متفقون على أن السياسة حسابات ومصالح، فما الذي يملكه بن علي اليوم، وماذا يقدم لفرنسا بعد أن ضاع منه كل شيء وخرج مهانا بهذه الطريقة؟! موقف ساركوزي الرافض استقبال بن علي طبيعي ومبني على حسابات دقيقة تراعي مصلحة فرنسا بالدرجة الأولى، ومصلحته الشخصية أيضا. فساركوزي يرفض استعداء ''الحكام الجدد'' في تونس واستقباله لبن علي يعني بالضرورة مقدمة ''غير صائبة'' للعلاقة مع صناع القرار في مرحلة ما بعد بن علي، خاصة في ظل الموقف السريع الذي جاء من البيت الأبيض ترحيبا ب''كرامة وشرف الشعب التونسي'' وتأكيدا على''حق التونسيين في اختيار زعمائهم''. لقد سارعت أمريكا إلى فتح صفحة ما بعد بن علي، وأراد ساركوزي ألاّ يتأخر بدوره في فتح الصفحة ذاتها! ثانيا، يكون ساركوزي قد وضع في الحسبان وجود جالية تونسية معتبرة، قد يكون وجود بن علي على أرض فرنسا استفزازا ودفعا لها نحو سلوكات عنفية، تعود بالضرر على مصالح فرنسا، سريعا. خاصة إذا تقاطع شعور الجالية التونسية بالغضب مع مشاعر جاليات عربية أخرى، ''تحتفظ'' بالغضب ذاته، كامنا! ثالثا، وهو الأهم في حسابات ساركوزي، ويتعلق بإمكانية اهتزاز صورته لدى الإعلام الغربي، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في فرنسا (العام 2012). فاحتضان بن علي، الموصوف في الإعلام الغربي بالدكتاتورية ومعاداة الحريات، من شأنه أن يضر بصورة ''الرئيس المترشح''، في ظل التأثيرات المتزايدة لوسائل الإعلام على سلوك الناخبين في الدول المتقدمة، ومنها فرنسا. لهذه الأسباب الثلاثة، وربما غيرها، أغلق نيكولا ساركوزي باب فرنسا في وجه زين العابدين بن علي، فلم يجد الأخير إلا ''عباءة'' ملكيّة سعودية يلتف بها.. ربما إلى حين!.