أردنا أن نمسك الخيط من أوَّله في مسألة «علم العنونة» أين لقي العنوان عناية فائقة في معظم الدراسات الأدبية، فأفردت له المؤلفات والبحوث و توسعت دائرة الدرس فيه وتشعَّبت وتناوله البحث النظري المعمق باعتباره: «نصا مختزلاً ومكثفاً و مختصرا»، لم تمض على هاته الدراسة خمس سنوات حتى ظهر عمل «كلود دوتشي سنة 1973م، تحت عنوان:« الفتاة المتروكة والوحش البشري مبادئ عنونة روائية حيث بدا أن المؤلف بشَّر بميلاد فرع دراسي يكون موضوع بحثه عنصر هو من الصلابة بحيث يبدو غير قابل للاستكناه «. كذلك نجد كتاب شارل كريفل الموسوم ب «إنتاج الاهتمام الروائي» الذي يضم فصلا مخصصا لقوة العنوان». ويبقى ليوهوك من بين الذين أعطوا اهتماماً لعلم العنونة خاصة بعد ظهور كتابه «سمة العنوان» « La Marque De Titre » سنة 1973م، رصد من خلاله العنونة رصداً سيميائياً بالتركيز على بناها ودلالاتها ووظائفها، و قدم بذلك تعريفا للعنوان فهو: «مجموعة العلامات اللسانية، من كلمات وجمل، وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه، تشير لمحتواه الكلي، ولتجلب جمهوره المستهدف». من جهة ثانية نجد دراسة «العتبات» لجيرار جنيت التي يمكننا أن نعدها « دراسة علمية ممنهجة في مقاربة العتبات بصفة عامة، والعنوان بصفة خاصة، لأنها تسترشد بعلم السرد والمقاربة النصية في شكل أسئلة ومسائل، وتفرض عنده نوعاً من التحليل». مثلت هاته الأعمال محطات جوهرية توجيهية على الدرب العلمي، ينهل منها كل باحث لإغناء مادة دراسته وتحليله للعناوين ، بقصد الاطلاع طبعاً على مستواها ودورها وقيمتها داخل العمل الإبداعي الذي تسمه.كذلك لا نريد تتبع التاريخ في دراستنا هذه بمجمل ما كُتب عن العنوان، فإن ما نبتغيه هو اختيارنا له أداة إجرائية في كشف جماليات العنونة في روايات ياسمينة خضرا بوصفه « الثريا التي تحتل بعداً مكانياً مرتفعاً يمتزج لديه بمركزية الإشعاع على النص». على هذا الأساس أَوْلت الدراسات النقدية الحديثة للعنوان اهتماماً خاصا،حيث إن فئة من النقاد بدأت في السنوات الأخيرة تُضمِّن دراساتها النقدية محاورة للعنوان لاستقرائه، كما صدرت عدة دراسات تعنى بفلسفة العنوان وأنماطه ومكوناته ووظائفه وقد تمَّ التأسيس للعنوان عندهم من منطلقين:الأول: فلسفي نظري، تمثل في أن العنوان علامة ذات دلالة، وقد وجد هذا المنطلق تعبيراً عنه في الدراسات السيميائية، أما المنطلق الآخر فهو ذو بعد تطبيقي بالدرجة الأولى، يدرس العنوان من خلال النص الموازي، وينظر إلى العنوان بوصفه عتبة أولية تقوم بوظائف عدة تؤشر أسهمها اتجاه النص الرئيس. و عليه قد حظي العنوان بأهمية كبيرة في المقاربات السيميائية، باعتباره أحد المفاتيح الأولية التي على الباحث أن يحسن قراءتها وتأويلها والتعامل معها في النصوص الأدبية، لكونه:«نظاماً سيميائيا ذا أبعاد دلالية وأخرى رمزية تغري الباحث بتتبع دلالته ومحاولة فك شفرته الرامزة» ، بوصفه عتبة مهمة على الدارس أن يطأها قبل إصدار أيّ حكم، لأنه لم يوضع من قبل المؤلف عبثاً أو اعتباطاً؛ «إنه المفتاح الإجرائي الذي يَمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النص،و تسهيل مأمورية الدخول في أغواره وتشعُّباته الوعرة». و عناوين ياسمينة خضرا تختزن مكونات النص، وتحرك المتلقي باتجاه توريطه في دخول تلك المكونات مع دلالاتها، بوصفها «بنية صغرى لا تعمل باستقلال تام عن البنية الكبرى التي تحتها،فالعنوان – بهذه الكينونة- بنية افتقار يغتني بما يتصل به من قصة، رواية، قصيدة،ويؤلف معها وحدة سردية على المستوى الدلالي». فالعلاقة بين العنوان والنص الروائي علاقة معقدة، بحكم أن الرواية» نص أدبي متخيل وليست نصاً علمياً تشفع له ضرورة العلم والالتزام بالمنطق، بأن يكون عنوانه مطابقا، بل إن الرواية تؤثث عناوينها بالبلاغة و الإشراقات الشعرية،كما تعمد إلى لعبة المراوغة والإيهام»، و العنوان في هذه الحال عبارة عن علامة لغوية مشفرة تحتاج إلى متلقي حاذق يفك هذه الرموز التي تعلو بنياته،فهو مفتوح على دلالات هلامية متعددة، ولا يمكن قراءته بعيدا عن النص. و بذلك يرتبط بنصه عبر علاقة جدلية تتمثل في تفاعلهما عبر الانسجام والتعريض الدلالي أو تخييب أفق انتظار القارئ. فهو» مرسلة تتصل لحظة ميلادها بحبل سري يربطها بالنص لحظة الكتابة و القراءة معاً، فتكون للنص بمثابة الرأس للجسد، نظراً لما يتمتع به العنوان من خصائص تعبيرية و جمالية، كبساطة العبارة و كثافة الدلالة و أخرى إستراتجية، إذا يحتل الصدارة في الفضاء النصي للعمل الأدبي «. لذا يمكن تتبع عمل العنوان في أعمال ياسمينة خضرا على» أنه حاضر في البدء و خلال السرد الذي يدشنه، و يعمل كأداة وصل و تعديل للقراءة»، فهو يؤدي دورا فعالاً في لفت انتباه القارئ و يرغِّبه في فعل القراءة، و خوض تلك التجربة الجميلة عبر صفحات الرواية. وكثيرا ما يقف القارئ أمام العنوان مؤثثاً بالدهشة والحيرة، متوجساً من الإغواء والإغراء،ولاسيما العناوين المراوغة التي لا تسلم نفسها بسهولة إلى المتلقي؛ لأنها تخفي دلالاتها بامتناع يمتاز بالغرابة، ويبدو أن تعدد الدلالات أحد المشوشات التي لها فاعلية مؤثرة في ذلك،من هاته العناوين»أشباح الجحيم» للكاتب الجزائري»ياسمينة خضرا. فهذا العنوان يغري القارئ و يشوقه لمعرفة ما يحدث داخل المتن الحكائي، يحمل بداخله بنية دلالية تمتاز بالإيحاء و الرمز، فغدا بذلك «إشارات سيميائية معقدة» ، يحتاج إلى من يسائله و يغوص في أعماقه و يحفر في دلالته، إذ يستنطق الغياب، الغربة و الموت، صهرها الروائي في بوتقة واحدة، توحي لنا بعذابات الأنا /الآخر الواقعة تحت وطأة زمن الموت و الفتنة، فهي حشد للعذابات و فضاء للتغني بالمواجع والألم... يتبع