رواية «الغجر بحبون أيضا» لواسيني الأعرج عن دار بغدادي للطباعة و النشر و التوزيع تقع في 230 صفحة من القطع المتوسط ، صادرة باللغة العربية في (23) ثلاثة و عشرين فصلا، و كتبت بين وهران و الجزائر العاصمة و باريس ربيع 2019، و من المصادفة أن ولادتها كانت مع الحراك. «الغجر يحبون أيضا» نص روائي لواسيني الأعرج عن وهران ، هذه المدينة البهية بكل شيء جميل فيها و المدينة الضحية التي مورست عليها كل المعاصي و الآثام، و التي جعلتها تتنكر غصبا لكثير من الأشياء الجميلة. إن هذا العمل الفني المميز جاء ليحاور القارئ بلغة بسيطة في تركيبها و عميقة في دلالتها، لغة مناسبة لكل الفئات العمرية، و هي و إن كانت أحداثها تدور في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، إلا أنها تتوغل في التاريخ و الأحداث بنوع من الاستحضار الذكي والتوظيف الجميل و الاستثمار الطيب للوصول إلى الهامش قبل المتن بدرجة من الوعي التام لمخاطبة اللاوعي الجمعي القامع فينا عبر أحكام جاهزة و تقاليد لغوية و ممارسات اجتماعية راسخة. يقول أحد الدارسين: إن» العقل اللّاواعي هو عقلُك الحقيقيّ إذ لا يُشَكّل العقل الواعي سوى 10 في المئة من كلّيّة عقلك. العقل اللّاواعي يفوق عقلك الواعي ويتفوّق عليه قوّةً وسُلطةً بنسبة 90 في المئة.» إن رواية الغجر يحبون أيضا لوحة تشكيلية بامتياز بيد فنان حاور فنون عدة و أجناس أدبية متنوعة لترسم ريشته هذا المتعدد في متوحد، و هذا النوعي في النمطي و هذا المتباين في المتشابه، من المرجاجو أو الجبل الأسود كما يسميه و سانتا كروز و لكميل و الطوريرو و غارقيتا و اللاباستي، و شارع لياج و سيدي الهواري و المدينة الجديدة، جمع واسيني جزئيات هذا البوزل و راح يشكل جدارية الحنين و البكاء إلى درجة العويل فيما يشبه رثاء مدينة الحب و التضحية و رثاء الذات و رثاء القيم في مقابل معاول التدمير الذاتي للذاكرة الجماعية و لمعالم هوية التنوع و الاختلاف الباني للانسجام و الاتساق و التناسق المتناغم و جمال الطبيعة و إبداع الإنسان في منجازاته الحضارية و الثقافية. قد يكون لواسيني أكثر من دافع و حافز لكتابة هذه الرواية بكل هذا الشحن الدلالي المتأزم، إلا أن سانتا كروز و حلبات الثيران الجديدة بوهران تكاد تكون ذلك النبراس الهادي وسط فوضى الأشياء و الأهواء لرسم معالم إنسان يولد من الأنقاض. إن صورة الإعلان عن الكوريدا تصرخ في وجه النسيان و التهميش و الغفلة و التغافل و المحو و الطمس لماض و لهوية و كينونة و وجود إسباني في شمال افريقيا عامة و بمدينة وهران خاصة، هذه المدينة أوت كل الناس الطامحين ، المغامرين و الفارين من محاكم التفتيش، و المهاجرين و المستعمرين .وهران كانت ميناء لكل السفن في مقابل بحر هائج بأمواج عاتية .وهران هي الأمل و هي الحياة و هي الفرح. مسكينة وهران الظلم و الهوان و غياب العدل و الحقرة و عدم المساواة بين مواطنينها. و هران الجمال فيها و هي الجمال بتعدد أعراقها و مرجعيتها الثقافية المختلفة .وهران زباطة و زبانة،وهران الحب و العشق النقي،وهران خوسيه أرانو و انجلينا، وهران القتل و الموت و التضحية و الاغتيال ، و هران القهر الثقافي و الإهانة و الاستصغار، و هران اليأس و القنوط، و هران الأمل و محاربة النسيان و الحفر في الذاكرة، و هران ذلك الحنين القابع فينا، و هران تلك التجربة في العشق و في الخصام و في الوفاء و في النكران، و هران ازميرلدا.وهران أم بحاجة إلى وفاء أولادها، و واسيني أحد هؤلاء الأوفياء الذي رجع إلى وهران بعد طول خصام ، عودة حنين و أسف و تأسي عن ذكرى شاب عاش فيها العشق ، عشق المرأة و عشق الكتابة. ما أجمل أن نكون أوفياء للمكان على الرغم من كل شيء، و نعقد صلحا بيننا و بين ذاكرة المكان. إن عنوان هذه الرواية بقدر ما هو عنوان مغرٍ بقدر ما هو موغل في الدلالات بهذه البنية اللغوية البسيطة: الغجر يحبون أيضا، جملة اسمية تخاتل القارئ بالسؤال عن طبيعة هذه البنية القائمة على ثلاثة مكونات دلالية؛ الغجر، يحبون أيضا. الغجر: مكون دلالي لبنية اجتماعية و ثقافية للهامش ارتبط وجوده بأوربا في حيز جغرافي مستقل له قوانينه و عاداته و تقاليده، و هاهنا تبدأ مخاتلة القارئ من أن الكلمة ستحمل بدلالات جديدة قد لا يكون هو المقصود بها بصفته و مكوناته، بل تخاطب ذلك الإنسان سيصيره لما يقرأ الرواية، تخاطب إنسان لم يكن موجودا بل إنسان سيبنى من جديد بعد أن يراجع هويته و معالمه و ذاكرته و كل ما ترسب فيها و ما سقط منها و ما هُمّش منها، تخاطب لاوعيه لترتقي به نحو أفق رحب بعيدعن تلك العجائبية و الغرائبية عن الغجر في لاوعينا الجمعي، إن كلمة الغجر هاهنا جاءت لتساءل ذلك الموروث أو ما تبقى منه، و لتبحث عن الحق في العيش المشترك في عزة و كرامة من دون إن الابتداء بهذه الكمة في العنوان هو دليل أهمية و عناية و اهتمام تنبه القارئ إلى أن النص مغرٍ بما توحيه هذه الكلمة من دلالات و سمات، خاصة أن الكلمة جاءت في صيغة الجمع الدالة على الجنس و النوعية و العدد و الكثرة و القلة و على العموم، إذا كان الأمر كذلك فإن هذه الكلمة تثير في القارئ تجارب إنساني في الحياة بين المتن و الهامش بين الرفض و القبول، و بين المركز و المحيط في تبادل مواطن القوة و الضعق. يحبون: فعل مضارع عن هوى في النفس ارتبط بعلاقة إسنادية مع الغجر ليجعل العنوان ينفتح على كل الأهواء بالتشاكل أو بالتقابل من ود و حب و مودة و شغف من جهة و من كراهية و بغضاء و حقد و غل. و ورود هذه الكلمة هاهنا تطرح أكثر من سؤال و كأن المعروف عن الغجر غير ذلك من الأهواء، و أنه محظور عليهم هذا الهوى. و قد يقع السؤال عما يحب هؤلاء الغجر ؟ بعضهم بعضا؟ غيرهم من البشر؟ الحرية و العدل و المساواة؟ الحق و القانون؟ الحياة بكل عنفوانها؟. الغجر « يحبون و يقومون بما يقوم به كل البشر، و من ثم فلهم كل الحقوق ما دام يقومون بكل الواجبات، و كرامتهم محفوظة و عرضهم مصان. إن هذا التركيب (الغجر يحبون) جاء على سبيل التوكيد و الاثبات و دفع الشك باليقين ليرتسم في ذهن القارئ تصور جديد تزيل تلك القناعات الخاطئة و الأفكار المسبقة. تختم العنوان بقفلة مميزة و كأنها جاءت لتعلن عن أن الغجر ، بالإضافة إلى الأشياء الجميلة التي يقومون به فإنهم يحبون أيضا، و لا يجب أن ينكر عليهم هذا السلوك النبيل للتعبير عن هذا الهوى. إن لفظ أيضا كلمة مفتاحية في هذا التركيب اللغوي الذي على بساطته شحن العنوان بتحديد حيزه الإجرائي و مجال اشتغاله. .. يتبع