الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:فإن حديثنا اليوم عن نعمة من نعم الله العظيمة، وعطية من عطاياه الجليلة، التي بها يتطهر العبد من أدران الذنوب والآثام، إنها المغفرة، وما أدراكما المغفرة؛ نعمة جليلة ومنحة عظيمة، فتح الله أبوابها لعباده في هذا الشهر المبارك. فبعد أحد عشر شهراً من التقصير والتفريط، ومن الإساءة والذنوب، يأتي رمضان لغسل الذنوب ومحو السيئات والتجاوز عن الزلات، واستدراك ما كان من نقص أو سهو أو نسيان. فرمضان شهر المغفرة، في صيامه مغفرة للذنوب، وفي قيامه مغفرة، وفي الإحسان فيه مغفرة، وفي الذكر فيه مغفرة، وفي قراءة القرآن فيه مغفرة، وفي الصلاة فيه المغفرة... روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه».وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر ». ورمضان شهر مبارك؛ جمع الله فيه من الطاعات والقربات ما به تغفر الذنوب وتستر العيوب، وتمحى السيئات وتكثر الحسنات، وتقال العثرات وترفع الدرجات... ما أحوجنا إلى المغفرة، فهي طريقنا إلى النجاة والنجاح، والسعادة والفلاح. فهنيئا لمن خرج من رمضان وقد غفرت ذنوبه، وسترت عيوبه، ومحيت سيئاته، وكُفرَتْ خطاياه. ويا خسارة من أدرك رمضان فانسلخ عنه قبل أن يُغفرَ له. فيا من حُرمْتَ الطاعة وثقلتْ عليك العبادة؛ اسلكْ سبيلَ المغفرة، فإن الذنوب تصُدّ عن الطاعة وتجعلها ثقيلة على النفس، فترى مَن كثرتْ ذنوبه وآثامه يَكره الطاعة ويستثقلها، ويُحبّ المعصية ويتلذذ بها، يَرمي بنفسه في مواطن السوء ومستنقعات الرذيلة، منتقلا من معصية إلى معصية ومن خطيئة إلى خطيئة... وقد قال بعض السلف: إنّ من عقوبة السيئةِ السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنةِ الحسنة بعدها. يا من تشعرُ بقسوة القلب وغلظته؛ هذا أوانُ المغفرة، لتطهّرَ قلبك من أدران الذنوب، وتزيل عنه غشاوة السيئات. فإنّ الذنوب إذا تراكمتْ في القلب قتلته، حتى يفقدَ صاحبُه الإحساسَ بقبح المعصية وخبثها، وتصيرَ المعصية عادة له يأنس بها ويفتخر بها، ولا يستحيي من ممارستها أمام الناس. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتَتْ في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلوَ قلبه، وهو الرّان الذي ذكر الله»: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾. يقول الحسن رحمه الله: الذنب على الذنب، ثم الذنب على الذنب، حتى يغمرَ القلبَ فيموت، فإذا مات قلب الإنسان لم ينتفع صاحبه .لا يتأثر ولا يتذكر ولا يتعظ بشيء، لأن الذي يتذكر هو صاحب القلب الحي السليم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾. يا من حٌرمْتَ العلمَ والفهم؛ خذ بأسباب المغفرة، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والذنوب والمعاصي تطفئ ذلك النور. قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ جلس الشافعي يوما بين يدي الإمام مالك ليتعلم منه، فقال له الإمام مالك: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية ويا من تشكو من كثرة الهموم والأحزان والمتاعب والمصائب؛ عدْ إلى باب المغفرة، فإن كثيرا من المصائب التي تصيب الإنسان في نفسه أو ماله أو أهله أوبلده، ناتجة عن كثرة الذنوب والمعاصي.قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾. وقال عز وجل: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ وقال سبحانه: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ فإياكم أن تظنوا أن الراحة والطمأنينة تنال بالذنب. وإياكم أن تظنوا أن الأمن والاستقرار يكون بمعصية الله والصدّ عن سبيله. وإياكم أن تظنوا أنّ التقدّم والازدهار يكون بكثرة الفواحش والمنكرات. ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ أسباب المغفرة ووسائلها: إن من يريد المغفرة؛ فعليه من الإكثارْ من أعمال الخير، فأنت في شهر الخير. أكثرْ من الحسنات لتمحى عنك السيئات. ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن». وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط». اللهم اغفر لنا في هذا الشهر الكريم، اللهم اجعلنا فيه من المرحومين، واجعلنا فيه من المقبولين، واجعلنا فيه من الفائزين، واجعلنا فيه من الناجحين، واجعلنا فيه من الناجين، يا رب العالمين. اللهم اجعلنا ممن صامه إيمانا بك واحتسابا، واجعلنا ممن قامه إيمانا بك واحتسابا. اللهم اجعل هذا الشهر شهر أمن وخير وبركة على أمة حبيبك ومصطفاك. اللهم فرج فيه هم المهمومين، ونفس فيه كرب المكروبين، واشف فيه مرضى المسلمين، يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.