«مرآة الروح" بْسيشي عاكس لمكون المحيط وفضاءاته المختلفة ويضيء العمق النفسي ويجلي صدأ العتمة عنه، قارئها يصاب بالارتعاش لما تحمل الرواية من أحداث وحوادث. مرآة تنقل القارىء من واقع الغربة الصاعق بسوط الصقيع وضربات ساطور البرود، تحيله بما تحمل من وُصوف إلى التلبس بالحنين إلى المنبت الأول ودفء العش المفقود، إلى الأصل، إلى قْسمطينة وما تحوي من مآثر الفن وصنعة يد الإنسان انطلاقا من مادته الرمادية التي لا نفاد لها. الدكتورة نبيلة عبودي تأخذ بيد متمعن روايتها إلى امتطاء بساط الفضول وركوب صهوة البراق لتقفي جزئيات ومفاصل التفاصيل بشغف الشوق واكتشاف آخَرَ الماضي الذي جرّب الاغترابُ طمسَ آثاره بسليط المعاناة وهادر العبرات الحارق. «مرآة الروح» آثارها لا مادية بل تجاوزت المادةَ بورائها وكيلها بقراط جبال روحانية وزنا وصلابة، آثار جاوزت قيمة التحف من آنية أو أنفورة أو تمثال مكتمل التشكل غير منقوص أنف أو عضو من أعضائه المنحوتة في صفحات هيكله. الأثر في الرواية روح في جسد الذاكرة وفارس أذعن لزمامه الحاضر، يجوب الشوارع ويدك أرصفة التناسي، بطولاته تُقرَأ في الأحداق وتتنفسها شقوق الجدران، أحمد أنموذج الرجولة ونوارة أنوثتها (الرجولة) وشقُّها وضلعها وشاهدة شهادته بكل أمانة. نص دسم المضمون ووسيم الملمح اللغوي وعتيد المبنى والتراكيب، حُكم ليس بالشاذ ولا بالناشز، استنتاج آهل بالإيجابيات وبكل ما يتعلق بنصوص الروائية وفي جميع تشكلاتها وما حوت سوابقها الإبداعية. كل من قرأ لها انجذب إلى جمال شاعريتها وذاتيتها، تجر القارئ جرّا وترحل به من يابسة إلى يابسة ومن ضفة إلى أخرى بقارب مُؤَمَّن الفنيات وحداثية عتاد الطفو والإبحار بأمان. أديبة ذات مراس في كسر التيار وتطويع المجاديف وعباب محابر الكتابة، شخصية سعيد متورطة داخل اللظى وتتحرك في إطار ما يستدعيه أثر الأحداث في أوج منسوج حبكها وذروة تأزمها وفق المتطلب القصصي. في مرآة الروح تشيح الوجوه وتتبرم النسوة من الخيانة، وتبوح الألسن في نادي "الشوافة"، يبكين ملء الحناجر، تتمازج الشعوذة بالآهات وتلوذ الرغبات سعيا خلف أي منقذ من الألم، حوار الندوب ومونولوج الراوي مع الذات المتبرمة في مواضيع الوجود، العبث، الحياة، الموت.... إنه التنوع النصي في ما يخدم العمل وينشغل على تكامله وتجانس أطراف لبناته تماما كالبنيان المرصوص تشد أعضاؤه بعضها. حضور كلغة "البرايل" تلمسه الأنامل في الحروف، في الكلمة، في الجملة، في العبارة وفي كل مصقول، مثل موسيقى وتَرِيَّة شعر ومنفوخة شعرية النغمات ضمن وزن السطور وتفعيلات الوجدان وتفاعله الداخلي والخارجي، كقوافي تنوعت فوق سنام قسنطينة وعلى صخورها المنحوتة وجسورها المعلقة، يعبق من باحاتها وأرصفتها تاريخ العابرين الشِّداد، وتتدلى من الحناجر حبال صوت الصدق وزخات الجمال وتتقاطر من الجباه معالم التذكار المجيد. صالح باي ومآثره في لون ملاءات النسوة وحزنهن الأسود، وابن باديس مئذنة الإصلاح وبلال "قْسمطينة"، وسجن الكدية دليل جراح من مرّوا به، بأنوفهم الأبية، موشحة بالعز داخل النواصي وفوق الهامات. قسنطينة تَشَكَّل الطوارق في رجالها، قسنطينة ركح الحقيقة ومثال الحق كجِمال "المهري" خارج المجال الأسطوري في تنهينان، قسنطينة مشرشة في لوحة فنية مشهدا سِيرْتِيّا متلألئا في نوبة مالوف، تقمصت إلهام اللوحة واستنسخت روح نموزين فكرة وحلما. قسنطينة مدينة الهوى والهواء، شجرة الطيور والأجنحة المسالمة، قسنطينة عصافيرها "لا تبني أعشاشها في مهب الريح" على حد تصوُّر ابنها البار مالك حداد. أياد قفازاتها من سرمد الأيام ومُحَنّاة بخزّ مُوَرَّد، من أدب وسياسة ومعاناة وغربة مُشاكِسة وحضن ممارسة، ملامسة الحلم والشوق، الشوق المربى في حجر القدر، "قْسَمْطينة" قماط الأم وحضنها المحموم والكبد المكلوم: "أمي ها قد رجعتُ.. ابنُك الضال الذي أرهقته الرحلات.. تعبتْ منه الحقائب.. وأُنْهِكت قدماه زحفا في البلدان...." (ص 77). الملحوظ المؤكد والمُسْتقرى أن المكان في رواية مرآة الروح لا تحدده المعالم الحسية الملموسة ولا المقاسات المقيسة في أبعادها الثلاثية، المكان مقيس فيها بالحاسة السادسة، بالمشاعر وما تحمل من طول وعرض وعمق في الدهاليز المكتظة بنوبات صداها يملأ الحناجر ونحيب لا حبال صوتية له سوى النكد مكتوم التفجر. احترافية الروائية ومؤهلها نَفَس سردي ينتشر على مساحة 272 صفحة، يستغرق في 6 فصول مشهدية، مُعنوَنة اللوحات وكأنّي بها علامات هداية توجه الكَشّاف وتقيه من الضياع. التضمين وحسن توظيف المُقتبَس في مرآة الروح وتوضيبهما بنباهة المقتدر في فن تأثيث الديكور وما خلف المشهد، مُتَجانَس ثقافي يتخلل مساحات الرواية بذكاء فني يُشفِّع النص ويغذيه حضورا وجوديا بمكنوز الدكتورة نبيلة العلمي اللافت. إنه الإبداع الذي يجعلك تقرأ النتاج دون تعثر يدفع عنك التوعك والملل الذَيْن قد يصيبانك في عثرات اللملمة المشوهة لنصوص أخرى من حفر و«دُودانات" الطرق العشوائية كابحة الوتائر ومتاريس النشاز الخارج عن النسيج العمراني فيصدّك عن رغبة مواصلة القراءة. هذه الرواية، وبالأساس "مرآة الروح" هدمت في اعتباري أسوارَ الورق ودكت أرصفة التناسي الزجاجية.