يقف الفنان الجزائري محمود طالب فوق أحد مرتكزات العالم التشكيلي، وهو يخوض في تجاربه التشكيلية رغبة في الارتقاء بجماليات الحرف العربي عبر توظيف حسي تجريدي، تتجلى فيه بناءات حروفية بحركة نحتية لرؤية ذاتية تأخذ أشكالها المرئية في لوحات خطية تعددت أبعادها المؤثرة بمكونات عصرية. فلقد اقترن فنه بالجمال، للخط العربي و المنمنمات و الجداريات فأجاد الاستعمال، فاحترفه بإلمام و سمي الخطاط و النحّات و الرسام، لخفايا اللون له الهام فبرع في تشكيله و الإسهام في ميلاد الإتقان لتحمل أعماله الروعة عنوان لما ترجمته من صدق الإحساس و الوجدان. كما تمتد حروفيات محمود طالب في عمق الكون الخارجي مجسدا الروح الصوفية في التعاطي مع التقنيات التشكيلية، الخالقة لأشكال بصرية غيبية لكنها متخيلة، في فلسفة تجريدية، يرى فيها التجريدي الأشياء كما لا يراها أحد. فتجربة محمود طالب صاغت أشكالها ومضامينها في مختبرات تشكيلية، عناصرها الريشة واللون والخامة التي تتآلف في إنجاز مخلوق فني، هو نتاج لقدرة فنان يرى الأشياء بعينين مغمضتين ليتلمسها بإدراك صوفي يمنح الغيبي شكله المحسوس. والتجربة الصوفية أنتجت مخلوقات تشكيلية تلتقي بأبعادها الحسية فلقد اهدي لوحة " و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر" لجريدة الجمهورية على هامش المنتدى الذي استضافت فيه رئيس المجلس الشعبي ألولائي السيد عبد الحق كازي تاني . و الفنان التشكيلي محمود طالب من مواليد 1960 درس كل مراحله التعليمية بالباهية ثم التحق بالمعهد التكنولوجي للأساتذة ليلتحق بمهنة التعليم لمدة عشرة سنوات ثم يتفرغ للأعمال الحرة و للوقوف عند العديد من محطاته الفنية في مساره الطويل كان لنا معه هذا الحوار . _ كثيراً ما يجد الفنان التشكيلي أن اللوحة بعد أن يفرغ من وضع لمساته الأخيرة عليها تتأمله قبل أن يسبقها بالتأمل، تخترقه وكأن عينه لا تصدق ما ترى، تحاوره: أنا التي لازمتك منذ بدأتَ بشق مجرى ألوانك في خاصرتي، ثم قمت بتوسيع ذلك المجرى بصبرٍ وأناة ... وقاومت قسوة وتمرد الخامة والفرشاة والألوان لكي أكون صورتك التي تشبهكَ تماماً. في أي من اللوحات التي رسمتها اكتشفت أنها تمثل روحك الشخصية تمثيلاً حقيقياً، حتى أنك تجدها عالقة في ذاكرتك من غير فكاكْ ؟ + أولا كنت مختص في الجداريات و أول جداريه شاركت بها كانت في مؤسسة تعليمية سنة 1983 و بعد ذلك انقطعت بسبب عدم وجود الإمكانيات و لكن وجدت التشجيع من قبل شركة أفال و بالخصوص من قبل الرئيس الحالي للمجلس الشعبي ألولائي السيد كازي تاني الذي كان يشجع الفن التشكيلي من خلال تنظيمه على مستوى أفال معارض فردية و جماعية كل أسبوعين و على مستوى مركز المؤتمرات عندما كان مديرا له و لقد أهديت ثلاثة جداريات لشركة أفال سوناطرك بدون مقابل كما أنجزت جدارية " أول نوفمبر" و هي حوالي 10 أمتار على 1 م 95 و التي أهديتها للوزير الأول للحكومة السيد سلال في أخر زيارته لوهران و اشكر الدكتور عبد المالك بوضياف وزير الصحة الحالي ووالي وهران السابق الذي أحيه على تشجيعاته التي قدمها لي في مجال الفن . كما شاركت بجدارية " ثورة الأحرار " و التي عرضت في احتفاليات ذكرى نوفمبر ببلدية وهران و تحمل مقاطع من المقاومة للأمير عبد القادر و مظاهرات 11 ديسمبر 1960 فلم أحاول أن احصرها بأشخاص معينين فشهداء الجزائر موجودين في كل مناطق الجزائر و اغلبهم منسيين مثل شهداء منطقتي بجبالة بمغنية لكن لا احد سمع بهم و هذا مجرد مثال فقط ، ثانيا الجداريات التي رسمتها تمثل أصالة بلدي و أنا فخور بتاريخ أجدادي . _ كبف ترى الحركة الفنية التشكيلية في الجزائر ؟ + بكل صراحة الفن في الجزائر له مستوى راقي ، نحن عندنا فنانين كبار مهمشين ، القانون الأساسي للفنان التشكيلي غير موجود ، فإذا أرادت أي إدارة أن تقتني لوحة فعلى الفنان ان يمر على التاجر الذي يأخذ نسبة 30 في المئة ليتمكن من بيع لوحاته لأي مؤسسة حكومية ، المطلوب من الوزارة الوصية أن تقنن قانون أساسي للفنان التشكيلي ، و من جهة ثانية لا توجد قاعة عرض بوهران ، فالقاعة الوحيدة التي كانت مفتوحة أمام المبدعين من أهل الريشة كانت قاعة أفال حيث كان هناك برنامجا جميلا يقدم فيه كل فنان سواء معرضه فردي أو جماعي إبداعاته لكن بعد رحيل السيد كازي تاني نحو السياسة و المجلس الشعبي ألولائي و الذي أهنئه من قلبي لهذا النجاح أصبح المكان خالي و حتى في متحف زبانة إذا فتح أي معرض يكون الإقبال فيه من قبل الجمهور كثيفا في يوم الافتتاح لكن بعد ذلك تصبح القاعة فارغة من الزوار . _ كيف هي لحظة الإلهام التي تزورك و أنت مع الريشة ؟ + لحظة حساسة و صعبة الرد عليها ، و ربما في ربع ساعة ارسم اللوحة و ربما ابقي شهور يخاصمني الإلهام . _ الطفل يرسم بعفوية أكثر نقاء من أي فنان كبير فماذا تقول في هذا الصدد ؟ + أنا ابن بيئة،أحبها وأعشقها،وهذه البيئة هي التي حددت ملامح تجربتي،فبدايتي كانت كأي طفل،بدأ يلون،يرسم،بعد ذلك كبر ذلك الطفل الذي كنته،وبدأ يرسم محاكاة للمحيط، بعد ذلك هناك مرحلة التعرف على جمالية الحرف العربي،وهذا ترافق مع حبي ،أصلاً،للغة العربية،وللأدب العربي،لذلك نشأ حواري مع الخط العربي،وبدأت أتعلم أساليب الخط على أيدي خطاطين،وترافق تعلمي للخط مع عشقي الأول وهو الرسم الواقعي،فعملت بخطين متوازيين بين الرسم وبين الخط،ثم اتجهت لدراسة الرسم أكاديمياً وقبل تخرجي.بدأت ملامح تجربتي تظهر بشكلها المتكامل،وشكل الحرف العربي اللغة التشكيلية الخاصة بي. وأنا أظن أن الخط جزء من شخصية الإنسان العربي،وأنا أثناء تعاملي مع الخط،على الرغم من التجارب الكثيرة التي سبقتني،أحس بأنني أكثر قرباً مع الحرف وأشدّ دنواً منه،فأسعدني اقترابي هذا وجعلني أكثر قدرة على التعبير بصدق عما يجيش في صدري. _ الخط العربي يزين مجمل جدارياتك فما هو السر في ذلك ؟ + هناك جمالية غير محدودة في الخط العربي ،تجعلني أطرب بالتعامل معه،لا يوجد مقاييس جمالية محددة في التعامل مع الخط العربي تشكيلياً،وهذا الأمر لم أخطط له،بل رأيتني أنساق إليه،هناك من يصف عملي بأنه اقتراب من التصوف،وفي كل الحالات،التجربة التي أخوضها مازالت في بداياتها رغم مرور 32 سنة تقريباً،ومازلت أحس بأني في بداية طريقي وعليّ أن أتعلم،ومن خلال عملي على الخط أشعر بأني أكثر قدرة على التمسك بالجذور والأصول. لكن تعاملي مع الخط،من خلال هذه التنويعات هو أسلوب أجد نفسي فيه،وأجدني أقدر على التعبير من خلاله،وقد أقيم حواراً مع المكان بلغتي التشكيلية الخاصة بي،التي تعتمد أساساً على الحرف،فالحرف ليس فقط عبارة عن مكون من مكونات اللغة،إنما هو أيضاً بناء للجمال غير محدود،وما علينا إلاّ أن نقترب من هذا الجمال ونحاول الغوص فيه عميقاً،على سبيل المثال..نكتب أي تشكيل حروفي،وفي تكرار كتابتنا لذلك التشكيل نكتشف في كل مرة حلاً تشكيلياً مختلفاً،وهناك صورة أخرى غير الصورة التي سبقتها،فالقضية ليست محدودة وليست مقولبة ، وهناك مدارس كثيرة للتعامل مع الخط العربي،من العرب وغير العرب،ساهموا في تطوير العمل بالخط،إذن فنحن نتحدث عن قيمة جمالية،ولا نتحدث عن الحرف بحد ذاته،أي ماذا يقول،أو ما هي الكلمة،ثم إن الخط العربي استفاد من التمازج المذهل بين مختلف المدارس التي عملت عليه،وعليه فأنا أرى أن عملي على الخط هو عمل على بيئتي التي أجد نفسي فيها،والتي أعطيها مما حولي ،أي من بيئتي الأم الجزائر التي خرجت منها. _ كيف تعامل المتابع مع جدارياتك و منمنماتك التي زينت مواضيعها الثورية الخط العربي التي تم عرضها في العديد من المعارض الوطنية و الدولية ؟ + بدايةً ، الخط العربي ليس حكراً على العرب،بل إنه فن للجميع.إنه لوحة تشكيلية قوامها التعامل مع الخط، وهناك الكثير من المتذوقين لها،فمن يعمل بالخط العربي،يستطيع أن يخلق حواراً مع العالم كله من خلال لوحته القائمة على الخط .عندما عرضت جدارية بطول 17 مترا على 2 مترا بشركة أفال أعجب بها الكثير من السفراء العرب و الأجانب و حتى المواطنين الذين زاروا مركز المؤتمرات الميريديان بوهران مما جعل سعادة السفير العراقي عدي موسى عبد الهادي الخيري أن يطلب مني المشاركة بجدارية طولها 40 مترا تحكي تاريخ حضارة بابل و تعاقب الحضارات العراقية و مرقد على كرم الله وجه و لقد تلقيت دعوة رسمية من قبل وزير الثقافة العراقي للمشاركة في قمة مؤتمر العرب ببغداد التي كانت عاصمة الثقافة الإسلامية و لقد تلقت الإعجاب الكبير من قبل الحضور من المشاركين في هذه القمة . _ هل هناك إقبال الغرب عن مثل هذه الأعمال ؟ + من خلال متابعتي لردات الفعل أقول لك بأن هناك ثلاثة أشياء أو أموراً تجعل غير العرب يقبلون على لوحة الخط العربي،وهذه الأمور هي موسيقا اللوحة،أو الهارموني المتشكل من انسياب الألوان التي تشكل تلك اللوحة،وثانياً هناك الألوان الشرقية،فأنا،وهنا أتحدث عن تجربتي شخصياً،أميل إلى استخدام ألواننا،ولا أذهب لاستيراد ألوان الآخرين،ولعل هذا ما يحرض المتلقي الغربي على الإقبال على اللوحة،فهو يتلمس فيها رائحة الشرق المحمل بالأسرار والقصص،الأمر الثالث المتلقي يريد أن يجد عملاً يحترم ذائقته،فلا يوجد استهتار في تقديم اللوحة له،إنه يريد أن يجد من خلال اللوحة ما يدخل المتعة البصرية التي يحتاجها،فبالمقدار الذي تحترم فيه المتلقي أثناء تقديمك العمل له،تلقى عنده احتراماً لذلك العمل،قد لا يعجب به،ولكنه سيحترمه،وهذا الاحترام الذي شكل انطباعاً أول، قد يتحول مع الأيام إلى إعجاب بهذا النمط أو ذاك،لذلك فأنا أرى من واجب الفنان أن يبذل جهده في عمله،أي أن يقدم فناً يحترم المتلقي كي يحترمه المتلقي،قد يواجه الأمر فشلاً في البداية،لكن العمل الدؤوب لا شك أن يصل بصاحبه إلى النتيجة التي يرجوها. _ كان الشاعر الروماني هوراس من ثلاثين عاماً قبل الميلاد.... يقول:"أن الشعر رسم ناطق والرسم شعر اخرس" عندما يقرأ الفنان محمود طالب نصاً شعرياً معاصراً، غنيّاً باللوحات الفكرية والصور التعبيرية. هل تستفزه تلك اللوحات الفكرية وتحفزه، الى محاولة تخيّل تلك الصور ومسك الورقة والقلم والشروع في رسم تخطيطات لصورة مقاربة وِلِدَت تحت هذا المؤثر في ذاكرته. ونفذها على الورقة او على جدارية مباشرة او حتى ولو بعد حين؟ + عندما أقرأ نصاً شعرياً معاصراً، غنيّا باللوحات الفكرية والصور التعبيرية، فان ذلك (يضاعف طاقة الإثارة المحتملة في الدخول إلى منازل الفن) وولوج عوالم بإيحاءات تستنهض العمل الفني الذي كان خامدا في الأعماق خاصة فيما يخص تاريخ الجزائر من المقاومة للأمير عبد القادر إلى ثورة أول نوفمبر المجيدة . _ يقول بول فاليري أن الموسيقى تعلمنا كيف نقيس فترات صمتنا.كيف يقيس الفنان شوكت الربيعي فترات صمته؟ + ما ندعوها بفترات الصمت. هي ليست كذلك. انها استمرار لحركة الحكي والقول والفعل. كأن أخاطب نفسي خلسة: غرقت في الألوان.. امتلأت أعماقي وعيناي ووجداني وفؤادي بالألوان. فمن أية الطرق نأتي الى تفاصيل ذاكرتي في مملكة الأحزان.. في الأهوار أو في المدينة؟ وهل يندرج حب الصحافة والنقد الفني التشكيلي ضمن تلك البدايات. هذا حديث الروح لنطف لوحات يشفي، فيكون فعلا في الصمت وانجازا لاحقا في الرسم. _ للأرض والطين رائحة... متى تشتم عين الفنان محمود طالب رائحة الأرض والطين وترتوي بالألوان؟. + نعم دونت تلك المحبة في جدارياتي بملحمة تاريخ الجزائر وفي لوحاتي المعروضة على جدران متحف مصطفي باشا بالعاصمة و زبانة و أفال بوهران . _ إن الفن الرقمي صار يشكل منافساً قوياً للوحة التقليدية ويضع قدميه بثقة؟. + إذا كنا نتحدث عن الفن الرقمي في الخط العربي وبعض تقنيات الحفر والطباعة فربما سيفيد ايجابيا تلك الاتجاهات ولكنه يختلف في الرسم، لا يتعدى في بعد نظره الفلسفي أنف الفنان. ولا يشكل أية منافسة. ويضع قدميه في الفراغ. _ لقدت أهديت العديد من الجداريات كهدية فهل قدمت على سبيل المثال لوحة أو جدارية من أعمالك المتميزة لتكون ضمن التحف الرائعة بمتحف الجيش بالعاصمة ؟ + حاولت التقرب من الإدارة لكن للآسف لحد الآن لم احظ بهذا الشرف ربما في المستقبل من يدري ؟ _ ما هي مشاريعك المستقبلية في أفاق الألوان ؟ عندي مشروع مستقبلي و هو عبارة عن مجسمات حول ذكرى ال 60 لذكرى الثورة الجزائرية المجيدة و التي تعرض بالساحات العمومية _ الرسالة التي تقدمها للشباب الذين اخذوا طريق الفن مسلكا ؟ + الشباب ليس لهم مستقبل في هذا الميدان بسبب عدم وجود الإمكانيات للعمل و العرض و حتى مدرسة الفنون الجميلة أصبحت في وضع ليس جيد كما كانت في السنوات الماضية . _ هل لكم .. بكلمة أخيرة ؟ + أتمنى لجميع الجزائريين الخير فنحن شعب يمتلك القدرة على التحول والنهوض . وملئ بالطاقات الإبداعية ، لأنك ما أن تحترم الآخر حتى تكون قادراً على بناء مستقبل حضاري واللحاق بركب التطور التكنولوجي . وأتمنى الاهتمام بمادتي التربية الفنية والتربية الرياضية في المدارس العراقية . لان الأولى تبني الحس والثانية تبني الجسد ، ومن ثم يبدأ النتاج الإنساني .