يعتبر متحف سيرتا العمومي الوطني من أقدم المتاحف بالجزائر، حيث أنه جاء كضرورة حتمية لإيواء العدد الضخم من القطع الأثرية التي اكتشفت بقسنطينة أثناء تحويل جزءها الشمالي إلى مدينة أوروبية ، بالإضافة إلى عدد اللقى التي كانت تتهاطل من مختلف البلديات، وكان هذا بفضل الجمعية الأثرية لمقاطعة قسنطينة صاحبة الدور الفعال في إنشاء المتحف الذي تم تدشينه سنة 1931 بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر من طرف السلطات المعنية المحلية في ذلك الوقت . وفي هذا الصدد أكد محافظ التراث الثقافي بالمتحف الوطني سيرتا السيد شعبي عبد الحق في التّصريح الذي خصّ به أمس جريدة الجمهورية أن المتحف عرف في إطار تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية أشغال تهيئة مسّت عددا من قاعاته، حيث تمّ بموجب ذلك إعادة حوامل جديدة للقطع الأثرية ،مع إعادة تشكيل بطاقات شرح جديدة بطريقة علمية مستحدثة ، ناهيك عن عمليات تنظيف شملت الواجهات، كما أوضح أن المتحف شهد توافدا كبيرا للزوار الأجانب من مختلف الدول العربية الشقيقة ،و كذا الدول الأوروبية الصديقة، حيث أبدى أغلبهم إعجابهم و انبهارهم بتلك القطع الأثرية المعروضة بالمتحف، فيما لم يتصور بعضهم أن يكون هناك مثل هذه التحف لثمينة ذات القيمة التاريخية والحضارية الكبيرة ، لاسيما تلك التي تعود للفترة النومديدية ، باعتبار قسنطينة عاصمة للملكة النوميدية ، كاشفا في ذات السياق أن المؤسسة المتحفية تحوي أكثر من 14 ألف قطعة أثرية ، ما جعل السلطات الكعنية تفكر في تجسيد مبادرات هامة لإعطاء دفع قوي للسياحة والترويج للثقافة المتحفية من خلال تنظيم ملتقيات تناقش كيفية تحقيق فكرة المتحف الحديث، وكيف يستطيع تمويل نفسه ذاتيا من خلال إعطاء قوة للعلامة التجارية، و إعادة تهيئة قاعات العرض وفق أطر علمية تؤدي إلى استقطاب أكبر عدد من السياح و الباحثين، و الدخول للاقتصاد السياحي من الباب الواسع خاصة في ظل توفر المؤهلات، مع العلم أن عدد الزوار خلال سنة 2015 تجاوز أكثر من 5 آلاف زائر بين محلي و أجنبي . قطع نادرة و طراز أسطوري يضمّ المتحف الذي صُنّف الأول على المستوى الوطني و الثاني افريقيا أكثر من 14 ألف قطعة أثرية ، فهو عبارة عن بناية مربعة الشكل على الطراز الإغريقو روماني، يتربع بمنطقة كدية عاتي المقابلة للصخر العتيق على مساحة قدرها 2100 متر مربع، استغلت منها 1200 متر للبناية و 900 متر للحديقة ، وفكرة تأسيسه جاء بها رواد الجمعية الأثرية لمقاطعة قسنطينة التي أنشأت سنة 1852 ، حيث استطاعت إقناع السّلطات في تلك الفترة بإنشاء متحف تم اختياره بعد عدة مراحل، ليتم في الأخير انتقاء كدية كموقع له ،كونها كانت معبدا قديما للمدينة ،وأيضا تحمل طبقات أثرية لمختلف الحقب التاريخية، لتبدأ في العشرينات من القرن الماضي أشغال بناية المتحف التي انتهت سنة 1930 على شكل فيلا إغريقو رومانية ، قام بتصميمها المهندس كاستلي، و فتح أبوابه سنة 1931 تحت اسم قوستاف ميرسي الذي كان الأمين العام للجمعية الأثرية أنذاك. بقي المتحف يحمل هذا الاسم إلى غاية 5 جويلية 1975 ،ليطلق عليه الاسم القديم لقسنطينة " متحف سيرتا "، و في 1986 صنف كمتحف وطني و أصبح يحمل اسم المتحف العمومي الوطني ،الذي يحوي 3 أقسام منها قسم الآثار الذي يضم العديد من اللقى الأثرية لمختلف الفترات التاريخية ، وهي موزعة عبر قاعات كقاعة ما قبل التاريخ، الممهدة للتاريخ، مجمع الآلهة الروماني ،حيث يجد الزائر نفسه يتجول عبر ألفيات التاريخ بدءا بعصور ما قبل التاريخ إلى الفترة المعاصرة، أما القسم الثاني هو قسم الفنون الجميلة الذي يضم لوحات ومنحوتات ترجع إلى القرن ال19 و ال20 ،تتكون من أعمال زيتية و مائية تتناول مواضيع مختلفة وتنتمي إلى عدة مدارس أوروبية، مستشرقية و جزائرية ، ومن الفنانين أمثال نصر الدين ديني، دوبا مريوس قوستاف،عمار علالوش، الصادق أمين خوجة ، حداد محمد، أما قسم الإثنوغرافيا يضم قطع أثرية تتعلق بعادات و تقاليد الجهة الشرقية من الجزائر على العموم ومدينة قسنطينة على الخصوص . رسوم صخرية شاهدة على العصر و في الحديث عن قاعات المتحف التي عادة ما تصيب زوارها بالدهشة و الذهول ذلك بالنظر لتلك القطع الأثرية التي ترجع إلى عصور غابرة ، نجد قاعة ما قبل التاريخ ذات الواجهات الأرضية و الحائطية التي تحوي لقى أنتجها الإنسان ما قبل التاريخ ، انطلاقا من العصر الحجري القديم الأسفل إلى العصر الحجري الحديث ، وهي عبارة عن أدوات حجرية عظمية عاجية ، أما الواجهات الأفقية فقد خصصت للتوزيع الجغرافي للمحطات الكبرى لعصور ما قبل التاريخ في الشرق الجزائري ،بينما الحائطية فتوضح نموذجا للتطور الزمني للصناعة الحجرية لعصور ما قبل التاريخ، انطلاقا من محطة عين حنش ، مرورا بالفترة العاترية ثم القفصية، وصولا إلى الصناعة النيوليثية، ولتدعيم القاعة علقت صور شمسية وخرائط تعبر عن الحضارة الميقاليثية والرسوم الصخرية ، و كذا توزيع و انتشار الحضارة القفصية، بالإضافة إلى بعض اللوحات ثبتت عليها متحجرات لعظام حيوانات عاشت في بداية الزمن الرابع ، أما القاعة الممهدة للتاريخ تضم 3 واجهات ، اثنين بهما قطع جيء بها من تيديس ،وهي عبارة عن فخار مقولب يحمل زخارف محلية ، وبعض من عرى الخوابي عليها أختام إغريقية اكتشفت بقسنطينة ، أما الأرضية فتضم لقى ترجع إلى العصر الممهد للتاريخ ، وهذه قطع أثرية جيء بها من تنقيبات أجريت في كهف قمة جبل القردة والميناء ببجاية، وتضمّ القاعة النوميدية أهم اللقى التي تعود إلى عصر الممالك النوميدية التي جيء بها من الأماكن التي كانت تابعة لمملكة الماسيل والماسيسيل بقسنطينة، سيدي مسيد، كدية عاتي، تيديس،الخروب، جيجل، القل وغيرها، كما تضمّ القاعة 11 واجهة حائطية بها لقى وقطع نقدية عُثر عليها فوق أواني بحفرية سيدي مسيد، وبالانتقال إلى قاعتي المعبودات والخزفيين بتيديس ينتقل الزائر إلى الحضارة النوميدية في ظلّ الإمبراطورية الرومانية، التي تحوي تماثيل،نقوش حجرية ومنحوتات لعدة آلهة وكذا نقوش جنائزية ، أما قاعة الخزفيين فتضم لقى جيء بها من تيديس التي بدأت سنة 1947. قاعات للمسكوكات والتماثيل يضم المتحف عددا هائلا من المسكوكات التي تعود إلى الفترات النوميدية ،الرومانية الجمهورية ،الإمبراطورية الوندالية والبيزنطية، حيث تحوي القاعة على واجهات حائطية وأرضية بها قطع نقدية و تماثيل برونزية ، فالأرضية تحوي مسكوكات بإسم المدن والمماليك ،مع قطع نقدية لدول كانت لها علاقات تجارية مع نوميديا كمصر ،صقلية واسبانيا، و أخرى بإسم المدن النوميدية سيرتا، روسيكادا فضلا عن النقود الرومانية والإمبراطورية، فيما يصادف الزائر واجهات حائطية تحوي أدوات كان يستعملها الإنسان في حياته كالفلاحية، الحلي والأقنعة، ومنها واجهات لتطور المسرجة عبر العصور في الفترة الإسلامية، بالإضافة إلى تماثيل لأباطرة مثل "كلود" و آلهة "جينون" من الرخام الأبيض، و ما يلفت انتباه الزوار هي النصب الجنائزية ذات اللون الأحمر القرميدي التي تمثل الكتابة البونية المتأخرة واللاتينية ، تتوسطها قطعة أثرية من الفخار، تليها القاعة المسيحية النوميدية التي تضم عددا من الواجهات الحائطية و الأرضية ، بها قطع جيء بها من تنقيبات أجريت في الأحياء القديمة لنوميديا الوسطى ، وهي عبارة عن آثار مختلفة يغلب عليها الطابع المسيحي ، ونقوش كتابية لبعض القديسين ، أما قاعة قلعة بني حماد فتضم بقايا أثرية من تنقيبات أجريت بقلعة بني حماد بالمسيلة ، تيديس، بجاية و قسنطينة ، وتعود هذه اللقى إلى حضارة بني حماد التي ازدهرت خلال القرن ال11 ،وهي بقايا لمجموعات فخارية و خزفية من صحون و جرار تحمل رسومات و نقوش نبتية وهندسية ، فضلا عن قطع من الحلي و القطع النقدية للفترات الإسلامية و لأقراص الزجاجية، هذا و تنوعت القاعات المتبقية ما بين قاعة كبرى مزجت بين اللوحات الفنية و الفسيفساء منها لوحة "عقاب جوبيتر يمسك حزمة نارية ، و أخرى تمثل انتصار فينوس ، ولوحات تمثل قسنطينة خلال القرنين ال19 و ال20 و العشرين ، وكذا مجسم للمدينة في الفترة العثمانية ، و تيجان وأعمدة ناهيك عن جناح الفنون الجميلة الذي خصص لعرض لوحات لرسامين أوروبيين وجزائريين أمثال علالوش، ايسياخم ، و أمين خوجة ، دون إغفال جناح الإثنوغرافيا الذي أضيف إلى المتحف سنة 1997 ، و يضم تحفا بعادات و تقاليد الشرق الجزائري، و صولا إلى الحديقة التي تضم نقوشا كتابية ليبية و منحوتات وتماثيل من الرخام .