لا شك أن أمريكا حتى الآن لا تهيمن على العالم عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً فقط، بل تسيطر أيضاً على الفضاء الإلكتروني الذي بات يتحكم بالعالم أجمع ويضعه في الجيب الأمريكي وتحت العين الأمريكية واستخباراتها الرهيبة. من المعروف أن كل الخوادم أو السيرفيرات التي باتت تحتوي على معظم معلومات وأسرار البشرية موجودة لدى أمريكا، وكل كلمة يكتبها أي شخص من أقصى المعمورة إلى أقصاها لا بد وأن تمر عبر الشبكة الإلكترونية الأمريكية وتستقر في مستودعاتها المعلوماتية. وكلنا يعرف أن الأحرف المعروفة «http» التي تسبق أي عنوان الكتروني على الشبكة العنكبوتية الإنترنت تعني أن أي موقع في العالم لا بد أن يمر عبر هذا البروتوكول الأمريكي الذي يسمح للمستخدمين بتبادل المعلومات عبر الإنترنت حول المعمورة. بعبارة أخرى، إذا قررت أن تفتح موقعاً يهتم بأخبار قريتك في أقاصي سوريا لا شك أنك في حاجة للبروتوكول الأمريكي الذي يأخذك أولاً إلى أمريكا ثم يعيدك إلى قريتك الكترونياً. باختصار شديد، فإن أمريكا تمسك بخناق الفضاء الإلكتروني وبإمكانها أن تدمر بلداً بمجرد أن تمنعه من دخول الشبكة الدولية. وهناك من يقول إن مفتاح الإنترنت العالمي كله بيد أمريكا. لكن، إلى متى ستبقى أمريكا مسيطرة على عالم السايبر؟ ألم تبدأ القوى الصاعدة كالصينوروسيا تنافسان أمريكا على الفضاء الإلكتروني وتهددان مملكتها السايبرية؟ قبل أن نأتي إلى الصين التي باتت تشكل التهديد الأكبر للفضاء السايبيري الأمريكي، لا ننسى أن روسيا بدأت تشق عصا الطاعة الأمريكية الإلكترونية، ليس فقط في تطوير قدرة إلكترونية غير مسبوقة على تهكير واختراق الشبكة الأمريكية والتلاعب حتى بنتائج الانتخابات الأمريكية، بل أيضاً في التهديد بحجب واحد من أهم مواقع التواصل الاجتماعي في العالم ألا وهو موقع «تويتر». وقالت الحكومة الروسية إنها تُبطئ سرعة «تويتر» الذي تعتبره أداة أمريكية للتحكم والتلاعب بالمحتوى الرقمي في العالم. ومن الواضح أن روسيا قد تلجأ للحجب التام للموقع الأمريكي، وتبدأ بإنشاء «تويتر» روسي خاص. ومن بين القيود التي أدخلتها موسكو إلزام الشركات التكنولوجية بمشاركة مفاتيح تشفير خدماتها ومنصاتها، وكذلك تخزين وحفظ بيانات المستخدمين على أجهزة خوادم داخل روسيا. وقد تنضم الدول التي تدور في الفلك الروسي إلى أي شبكة الكترونية روسية مستقبلاً، مما سينتقص حتماً من القوة الإلكترونية الأمريكية. ولا ننسى أن لدى روسيا محرك بحث خاصا بها «ياندكس». كما أن تطبيق التواصل الشهير «تليغرام» الروسي بات ينافس التطبيق الأمريكي الشهير «واتساب» في الآونة الأخيرة. وتشكل الخطوة الروسية الأخيرة بخصوص «تويتر» دعماً واضحاً للجهد الصيني الهادف إلى انتزاع السيطرة الإلكترونية من أيدي أمريكا، فلا يمكن أن تصبح الصين القوة العظمى الاقتصادية الأولى في العالم قريباً وتترك المجال السايبيري لمنافسها الأمريكي يتحكم بها. من المبكر الحديث عن انهيار السيطرة الأمريكية على الفضاء الإلكتروني الدولي وذلك بفضل امتلاكها للغة الإنكليزية التي تحكم العالم، وبفضل نفوذها الهائل في المجال الثقافي والإعلامي والفني مقارنة مع الصينوروسيا ويعتقد الرئيس التنفيذي السابق لشركة «غوغل» إريك شميدت، أن شبكة الإنترنت قد تنقسم إلى قسمين في غضون سنوات، بحيث تقود الولاياتالمتحدة قسماً في حين تقود الصين القسم الآخر، ويقول الملياردير إن الرقابة التي تفرضها الحكومة الصينية على المحتوى عبر الإنترنت ستؤدي إلى ظهور شبكة إنترنت جديدة تماماً لا تتلاءم مع النسخة الغربية من الويب بحلول عام 2028. وأضاف: «إذا نظرت إلى الصين فإن حجم الشركات والخدمات التي يتم بناؤها والثروة التي يتم إنشاؤها تعد ظاهرة استثنائية» وربما تكون عملية تشعب شبكة الإنترنت وانقسامها قد بدأت بالفعل مع تطوير جدار الحماية الصيني العظيم، وهي أداة تستخدمها جمهورية الصين الشعبية لفرض رقابة على الإنترنت، وشهد جدار الحماية هذا العديد من الإصدارات المختلفة التي تطورت بشكل متزايد وقوي بمساعدة الذكاء الاصطناعي، وتمنع الصين حالياً الوصول إلى المواقع الغربية مثل «ياهو» و«يوتيوب» و«تويتر» و«ويكيبيديا». وتمتلك الصين أكبر عدد مستخدمي إنترنت في العالم والذين يقدر عددهم بحوالي 772 مليون مستخدم، ولديها نسختها الخاصة من هذه المواقع، ويستخدم المواطنون غالباً محرك بحث «بايدو» من أجل الوصول إلى المعلومات على الويب ويُسمى وهو بمثابة النسخة الصينية من محرك بحث «غوغل» كما أن هناك منصة «ويبو» التي تحل محل شبكات التواصل ك»فيسبوك» و«تويتر» بالإضافة إلى وجود منصة «كودو تودو» كبديل محلي لمنصة الفيديو يوتيوب. ولا شك أن انقسام شبكة الإنترنت قد يتشكل بسبب الريادة في المنتجات والخدمات التي تشهدها الصين، مما يدفع الدول المجاورة إلى تبني البنية الإلكترونية التحتية لبكين، مما يهدد الهيمنة الإلكترونية الأمريكية. لا ننسى أيضاً أن الجيل الخامس للاتصالات تقف وراءه الصين بنسبة كبيرة. ومن الجدير بالذكر أن روسياوالصين تنافسان أمريكا على الذكاء الاصطناعي، وهذا يعني أن زمام المبادرة في هذا المجال يمكن أن يساعد الصينيين والروس في نهاية المطاف على غزو العالم، وأن القادة في الصينوروسيا قد أدركوا قيمة الذكاء الاصطناعي لخدمة طموحاتهم التجارية وتطلعاتهم العسكرية، حسب شميدت. ولم تعد الصين تكتفي بمنافسة أمريكا الكترونياً بخلق فضائها الإلكتروني الخاص بها وبشعبها وحلفائها، بل أيضاً بدأت تنافس أمريكا عالمياً، وقد شاهدنا كيف حاول الرئيس الأمريكي السابق ترامب الاستحواذ على تطبيق «تيك توك» الصيني الذي بات ينافس التطبيقات الأمريكية بقوة ويغزو العالم. وقد وصل الأمر بأمريكا إلى حجب التطبيق الصيني، مما يعني أن أمريكا باتت فعلاً تخشى اضمحلال قبضتها الإلكترونية على عالم السايبر الدولي. من المبكر طبعاً الحديث عن انهيار السيطرة الأمريكية على الفضاء الإلكتروني الدولي وذلك بفضل امتلاكها للغة الإنكليزية التي تحكم العالم، وبفضل نفوذها الهائل في المجال الثقافي والإعلامي والفني مقارنة مع الصينوروسيا، لكن العالم يتغير. قبل أقل من عقدين من الزمان كان إجمالي الناتج القومي الصيني أقل من ناتج إيطاليا، أما اليوم فقد يتجاوز الناتج الأمريكي خلال فترة قياسية. وبما أن الاقتصاد يقود بقية القطاعات، فإن كل أشكال الهيمنة الأمريكية قد تتأثر تباعاً. القدس العربي