الاحتجاجات الشعبية آخذة في الازدياد، وتتجه نحو العالمية بشكل متصاعد؛ بما يمكن معه القول إننا نعيش في عصر الاحتجاجات الجماهيرية العالمية التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ من حيث تواترها ونطاقها وحجمها. وجدت دراسة مسحية نظرت في المظاهرات بين عامي 2006 و2020 أن عدد الحركات الاحتجاجية في جميع أنحاء العالم قد تضاعف 3 مرات في أقل من 15 عامًا، وأن الاتجاه التصاعدي كان واضحا. ففي عام 2006 سجلت الدراسة 73 حركة احتجاجية فقط بينما في 2020 بلغت الاحتجاجات 251 احتجاجا، وهي أعلى حتى من تلك التي اندلعت بعد الأزمة المالية عام 2008 أو ثورات الربيع العربي في عام 2011. ويقدم لنا مرصد الاحتجاجات في مؤسسة كارنيجي بعض البيانات التي نستكمل بها الفترة الزمنية حتى 11 نوفمبر/تشرين الثاني الفائت؛ فقد اندلع في الفترة من 2017 حتى تاريخه 400 احتجاج كبير شملت 132 دولة، 22% منها امتد لأكثر من 3 أشهر، وغلب عليها الطابع الاقتصادي والتي بلغت 135 احتجاجا كبيرا. لم يتزايد عدد الاحتجاجات فحسب، بل زاد أيضًا عدد المتظاهرين، وتشير تقديرات بعض قواعد البيانات إلى أن ما لا يقل عن 52 حدثًا كان بها مليون متظاهر أو أكثر. بهذا الشكل نحن إزاء ظاهرة عالمية لن تقتصر على ما نتابعه الآن في الصينوإيران، بل من المتوقع تصاعدها، لذا يجب أن نهتم بالتساؤل عن أسبابها وخصائصها؛ خاصة أنها باتت ظاهرة عابرة للثقافات والشعوب والمناطق الجغرافية ومستوى التطور الاقتصادي للبلدان غنية وفقيرة، وكذلك الأنظمة؛ فقد انتشرت في نظم استبدادية وديمقراطية على حد سواء، وأدى انتشار وسائل التواصل الحديثة إلى رؤية ما يحدث في أي مكان وكل مكان بما يعكس التأثر والتأثير المتبادل. ..خصائص سبع يحسن أن نؤكد أن هذه الخصائص تصدر في أغلبها عن معين واحد هو ما يشهده العالم من إعادة تعريف للسياسة وتحوّل عن سماتها السابقة، تلك الظاهرة التي سبق أن تناولتها بالتفصيل في مقالات عديدة. إن الاحتجاج يعكس أزمة السياسة التقليدية بمؤسساتها المختلفة من الحكومة إلى الأحزاب مرورا بالنخب ودورها، كما يمثل تحولا في طبيعة المطالب التي باتت مباشرة وفي أحايين كثيرة محلية، وتدور حول معايش الناس من أجور ووظائف وأوضاع اقتصادية، ولذا فقد تراجعت فيها الأيديولوجيا إلى حد كبير، ولكنها تتضمن عددا من القيم مثل المساواة والعدالة التي ترتبط أساسا بما هو مطروح من مشكلات واقعية. لقد تحدى المحتجون أخيرا في إيرانوالصين بشكل مباشر سلطة المرشد/الزعيم الصيني والحرس الثوري/الحزب الشيوعي في مشاهد لم يكن من الممكن تصورها قبل شهرين في إيران، وقبل شهر واحد فقط عندما حصل السيد شي على فترة رئاسية ثالثة في السلطة، وفيما يلي نتناول أبرز هذه الخصائص: أولًا: غلبة السلمية وتنوع أشكال الاحتجاج تشير إحدى الدراسات إلى أن أعمال الشغب والاحتجاجات التي تنطوي على العنف والتخريب/النهب تمثل 20% فقط من المجموع، وعلى الرغم من أنها تستخدم فقط من قبل قلة قليلة فإن 5% من الاحتجاجات تسجل أساليب يائسة مثل الإضراب عن الطعام والعنف الذاتي (مثل التضحية بالنفس وأن يخيط المحتجون شفاههم). استخدم المتظاهرون مجموعة واسعة من الأساليب، فقد حددت إحدى الدراسات 250 طريقة للاحتجاج غير العنيف، ومثلت التجمعات الاحتجاجية (أو المسيرات) والحصار والإضرابات واحتلال المواقع أو المباني، فضلًا عن نشاط الإنترنت، أكثر أساليب الاحتجاج شيوعًا. ثانيًا: من الذين يعارضهم المحتجون؟ الهدف الأكثر شيوعًا للمحتجين هو حكومتهم الوطنية باعتبارها المؤسسة الشرعية لصنع السياسة والمسؤولة أمام المواطنين. ما يقرب من 80% من جميع الاحتجاجات تطالب الحكومات بتحمل المسؤولية عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية حتى يستفيد منها الجميع بدلًا من القلة، ويلاحظ أن المعارضة لا تقتصر على الحكومات فقط -الفاعل الأساسي في إدارة السياسات العامة وتطبيقها- بل تمتد إلى الفواعل السياسية التقليدية الأخرى كافة. وتشمل فئة واسعة منها أنظمة/مؤسسات مثل النظام السياسي والاقتصادي (30%)، الشركات/أرباب العمل (23%)، الاتحاد الأوروبي/البنك المركزي الأوروبي (16%)، النخب (14%)، الأحزاب/المجموعات السياسية (14%)، الجيش/الشرطة (14%)، صندوق النقد الدولي (10%)، البنك الدولي (1%)، القطاع المالي (9%)، التجارة الحرة (3%)، مجموعة العشرين (نحو 3%)، بالإضافة إلى الولاياتالمتحدة (6%)، والإمبريالية الصينية (3%). ثالثًا: المحتجون الجدد تكشف لمحة عن المتظاهرين تحولا عن التقليديين منهم (مثل الناشطين والمنظمات غير الحكومية/منظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية). على العكس من ذلك، كانت الطبقات الوسطى والنساء والطلاب والشباب، والمتقاعدون والشعوب الأصلية، والجماعات العرقية، فضلًا عن الفئات الشعبية الأخرى، يحتجون بنشاط في معظم البلدان. هؤلاء المواطنون لا يعدّون أنفسهم ناشطين، ومع ذلك فهم يحتجون لأنهم أصيبوا بخيبة أمل من العمليات الرسمية والأحزاب السياسية والفاعلين السياسيين الآخرين المرتبطين بهم. وتشير المشاركة الجماعية للطبقة الوسطى في الاحتجاجات إلى ديناميكية جديدة، حيث تم استبدال انعدام الثقة والوعي بأن النظام الاقتصادي السائد لا يحقق لهم نتائج إيجابية بالتضامن الموجود مسبقًا للطبقات الوسطى مع النخب في العديد من البلدان. وترسم لنا الدراسات التي اعتنت برصد وتحليل الاحتجاجات في السنوات ال15 الأخيرة طبيعة المظالم الرئيسة وأسباب الغضب التي تحركت بناء عليها، وتمثلت في: فشل التمثيل السياسي والأنظمة السياسية، والعدالة الاقتصادية ومكافحة التقشف والحقوق المدنية، وأخيرا العدالة العالمية التي يقصد بها الاحتجاج من أجل العدالة البيئية والمناخية وضد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي/البنك المركزي الأوروبي، وضد الإمبريالية (الولاياتالمتحدةوالصين) وضد التجارة الحرة وضد مجموعة العشرين. وهناك ملمح برز في السنوات الأخيرة يستحق المتابعة وهو التحول من الاحتجاجات الشعبوية اليسارية المناهضة للاستبداد إلى الاحتجاجات الشعبوية اليمينية المتطرفة الاستبدادية بشكل عام في جميع أنحاء العالم. والسمة الأكثر إثارة للقلق في هذه الموجة الشعبوية هي عدد المتظاهرين الكبير والذين يطالبون ليس فقط بحقوقهم، ولكن أيضًا بحرمان مجموعات أخرى من الحقوق ووضع متساو للجماعات التي يعتقدون أنها تهدد وظائفهم أو مكانتهم، مثل المهاجرين، إلا أن هناك اتجاها مهما آخر إيجابيا يتمثل في الأهمية المتزايدة لاحتجاجات حقوق النساء والفتيات على الصعيدين الوطني والعالمي. رابعًا: ماذا حقق المحتجون؟ هنا يحسن أن نلفت النظر إلى أن الإنجاز عمل تراكمي، ورغم هذا فإن 42% من الاحتجاجات أسفرت عن نوع من الإنجاز الواضح، وفق بعض الدراسات. ونادرًا ما يكون النجاح نتيجة حدث احتجاجي واحد؛ ولكنه نتيجة سنوات عديدة من العمل الذي يركز على نفس المظلمة/الطلب، لأن العديد من المحتجين منخرطون في قضايا هيكلية طويلة الأجل قد تسفر عن نتائج في الوقت المناسب، وقد تثبت الإنجازات المتزايدة أو القصيرة الأجل أنها مقدمة للتغيير الأكثر شمولًا. ويرتبط بما سبق أن المطالب الملموسة مثل زيادة الأجور أو إعادة الدعم، مثل الغذاء والوقود، أو وقف بناء البنية التحتية، لديها فرص أكبر للنجاح من الاحتجاجات التي تهدف إلى التغيير الهيكلي. في المقابل، كلما كانت القضية هيكلية (على سبيل المثال عدم المساواة والتجارة الحرة الإمبريالية)، وكلما كان الخصوم بعيدين (مثل مجموعة العشرين والقطاع المالي وصندوق النقد الدولي والتحالفات العسكرية) انخفضت معدلات الإنجاز. خامسًا: مناهضة النيوليبرالية ولّدت عقود من السياسات النيوليبرالية تفاوتات كبيرة وقوّضت مداخيل ورفاهية كل من الطبقات الدنيا والمتوسطة، مما أدى إلى تأجيج مشاعر الظلم وخيبة الأمل من الديمقراطيات المعطلة، والإحباط من فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان التسلطية، وهكذا فإن النظم السياسية نتيجة لطبيعة النيوليبرالية الفاشية غير محصنة ضد الاحتجاجات. تدلّنا الدراسات الإحصائية على تصاعد الاحتجاجات في البلدان التي يزداد فيها عدم المساواة، والعكس بالعكس، فعدد أقل من الاحتجاجات يجري في البلدان التي تشهد تقليصا لعدم المساواة. ويُظهر تحليل البيانات أيضًا ارتباطًا بين النسبة المئوية للأشخاص الذين يعتقدون أن الحكومات تخدم القلة، وبين عدد الاحتجاجات في كل بلد. سادسًا: أدوات جديدة وتعبئة جديدة لطالما كان للإعلام التقليدي دور أساسي في عملية الانتشار، لكن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي غيّر الطريقة التي تنتشر بها المعلومات، وأثر أيضًا على زيادة الاحتجاجات. إن ظهور منصات الوسائط الاجتماعية عبر الإنترنت وسهولة الوصول إليها عبر الأجهزة المحمولة لم يسمح فقط بالتواصل السريع ولكن أيضًا بالتعبئة السريعة، فقد شهد عاما 2005 و2006 زيادة ملموسة في عدد الاحتجاجات. وتتوافق هذه الفترة مع ظهور منصات التواصل الاجتماعي مثل "يوتيوب" (YouTube) و"فيسبوك" (Facebook) و"تويتر" (Twitter) وزيادة هائلة في الوصول إلى الإنترنت عبر الهاتف المحمول. غيّرت هذه المنصات طريقة تواصل البشر تمامًا، وسمحت بنشر سهل وسريع للمعلومات والتعبئة الاجتماعية، وتشير الأدلة أيضًا إلى أن الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت لعبت دورًا مهمًّا في منظمات الاحتجاج، وتعدّ زيادة استخدامها من التفسيرات المحتملة لتزايد عدد الاحتجاجات. لا تعمل تقنيات الاتصال الجديدة ومنصات الإعلام على زيادة الوعي فقط، بل تمكّن الحركات في بلدان مختلفة من التعلم من بعضها والتفاعل مع بعضها، وقد ارتبطت حركة الاحتجاج المؤيدة للديمقراطية التي ليس لها زعيم في تايلند -على سبيل المثال- بالجماعات التي توجه جهودًا مماثلة في هونغ كونغ. مع ذلك، هناك بعض القلق من أن سهولة مشاركة أساليب وتكتيكات الاحتجاج قد تحجب مقدار العمل المطلوب لتنظيم حركات فعالة يمكنها تحقيق التغيير السياسي بنجاح. نتيجة لذلك، قد تنقسم الجهود الناشئة أو تفشل لأن المتظاهرين ليسوا مستعدين استعدادا كافيا للحفاظ عليها، لا سيما عندما تواجههم القوات الحكومية بتحد. وإذا قدّر للمحتجين أن يستفيدوا من تطور وسائل الاتصال، فإن الحكومات أيضا استطاعت أن تستخدم تكنولوجيا المراقبة والتتبع في منع الاحتجاج أو تعطيله. إن استخدام التكنولوجيا من قبل المتظاهرين والحكومات على حد سواء من العوامل المحفزة لاحتمال توسع الاحتجاج أو تعطيله ولو إلى حين. سابعًا: مناهضة الاحتجاج بالعنف وفق بعض الدراسات، تم توثيق القمع في أكثر من 60% من حلقات الاحتجاج التي تم تحليلها في 15 عاما الماضية على شكل اعتقالات وإصابات ووفيات بسبب العنف الذي تنظمه الدولة. وهنا تكمن المفارقة؛ ففي حين يصرّ 80% من المتظاهرين على استخدام الأساليب السلمية التي وصلت بها إحدى الدراسات إلى 250 شكلا، فإن السلط الحاكمة تصرّ على مواجهة ذلك بالعنف. تواجه الحكومات مأزقا تاريخيا، فهي تعمل في بيئة تتسم بعدم اليقين، كما ظهر في كورونا والحرب الأوكرانية، وفي الوقت نفسه تشهد مجتمعاتها تحولا دراماتيكيا، وزيادة في الطلب على أدوارها من قبل الجماهير، ولكن مؤسساتها تعجز عن التعامل مع ذلك كله، لذا فيُتوقع على مدار العقدين القادمين مزيد من الاحتجاج، ولكن هل تكون الحكومات أكثر إنصاتا لصوت شعوبها أم يظل ضجيج القلة هو الطاغي على آذانها؟ الجزيرة نت