في صيف عام 1957 في مدينة نيويورك، كان يٌعرض الفيلم الأمريكي نزهة (Picnic)، وهو فيلم درامي رومانسي، يصور حياة بلدة صغيرة خلال يوم كامل في منتصف القرن العشرين، وكان من الأفلام ذائعة الصيت في تلك الفترة، فلم يكن يعلم رواد السينما أنهم على موعد مع استغلال عقلهم الباطن عبر اللاوعي، واستعمار عقولهم، لصالح حملة إعلانية مُخادعة، لا يعلمون عنها شيئًا، هم فقط أدوات أو عرائس "ماريونيت". انتهى الفيلم، ولم يشعر رواد السينما إلا برغبة مُلحة في شرب الكوكاكولا، وأكل الفشار، وهذا أمر قد يبدو طبيعيًا، بصفة خاصة إذا كنت في قاعة السينما، لكن ما لا يبدو طبيعيًا، أن ترتفع نسبة مبيعات الكوكاكولا والفشار بنسبة تزيد على 60٪ بعد عرض الفيلم، الأمر الذي دفع البعض إلى التساؤل عن ماذا يحدث داخل هذا الفيلم؟! في الوقت الذي لم يظهر فيه أي إعلان مباشر داخل الفيلم، وبالبحث اكتشف وجود إعلان بالفعل، ولكنه يُخاطب اللاوعي، وجرى عرضه خلال أحد المشاهد التي تجمع أبطال الفيلم ويليام هولدن، وكيم نوفاك، وكان الإعلان عبارة عن مجموعة من الكلمات التي تظهر كالوميض (Eat Popcorn and Drink Coca-Cola)، "اشرب كوكاكولا، تناول فشارًا"، لذلك لم تنتبه النسبة العظمى من الجالسين في قاعة السينما، للإعلان، ومن المحتمل ألا يكونوا قد رأوا الإعلان بأعينهم المجردة؛ لأنه ظهر بسرعة 3000/1 في الثانية أي خلال جزء من الثانية، لكنهم شاهدوه بذاكرة اللاوعي عبر عقلهم اللاواعي، وتأثروا به. تسابقت الصحف والمجلات في تلك الفترة من أجل استكشاف قضية مشروعية استغلال اللاوعي، وكان أشهر من كتب في هذا الموضوع الصحفي الشهير وقتها نورمان كوزينز، المحرر في صحيفة ساترداي ريفيو (TheSaturday Review)، الذي كتب في العدد الصادر في 5 أكتوبر 1957، مقالًا بعنوان "مرحبًا بكم في 1984″، ويقصد رواية 1984 للكاتب جورج أورويل الذي تنبأ بنفس القضية في روايته الصادرة عام 1949، والتي تدور أحداثها في (المستقبل) بمدينة لندن عام 1984، وكابوس السيطرة على البشر، عبر قدرة الحكومة الشمولية في دولة أوشيانيا أو أوقيانوسيا التي تدور فيها أحداث الرواية، على مراقبة الأفكار الداخلية لمواطنيها، وحذر أورويل من احتمالية قراءة الاتصالات اللاشعورية للبشر، والتحكم في أحلامهم وطموحاتهم، وتحويلهم لمجرد أرقام وآلات. ولم يكتف جورج أورويل بذلك فقط، فقد تنبأ أيضًا بما نعيشه الآن من تحول قيمنا البشرية إلى أشياء هامشية. عقب تلك الحملة الصحفية التي جرمت استغلال اللاوعي في الإعلانات التجارية، انتفض الكونجرس الأمريكي واللجنة الفيدرالية للتجارة، وقررا عقد جلسات استماع حول الاتصالات اللاشعورية، وفي نوفمبر عام 1957، أعلن العديد من أعضاء الكونجرس غضبهم من فكرة الإعلان اللاشعوري، وطلبوا من الرابطة الوطنية لمذيعي الإذاعة والتليفزيون التحقيق في تلك التقنية الجديدة، والإبلاغ عن أي إعلان جديد، وحذروا من أن الأساليب اللاشعورية قد تكون مستخدمة بالفعل عبر شاشات التليفزيون دون أن يكتشف أحد ذلك، وتم تصنيفها بأنها غير أخلاقية، وصدر تشريع يُجرم هذا النوع من الإعلانات، ويعتبرها غير قانونية. وكان لكتاب "المقنعون المختبئون" للكاتب والباحث الأمريكي فانس باكارد عام 1957 تأثير كبير على جذب اهتمام الجمهور أيضًا لهذا النوع من الإعلانات، حيث اختصر باكارد أبحاثه بنتيجة واحدة هي أننا يتم مراقبتنا وإدارتنا والتلاعب بنا خارج وعينا الواعي من قبل المعلنين والمسوقين، وحتى الآن مازلنا لم نصل للأسوأ في القضية، والذي طرحه ويلسون بريان الأستاذ الجامعي عام 1972، في كتاب بعنوان إغواء لاشعوري (SubliminalSeduction)، والذي تصدرت صورة غلافه مشروب بداخله ليمون ومكعبات ثلجية كبيرة، وكتب سؤال أسفل العنوان الرئيسي: هل هذه الصورة تثيرك جنسيًا؟! وأكد بريان أن صورة غلاف الكتاب تتضمن صورًا لأجزاء من الجسد ورموزًا أخرى محفزة ومخفية، ولا تظهر للقارئ، لكن يتم التقاطها بشكل لا شعوري وتفسيرها من قبل عقولنا اللاواعية، وبالتالي يتم تحفيزها في اتجاه شراء المنتجات والعلامات التجارية المُعلن عنها. وخلال تلك الفترة تم اكتشاف أو الكشف عن العديد من الإعلانات التي تستخدم عقولنا اللاواعية، فإذا شعرت يومًا بحالة انجذاب نحو منتج مُحدد دون سبب واضح لذلك، فتأكد أنك كنت ضحية لاستغلال عقلك اللاواعي، عبر حملة إعلانية خفية، غير مُعلنة. والأخطر من ذلك هو ما تم اكتشافه في أفلام ديزني، والرسائل والدلات الجنسية المخفية التي تتلاعب بعقول ومشاعر وأحاسيس وميول وتوجهات أطفالنا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما تم اكتشافه في الفيلم الكرتوني رجال الإنقاذ (TheRescuers)، وتحديدًا في المشهد الذي يتجول فيه بيانكا وبرنارد في أنحاء المدينة داخل علبة سردين فارغة، وبالتدقيق ستشاهد امرأة عارية في خلفية المشهد، وحتى ترى ذلك تحتاج إلى الانتقال داخل نفس المشهد إطارًا تلو الآخر، وفي تلك الفترة ادعت ديزني أن الصورة لم يتم تحريرها بواسطة رسامي الرسوم المتحركة، ولكن تم إضافتها في مرحلة ما بعد الإنتاج، وفي 8 يناير 1999 قررت ديزني استدعاء 3.4 مليون نسخة من الفيلم من أجل حذف الصورة. عندما أفكر في كون كل هذا بدأ وكان يحدث قبل أكثر من نصف قرن من الطفرة التكنولوجية الهائلة التي نعيشها الآن، أسأل نفسي مفزوعًا، إذن ماذا يحدث لنا الآن؟ وإلى أي مدى نجح هؤلاء الذين يجلسون خلف حواسيبهم في استعمار عقولنا ووعينا البشري؟ وهل سيأتي يوم نجد أنفسنا كعرائس الماريونيت، يتحكم فينا آخرون لا نعرفهم ولا نراهم؟ وربما قد أصبحنا بالفعل منذ سنوات دون أن نشعر، فالأمر يحتاج إلى تفكير وتأمل وإدراك لكل ما يدور حولنا، في الوقت الذي أكد فيه إيلون ماسك عبر شركته "نيورالينك" (Neuralink) المتخصصة في صنع شرائح المخ، إنه من المتوقع بدء التجارب على البشر في غضون 6 أشهر، فالآن ليس لدي أدنى شك، في أننا جميعًا خارج سيطرة أنفسنا، وضمن دائرة تحكم آخرين لا نعرفهم، وأننا قد أصبحنا مجرد أدوات لتلك التكنولوجيا التي تخطى مداها قدراتنا على السيطرة عليها، أو حتى تدارك أخطارها، إلا إذا قررنا جميعًا أن نصبح خبراء في التكنولوجيا. كلمة أخيرة قالها عالم النفس سيجموند فرويد: "إن للإنسان عقلين: ظاهر وباطن وأن أغلب أعمال الإنسان مسيرة بعوامل منبعثة من العقل الباطن الذي لا يشعر الإنسان به ولا يدري ماذا يحدث فيه".