كيف نفهم معنى بيع الهدى واشتراء الضلالة ؟ إن أول ما يلاحظه المتدبر في هذه الآيات إن الله ختمها بقوله: "وما كانوا مهتدين"، مما يحيلنا على أصل قضية الإيمان التي بدأت بها هذه السورة وهي الهداية: "هدى للمتقين" لأن منهج الإيمان كله مبني على أساس الهداية، والمعركة كلها، في أدق تفاصيلها، قائمة على نقيضي الهداية الضلالة، النور والظلمات، الحق والباطل..وكأن "تجارتنا جميعا في هذه الدنيا لها رأس مال واحد هو الهداية وخسارة واحدة هي الضلالة، وما بينهما هامش أرباح أو أضعاف مضاعفة من الاحتياطات التي تزيد في كم رأس المال أو تنقص منه بصافي الربح أو بصافي الخسارة، هذا ما تقرره آخر آية عقب بها سياق وصف هذه الفئة الثالثة من الناس الذين رفضوا الإيمان بقلوبهم وظاهروا أهله ببعض الأقوال المطمئنة ووقفوا مع الكفر في خلاواتهم، فصاروا وسطا بهداية الكفر والكفر بالإيمان، فكان حكم الله عليهم بالبوار وعلى تجارتهم بالخسران: "أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" البقرة :16. فكيف نفهم معنى بيع الهدى واشتراء الضلالة؟ وهل يستقيم في الذهن أن يبيع تاجر مفلس بضاعة أعلى ليشتري بها بضاعة أدنى؟ وهل رأيتم أحدا يبيع الحق في سوق الباطل أو يشتري الباطل من أسواق المؤمنين؟؟ هذه حقيقة قرآنية مؤكدة، في أكثر من سورة وبطرق كثيرة ومواضع متعددة من كتاب الله الذي لا ريب فيه، ولكي نفهم حقيقة هذه التجارة المفلسة ودواعيها وأسبابها ومكوناتها والأسهم التي تمثل أصولها، نحتاج إلى أن نتعرف أولا على صفات المنافقين وتصرفاتهم تجاه أقدس نص وأنفس قضية أرادها الله هبة لعباده منذ أن تعلقت مشيئته بأن يجعل في الأرض خليفة. إن أدب القرآن الكريم، في الخطاب والتشريع والتوجيه والترغيب والترهيب..يتحاشى "التشخيص" إلاّ ما كان ضرورة إيمانية تفرضها العقيدة ويمليها واجب الفرز، فلم يذكر منافقا واحدا بالإسم، وعندما تعلّق الأمر "برأس النفاق" ذكر ما نطق به لسانه فعرفه الناس بإقرار منه عندما قال: "يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" المنافقون:08، فماعدا ذلك فالإشارة تغني عن العبارة، وكان أبدع أسلوب التصق وروده لمعسكر النفاق، بشكل لافت للنظر هو قوله تعالى: "ومن الناس" التي يكثر ورودها في القرآن للدلالة على صنف من الناس، هم من عامة الناس أو من خاصتهم، ولكنهم ليسوا ككل الناس، لأن اختيارهم لنمط حياتهم فيه نوع فصام بين حقيقتهم وواقعهم، فهم لا يحبون بياض الإيمان ولا يطيقونه، وليست لهم الشجاعة الكافية ليتحملوا ما يترتب عن سواد الكفر من كرّ وفرّ وحلوّ ومرّ وما يحمد منهم وما يعاب عليهم، فهم لا يريدونه هوية ولكنهم لا يهجرونه هوى وممارسة، ويفضلون العيش في "المنطقة الرمادية" المظللة بمغانم هؤلاء وسلم هؤلاء دون تحمل أية مسؤولية من الطرفين، ودون اضطلاع بتكاليف منهج الإيمان، ودون دفع ضريبة الكرّ والفرّ بين المعسكرين، فخاطبهم مؤمن "إذا لقوا الذين آمنوا" وأفعالهم كافرة "إذا خلوّ إلى شياطينهم"، فألسنتهم تلهج بالإيمان وتلح في إثباته ببراعة تنافس أبرع أهل الاختصاص في التسويق لبضائعهم، لأن الإيمان الذي يروجون له بفصيح ألسنتهم إيمان لذق لا رصيد له في القلوب، ومع ذلك يصرون على الترويج له في الناس ليعرف الجميع أنهم مؤمنون وأنهم آخذون لعقيدة أهل الإيمان بطرفيها الإقرار والنطق، غير أن الواقع يزعزع هذه الإدعاءات لأن طرفي الإيمان هما قمة ما أرشدت إليه آيات الكتاب المبين في مسألتين لا يمكن الترويج لهما نظريا ما لم تترجم الأركان حقيقتيهما وهي حقيقة واحدة ذات شقين يجمعان عالمي الغيب والشهادة:
قمة الإيمان بالله ابتداء بإقرار التوحيد الخالص. وقمة الإيمان باليوم الآخر انتهاء بالإذعان لمن جعل لكل بداية نهاية يتلوهما حساب وثواب وعقاب وجنة ونار. فبين حضور الله في القلب حضورا دائما مستمرا، وبين العمل على اتقاء أهوال يوم الحساب باللسان والجوارح وسائر الأركان، تدور معارك الحياة كلها على محور الإيمان والإسلام والإحسان، ويكون روحها جميعا النيات التي هي من أعمال القلوب، وعندئذ لا يكون النفاق مجرد قول باللسان، فهذه ثمرة منطوقة للنفاق، ولا مجرد عمل بالأركان يبدو من ظاهره أنه عمل صالح، فهذا أثر مقطوف أو مجترح بظاهر الأركان، إنما النفاق إيمان بالجنان ينعقد على نوايا لا يحركها اللسان ولا تظهر اجتراحاتها الأركان، فمحل النفاق القلب وليس اللسان ولا الأركان، كما أن محل الإيمان والكفر هو القلب كذلك، كما سبق بيانه، وعلى هذا الأساس كان المؤمنون بالمنهج صادقين في إيمانهم، فأعلن الله عن هذا الصدق الإيماني أن عن صفاته الكبرى في ثلاث آيات، لأن المؤمنين منسجمون مع ما أودع الله فيهم من فطرة تحاولت مع ما أنزل لهم من منهج ينتظم حركة الفطرة في الحياة، ولما انتقل بالحديث عن "إيمان" الكافرين بكفرهم و"صدقهم" فيما اختاروه لأنفسهم ذكر ذلك في آيتين اثنتين، فلما جاء الدور على المنافقين غابت من قلوبهم صفات الإيمان والكفر، فليسوا مؤمنين تكفيهم ثلاث آيات وليسوا كافرين تكفيهم آيتان، وليس في قلوبهم "صدق الإيمان" فيعرّفون به إيجابا ولا "صدق الكفر" فينعثون به سلبا، فاحتاج الأمر إلى ثلاث عشرة آية للتعريف بالصفات الأساسية المتعلقة بالمنافقين ومواقفهم من قضية الهداية، أما حركتهم تجاه التكاليف الشرعية وتدابير شؤون الحياة وعلاقاتهم بمعسكر الإيمان في السلم والحرب..فقد احتاج أمر بيانها إلى آيات كثيرة، بل إلى سور بطولها تناولت موضوع النفاق والمنافقين مثلما جاء في سورة براءة وسورة المنافقون..عدا ما بثه القرآن الكريم من إشارات وتشبيهات وكنايات في جميع ما نزل على رسول الله (ص) بعد الهجرة الشريفة كون حركة النفاق لم يظهر لها أثر إلاّ من بعد أن هاجر الإسلام وبدأت تظهر له جماعة وأسس دولة وميثاق ينظم حركة المجتمع، بل صارت له شوكة وسلطان سياسي وجولة من بعد جولة تمهد لتقويض بنية المجتمع الجاهلي وتؤسس لقيام دولة تستمد منهجها من وحي السماء. إن أخطر الأعداء فوق وجه هذه الأرض ليس عدوّ يشهر سيفه في وجهك ويعلن عداوته لك ويحسم أمره معك بعد جولة أو جولتين، وإنما أخطر الأعداء وأخبثهم وأمكرهم هو ذاك الذي يعيش معك ويحضر جلساتك ويطلع على أسرارك ويعرف "نقاط ضعفك" ويداهنك ويهادنك ويداريك..حتى إذا واتته منك فرصة انقض عليك وظاهر عليك الخصوم وعبأ لك الأعداء والأحلاف والحشود وطعنك في المقاتل التي يعرفها فيك وهاجم الدين الذي يزعم أنه يؤمن به- من المنافذ التي فتحتها له وضربه في الثغرات التي كان يفترض أن يكون هو حارسها، لهذه الأسباب تتابعت ثلاث عشرة آية تكشف عن حقيقة مرعبة في طبيعة البنية النفسية والتشكيل العقلي للمنافقين لتحذر من خطورة هذا الصنف من الناس المتناقظ مع ذاته ومع محيطه ومع ما يصدر عنه من أقوال وما يُرى منه من أفعال، لأن حياة النفاق قائمة على ثنائية الظاهر والباطن وما يُبدى وما يُكتم وما هو في الخلوات والظلمات مع الشياطين، وما هو في الجلوات والنور مع الذين آمنوا، فهي حياة فوضى واضطراب وسيرة خوف وجبن، وأكاد أقول: إن حياة المنافقين كلها تمثيل بارع وتدجيل مقيت لأنهم لا يعيشون حقيقة ما يعتقدون ولا يستطيعون مداراة ما يكتمون لذلك يعيشوف فصاما نكدا بين ظاهرهم الذي يعيشونه مع الناس وباطنهم الذي يسحبهم إلى المغارات النفسية والدهاليز الفكرية، فيعيشون التمزق والغربة بين حقيقتهم وواقعهم، فيتظاهرون بأنهم يصلّون كالمؤمنين ويزكون مثلهم ويصومون ويحجون..الخ، ولكن ظاهرهم "المؤمن" يكذبه باطنهم "الكافر" فيفعلون ما لا يؤمنون به، ويقولون ما ليس له رصيد من إيمان في قلوبهم، ولا أصل له فيما يعتقدون، ويلوكون كلمات ضخمة لا يقدرونها حق قدرها إذا وجدوا أنفسهم مع المؤمنين فقالوا: "آمنا بالله وباليوم الآخر" وهو قول ثقيل كلماته ليست كالكلمات ومعانيه ليست كسائر المعاني، فالإيمان ليس كلمة تقال واليوم الآخرة ليس محطة عبور بين رحلة انتهت ورحلة مستأنفة، إنما هي عملية انسلاخ كامل من جاهلية قديمة واصطباغ بصبغة جديدة تتحدد بها المنطلقات والوسائل والغايات، فالإيمان بالله وباليوم الآخر ليست ألفاظا تستهلك..إنها مفردات عقيدة وأركان منهج ومضامين قيم..وبيعة لله ورسوله. هل يعلم المنافقون ما تعنيه كلمة "الإيمان بالله"؟ وهل يقدرون ما يترتب عنها وعن الإيمان باليوم الآخر من إعداد واستعداد واستقامة وتشمير؟ يتبع…