بقلم: عبد الله لالي لا خير فيمن جفّ طبعا واشترى * * بلطائف الأدباء كأسَ مدامِ والشّعر كالبيداءِ: هذا مَهِمَهٌ * * قفرٌ ، وهذا مرتع الآرام شِعرُ الفُحُول فتحتُ ديوانَ (خواطر الحياة) متطلّعا بفضول للنَّبش في العالم الشعري لهذا الرّجل العملاق الشيخ محمّد الخضر حسين، شيخِ الأزهر الأسبق والعالم المشهور، وكان في نفسي أنّي سأقف على شِعرٍ يشبه شعر العلما، الذي هو في الغالب نضمٌ وصناعةٌ تدلّ على تمكّن صاحبها من العروض والإحاطة بفنون الشعر ، أكثر مما تدلّ على الموهبة والشاعريّة العالية، وكاد يؤكّد تلك الفكرة في ذهني تصريح الشيخ نفسه – تواضعا منه – في مقدّمة ديوانه بما يشبه ذلك..لكنّي لما بدأت قراءة أولى قصائد الدّيوان خطر في ذهني في الحال قول الشافعي رحمه الله:
ولولا الشعر بالعلماء يزري * * لكنت اليوم أشعر من لبيد وقلت هذا والله شعر فحول وليس مجرّد نظم يعجب من قدرة صاحبه وتمكنه من صياغة القصيد، ولا يُعتَرف له بموهبة أو شاعريّة..!.
لقد سَطَّر الشيخ الخضر حسين – رحمه الله – آيات من الإبداع الشعري مُزجت برونق من شَذِي العبارة وجمال الصورة، مع عصارة من الحكمة البالغة والتجربة الغنيّة، شعر بلغ به صاحبه طبقة الفحول عن جدارة، ومع ذلك فهو يقول: " هو كلام موزون، إن لم يجد فيه الأديب ما يروقه من لفظ أنيق، أو معنى رشيق، فقد يرى فيه المؤرّخ أشياء يهمّه أن يتعرّفها من مصادر متعدّدة".
وإنّه لعمري لذو لفظ أنيق، ومعنى رشيق .. وحكمة بليغة ومثل سائر، وصور رائعة وفن من الإبداع فريد، ولو أنّه تفرّغ له وأكثر من الكتابة فيه لفاق كثيرا من أقرانه وبزّهم بزّا.. لله درّه فهو القائل مصورا أبدع تصوير بريشة الشاعر التي فاقت ريشة الفنّان التشكيلي:
هزّ النّسيمُ غصونَ الرّوضِ في سَحَر * * كما يهزّ بنانُ الغادةِ الوترا لذّ الحفيفُ على سمعِ الغمامِ أما * * تراه يحشو على أدواحه دررا أوّل شعر سمعته للشيخ الخضر حسين كان في الملتقى السّادس للجمعيّة الخلدونيّة، الذي كان حول شخصيّة الشيخ محمّد الخضر حسين، وهما بيتان من رضاب الحكمة وخالص تجربة الحياة تمثّل بهما أحد الأساتذة المشاركين، ووجدتهما في الدّيوان بعد ذلك وهما قوله:
وغلامٍ قرّب " السّاعة " مِن * * أذْنِه يسمعُ منها النّقراتِ قال: ما في جوفها؟ قلت له: * * سوسة تَقْرُض أيّام حياتي وكنت أثناء الملتقى أدوّن كلّ صغيرة وكبيرة فيه، فسجلت هذه الأبيات على عجلة وحفظتها بعد ذلك، وعجبت لما تحويه من عميق الحكمة وجلال المعنى، وراعني فيها كيف يجعل الشيخ الشاعر الحكيم مظهرا من مظاهر تقدّم الإنسان وتطوّر حضارته، محلا للعبرة والاتعاظ والتفكّر في الوجود، وهي تشبه ذلك البيت الشهير لأحمد شوقي – رحمه الله – الذي يقول فيه:
دقّات قلب المرء قائلةً له * * إنّ الحياة دقائق وثواني وفي الدّيوان كثير من الأبيات والقصائد على هذا النّمط التأملي العميق، وربّما أكثر من نصف الدّيوان حكمٌ عظيمة ونظرات ثاقبة في الوجود والكون، تلخّص تجربة الشيخ في هذه الدنيا، وما استخلصه من عبر قيّمة، ويمكن أن نتمثل بأبيات أخرى تدلّ على ذلك وتبيّنه أوضح بيان:
يقول في صفحة 76 يرثي وزيرا فاضلا: كلّ امرئ برسول الموتِ موعودُ * * وكلّ أنس بذات البين محدودُ فأحزم القوم من يعنو لخالقه * * وعزمه يرعى الطّاعات مشدودُ والبيتان يترجمان عن معانيهما ولا يحتاجان إلى مزيد بيان، ولكنّ الجمال أن يسوق الشيخ هذه الحكمة ذلك المساق الفنّي السّلس المحكم، حتّى أنّه يمكن أن يحفظ ويسري على الألسنة. وفي أبيات تفيض حكمة ومعانٍ تسبّح لخالقها الرّحمن؛ أجاب زوجته عندما سَأَلتْه عن سرّ شامة كانت بأعلى قفاه، وهي أثر عمليّة جراحيّة قديمة:
وقائلةٍ: ما هذه الشامة الّتي * * أرى أهي القرْح الّذي مرّ عهدُه فقلت لها: الشيطان يزعم أنّهُ * * يوجّهني أنّى توجّه قصْده ومهما رمى الشيطان سهمَ غواية * * يكيد عباد الله أخفق كيده وهذا الّذي أبصرتِ خاتمُ خالقي * * ليشهد لي ما عشتُ أنّي عبدُه لا يكاد يسهو عن قشّة تراها عيناه إلا ويرى فيها حكمة من حكم الخالق جلّ جلاله، فيصوغ فيها أروع المعاني وأزكاها..
* سند عالٍ في اللغة " هذا بحٌر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج "- العلامة عبد المجيد اللّبان رئيس لجنة الامتحان التي اختبرت الشيخ لنيل الشهادة العالميّة. ديوان ( خواطر الحياة ) لا يقتصر على شعر الحكمة وحده، بل فيه فنون من الشعر متعدّدة وأغراض من الفكر متشعبة، بل إنّ الديوان ليعدّ بستانا زاهي الألوان متلألئ الأضواء، لا يخرج منه قارئه بمتعة فنيّة من خالص الشعر وحسب، وإنّما يجد فيه المعارف الكثيرة، والمعلومات الغزيرة والعلم النّافع..
تجد في ديوان (خواطر الحياة) أخبار العلماء والأدباء ومساجلاتهم ونضالهم في سبيل المبادئ والأفكار والدّفاع عن الحق ونصرته، وتجد فيه ظِلالا من التاريخ تروي نهمة الباحث المتطلّع إلى الكشف عن خبايا تلك الحقبة التي عاش فيها الشيخ، وتجد فيه اللّغة حاضرة بكلّ عنفوانها وحسن بيانها، فالشيخ أحد أعلامها المبرّزين وأقطابها الذين يشار لهم بالبنان، ويكفي أنّه كتب فيها ودبّج المجلّدات الكبار وكان له في المجمع اللّغوي بالقاهرة صولات وجولات.. ومما كتبه عن اللّغة العربيّة في هذا الدّيوان فأجاد فيه وأمتع، قوله:
والعلم لو لم تحتضنه اللّهجة ال * * فصحى لَعزَّ على العقول طِلابا فالشيخ لا يرى تحصيل علوم الدنيا إلا بلغة العرب الفصحى، فأين الذين يقولون اليوم، ينبغي علينا اليوم أن نطلب العلوم الحديثة باللّغات الأجنبيّة..؟ ويزهدون في لغة القرآن ولسان الذكر والبيان، ويشعرون بعقدة النّقص والصَّغار
أمام لغة الأجنبيّ الغازي .. !!
ويقول في قصيدة أخرى بعنوان (فضل اللّغة العربيّة): ولم أنضُ القريحة في نسيب * * ولا عذلا شكوت ولا بعادا فما أهوى سوى لغةٍ سقاها * * قُريشٌ مِن بَراعَتِهم شهادا أداروا من سلاستها رحيقا * * وهزّوا من جزالتِها صِعادا وطوّقها كتاب الله مجدا * * وزاد سنا بلاغتها اتّقادا تصيد بسحر منطقها قلوبا * * تحاذر كالجآذر أن تصادا هي قصيدة طويلة تحكي عن مجد العربيّة في أزهى عصورها، وتظهر فائق بيانها وروائع دررها.. وهو الذي يقول مجيبا على إحدى قصائد بعض أصدقائه:
وما الكَلِم الفصحى سوى دُرَرٍ إذا * * تلاقت على القرطاس صارت قلائِدا فاللغة العربيّة هي إحدى أكبر قضاياه في الحياة وشغله الشاغل، فلا ينفك يذكرها ويذكّر بها في كلّ مناسبة، وجهوده فيها وفي تبيان جَلالها وجمالها أعظم وأجلّ من أن تعرّف، ويكفي كتابه الشهير (القياس في اللّغة) الذي نال به عضويّة لجنة كبار العلماء في الأزهر، وكذلك بحثه الرّائع الذي طار في الآفاق (الخيال في الشعر العربي).
ومن قصيدته (حياة اللّغة العربيّة) يقول:
لغة أُودع في أصدافها * * من قوانين الهدى أبهى درر أفلم ينسج على منوالها * * كلم التنزيل في أسمى سور لغة تقطف من أغصانها * * زهر آداب وأخلاقٍ غُرَر ولو تتبعنا شعره في اللغة العربيّة لطال المقال وتشعّب الرأي، فيكفي في ذا ما أشرنا إليه ومثّلنا به، ففيه الغنية والكفاية، وهو يعطي الصورة الواضحة عن عشق مدهش للّغة العربية أشربته روح الشيخ رحمه الله تعالى فملأ عليه أقطار نفسه..
* الصور الفنيّة في ديوان (خواطر الحياة): ما يَفْرُقُ بين شاعر وشاعر جملة من العناصر الفنيّة التي لا تخطئها عين القارئ المتذوّق للشّعر، أهمّها الخيال الواسع والصورة الفنيّة البديعة المشرقة، التي تجعل للكلام روحا يسعى بها بين النّاس بغير قدم أو ساق..! وقد وُهب الشيخ الخضر حسين ريشة شعريّة بديعة، فاقت ريشة الفنّان التشكيلي، ولعلّ مأتى ذلك – زيادة على الموهبة الشعريّة والاقتدار اللّغوي – عبادة التّفكر في الكون التي وَلِع بها الشيخ رحمه الله، فهو لا يذر فرصة إلا ويلحظ الطبيعة والكون من حوله، ليحقق عبادة التفّكر في ملكوت الله.. وهذان بيتان رائعان ينطقان بذلك ويدلّان عليه بأسطع برهان: تطاول هذا اللّيل والجوُّ مزبد * * تضيق بأمواج الثلوج مسالكه كأنّي أذيب الصّبح بالحدق الّتي * * يقلّبها وجدي وتلك سبائكه وَصْفٌ يفوق كلّ وصف وتصوير بلغ الذروة، حتّى يكاد المرء يقول: لا مزيد فوقه.. فقد صوّر الشاعر كثرة الثلوج وتراكمها على الطرقات بأنّها تشبه الأمواج التي تسدّ كلّ المسالك والسبل، والجميل في هذه الصورة هو أنّ هذه الثلوج كانت في الأصل أمواجا في بحارها، ثمّ تبخّرت وصارت سحبا وبردت حتى صارت ثلوجا ونزلت على الأرض وبدت وهي تغطّي وجه الأرض كأنّها عادت أمواجا مرّة أخرى، ولكنّها على اليابسة وليست في البحار .. طرافة في المعنى وجمال مبتدع في الصورة.. !. ويشبه هذه الصورة في جمالها وبداعة معناها البيتان اللّذان وصف بهما الشيخ حمرة الشفق، فقال: هذا الدّجى اغتال النّهار ودسّه * * تحت التّراب مضرّجا بدمائه ما حمرة الشّفق التي تبدو سوى * * لطخٍ من الدّمِ طار نحو ردائه.
وهي صورة فنيّة مركّبة تركيبا دقيقا من ملمس شاعر رهيف الحسّ دقيق التصوير، له عين تلتقط جمال الطبيعة فتدسّه عنبرا وعبيرا في أجمل تعبير شعريّ ساحر، الدّجى يغتال النّهار ولا يكتفي بذلك بل يدسّه تحت التراب، ولا يزال ملطخا بدمائه، والدّليل على ذلك في شرعة الشاعر؛ أنّ حمرة الشفق – التي هي إيذان بحلول اللّيل – أثر من تلك الفعلة التي فعلها الدّجى بقيت في ثوبه، والمدهش أيضا أنّها طارت إليه طيرانا.. مشهد يضاعف قوّة الإحساس بجمال الكون، ويصبغ عليها من روح الشاعر ما يجعلها تتفجّر بهاء وسحرا، ولا يملك المرء إزاءها إلا أن يقول: سبحان بديعَ السموات والأرض، وبديعَ موهبة الأفذاذ من الشعراء..!. وكانت للشيخ الخضر حسين كثير من هذه التأملات المدهشة عندما سافر إلى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وفي كثير من الأماكن التي زارها أو أقام فيها؛ وصاغها صورا شعريّة حيّة تنطق بغير لسان، وتشير بغير بنان كما يقال.. !
وسبق وأن مثَّلنا على تلك الأبيات التي قالها في ألمانيا بهذين البيتين البديعين: هزّ النّسيمُ غصونَ الرّوضِ في سَحَر * * كما يهزّ بنانُ الغادةِ الوترا لذّ الحفيفُ على سمعِ الغمامِ أما * * تراه يحشو على أدواحه دررا وهذه صورة شعريّة أخرى فيها مقابلة لطيفة ورائعة، زاوجت بين الفرح والحزن، وبين الاستبشار والتّجهم، صورة لمصر وهي تستعرض جيشها في أبّهة وكبرياء وصورة تقابلها للمغرب العربي وهو لايزال يرزح تحت المحتلّ البغيض:
دمعةٌ كالثلج بردا مجّها * * في المآقي فرط بشرٍ وارتياحِ إذ شهدنا عرض جيش من بني * * مصرَ في أسنى عتاد وسلاحِ وتلتها دمعةٌ صوّر لي * * حرّها أنفاس مكسور الجناحِ إذ ذكرتُ المغرب الغارق في * * لجج سودٍ من العسفِ الصّراحِ وإنّ في هذه الأبيات أكثر من صورة جميلة، وتشبيه قوّي يأخذ بالألباب، فقد شبّه سقوط دمعة باردة من عينه، كأنّ البِشر والفرح مجّها في المآقي، ويا له من تصوير بديع، البِشر والفرح يقذف من فيه دمعة باردة في مآقي الشاعر، وتقابلها صورة أخرى مثّلها له خياله فرأى المغرب العربي تحت جبروت المحتلّ، فكأنّه يتمثل له طائرا مكسور الجناح، فأرسل الشاعر بسبب ذلك المشهد دمعةً حرّى..
ومعلوم أنّ الفرح يرسل دموعا باردة من شدّة البهجة والسرور، وأنّ الحزين تكون دموعه ساخنة كأنّ لها أنفاسا حرّى، ويا له من تصوير مدهش وتعبير شعريّ أخّاذ، لا يتأتى إلا لكبار الشعراء وعمالقتهم.. !! ومن طرائف الصور الجميلة أيضا في ديوان (خواطر الحياة) هذه الأبيات التي يصف فيها القطار ويناجيه، فقال: أردّد أنفاسا كذات الوقود إذ * * رمتني من البين المشتِّ رواشق وما أنت مثلي يا قطار وإن نأى * * بك السّير تغشى بلدة وتفارق فمالك تلقي زفرةً بعد زفرة * * وشملك إذ تطوي الفلا متناسق فالقطار لا يشعر بلوعة الفراق ولا بفقدان الأحبّة وهجر المغاني، ولذلك فهو متناسق الأنفاس مطمئنّ البال. وله في وصف القطار أيضا بيتان آخران، فيهما من الطرافة وجودة السّبك وحسن الاعتبار ما يجعل المرء يَذهل بهما، يقول عندما لجّ به القطار في غوطة دمشق السّاحرة:
لجّ القطار بنا والنّار تسحبه * * ما بين رائقٍ أشجارٍ وأنهارِ ومن عجائب ما تدريه في سفر * * قومٌ يقادون للجنّات بالنّارِ وفي الشطر الأخير نوع من تمثّل الحديث الصّحيح الذي يقول: " عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل " يتبع….
– هذا الدّيوان هو ضمن سلسلة موسوعة الأعمال الكاملة لأعمال الشيخ محمّد الخضر حسين، التي أهداها لي ابن أخيه الأستاذ المحامي الشّاعر علي الرّضا الحسيني مشكورا. – لا أذكر بالضّبط من تمثل بهما، هل هو الأستاذ المحامي والشاعر الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن أخيه، أم هو غيره من الأساتذة. – الدّيوان ص 108 . – رواه البخاري.