مساء الجمعة، لم يعد أبي للبيت كالمعتاد انتظرناه طويلا..غريبة أين أبي حل الظلام ولم يعد، انتابني خوف وشوق، سألت أمي لم ترد…يوم يومان أين أنت ياااأبي… كنت أحس باطمئنان مبهم من خلال وجه أمي،حيث لم يكن يبدو على ملامحها قلق الغياب وتأخر أبي، ربما عندها سر تخفيه، كانت هادئة مطمئنة صابرة ثابته، وهذا حال أمي منذ أن وعيت حينما تشتد الأحوال والظروف تقول بيقين (يفتح ربي)، بقت لاصقة في ذهني هذه الكلمة إلى اليومو كأنها مؤشر من أمي أن الفتح قريب بإذن الله، ولا أذكر مرة أنها اشتكت من نقص غذاء أو دواء. وقبل نهاية الأسبوع..تحركت مكنسة أمي الكبيرة، كانت شظايا شجر الدوم تتطاير مع غبار أبيض هدأ روعه زخات ماء من دلو حديدي نملكه منذ سنوات ولا يزال يحافظ على شكله لولا بعض النتوءات على الجوانب بفعل تشكيله الأول بالمطرقة والمسمار … كنت وأنا أداعب الغبار الهارب في السماء أحاول مسكه من دون جدوى، كثر سعالي مع صرخات أمي ابتعد، لكني اكتشفت فرحا في وجهها، أي والله قالت بيقين الأولين (السلام راه يأكل فيا) ووالله ثم والله وتاالله، كانت كلما قالت هذا الكلام، يأتينا ضيف للبيت في زمن لاهاتف ثابت ولا متنقل. صدقت أمي في كلامها لأني متأكد من حدسها وفراستها..نعم جاء أبي ظهيرة ذلك اليوم محملا بحقيبة كبيرة، اختلطت عليا المشاعر وأنا أنتظر بلهفه الابن شوق الأب، وبشوق الطفولة اكتشاف ما في الحقيبة، كانت هدايا كثيرة وجميلة وأنيقة، من حظي أنا وإخوتي أشترى لنا ناهيك عن الملابس أقلام خاصة للكتابة شكلها مبهر للتلاميذ، وحتى للمعلم كنت أقرأ في وجهه رغبة في أخذه سألني أكثر من مرة من أين اشتريت هذا القلم.. قلت من تونس وسط دهشة التلاميذ…أحسست بالنشوة.. لم يحدثنا أبي عن تونس الخضراء ولا تونس الفتاة، كما كانت ترفع شعارات منتصف الثمانينات من القرن الماضي، ولولا صورة له ببدلته السوداء القاتمة بخيوط دقيقة بيضاء وسط شارع بورقيبة لما عرفت تونس أبدا، لأن أبي همه الوحيد كان في رحلته الحديث عن مسجد الزيتونة الذي صلى فيه ودخل في نقاش فقهي مع أحد مشايخ المسجد حول الإمام والمأموم وصحة الصلاة على رأي المذاهب الأربعة.. كان نقاشه في مسجد الزيتونة يلهمه للبحث والعودة لحقيبته السرية واستخراج مجلداته الكبيرة الأربع وتدقيق تفاصيل رأي المذاهب وخاصة الإمام مالك، وحين يتعب من القراءة يقيد ما انتبه إليه وما سأله الناس في المسجد، أو ما اختلف عليه معهم هذا سلوك أبي اليومي.. في العزومة الأخيرة للعمات والأقارب، وفي الظهيرة، حدث أمر جلل مؤلم مبكي لقد سقط……… يتبع ..