مصطفى شريف وصراع الحضارات يعدُّ "مصطفى شريف"، المفكر والباحث الجزائري، مثالا للحوار والتسامح، يسعى من خلال أبحاثه ونشاطاته المتعددة إلى التعايش بين المختلف الديني، وبالأخص الإسلام والمسيحية، لذا قام بحوارات مع رجال الكنيسة، كان هدفه الرئيس من وراء ذلك البحث عن المشترك الديني ليكون منطلقاً للحوار الهادئ والبنّاء، رجل فكر منفتح على ثقافة الغرب وفلسفته بحكم تخصصه العلمي والأكاديمي المتمثل في "حوار الثقافات"، يرى في الثقافة الإسلامية تراثاً إنسانياً عظيماً زاخراً بما قدمت للبشرية من أفكار ومعارف في الطب والهندسة والفلسفة وعلم الاجتماع، لذلك وقف ضد عملية الإقصاء الممارس من طرف الغرب ضد الإنتاج الحضاري للثقافات الأخرى، خصوصاً الثقافة الإسلامية، فالحضارة لم تكن طفرة حققها جنس بشري دون غيره، بل هي ثمرة تلاقح بين منتوجات بشرية مختلفة، الكل ساهم ويساهم بقسط في بناء الحضارة الإنسانية.
ولأنه يؤمن بفكرة الحوار والتعايش بين المختلف الديني والثقافي، فقد رفض أطروحة " صدام الحضارات " التي طرحها "صموئيل هنتنغتون"، لأنها صادرة على ما يبدو من دعاة الكراهية والحروب والتطرّف، فاحتضنها المتطرّفون من كل جانب، من الغرب، ومن المسلمين، من أجل التأسيس لعالم الخوف والحرب.
ومن ثمّ، فهذه الأطروحة (( مجرد دعاية مغرضة مبنية على التضليل، وعلامة على عدم التبصر بحقيقة الأمور ))، وهي في الأساس تعبير عن نفاق حضارة الغرب، التي تدّعي بأن الكل متساوون، وكل واحد متروك لشأنه الخاص، إلا أنها للأسف تصدر منها مثل هذه الأفكار العنصرية، القائمة على عقدة التفوق وقانون الأقوى والأصلح. صدام الحضارات: خطاب سطحي بعد قراءة نص صدام الحضارات ستكتشف بأنه خطاب سطحي مبنيٌّ على القدح، ومؤسّس على أسلوب التخويف والتشاؤم، إذ أنه يستند إلى (( أحكام مسبّقة وعلى حقائق مضادة، على المستويات التاريخية والفلسفية والدينية، إنه يخلط بين الاستثناء والقاعدة ))، كما خلص إلى ذلك " مصطفى شريف "، وعلى الرّغم من أن المؤلف في كتابه لا يستند في خطابه وحججه، وفي مراجعه المعتمدة إلى الفكر والفلسفة والمعرفة المدققة، إلا أنه حظي بالعديد من النقاشات والحوارات في داخل أمريكا وأوروبا، والعديد من مناطق العالم، لعل الأمر في ذلك يرجع أساساً إلى أنه جاء في مرحلة مفصلية من حياة البشرية، فترة شهدت سقوط جدار برلين، وسقوط النظام الشيوعي كفكرة ونظام بديل عن الديمقراطية الغربية، وبالتالي، عدم وجود عدو، كان لا بد على الغرب أن يختلق عدواً جديداً، يستعمله (( كبعبع ضروري للنظام العالمي الجديد، الذي يبحث عن فرض رؤيته الأحادية في جميع الميادين عن طريق توجهات الصدام، والسيطرة والحرب، أي باختصار، قانون الأقوى )).
اعتمد هنتنغتون في التأسيس للصدام بين الحضارات على فرضيات خاطئة ومزاعم متهافتة، وكما هو معروف، فإن الفرضيات الخاطئة ستؤدي حتماً إلى نتائج خاطئة، وبما أن هنتنغتون يريد الوصول إلى نتائج محددة سلفاً، فقد انتقى من التاريخ ومن الأفكار ما يخدم أطروحته، وما يضفي عليها القليل من المصداقية والصحة، ولقد أورد مصطفى شريف في كتابه " ثقافة السّلم: ليتعلّم الشباب الحوار " مجموعة من تلك الفرضيات الخاطئة، محاولا التعليق عليها ونقدها ودحضها بالبرهان والدليل، ولعل أبرزها ما يأتي: 1 – إن الموضوع الرئيسي للكتاب هو دور الثقافة، الهويات الثقافية، في إثارة النزاعات المقبلة التي ستعوض العوامل الاقتصادية أو الإيديولوجية، وبالتالي، (( فإن النزاعات الثقافية الأكثر خطراً هي التي تقع على خطوط التقسيم بين الحضارات )) هذا الصدام الخطير يمثله مثلث القوّة في العالم، الغرب، الإسلام والصين، نتيجة التنافر الذي يطغى على العلاقات بينهم (( إن الصدامات الخطيرة، في المستقبل، قد تأتي من تنافر الغطرسة الغربية، وعدم التسامح الإسلامي وإثبات الذات الصيني )).
هي نظرة إذن، تعلي من شأن الثقافة، وتجعلها الهمّ الأول، الذي يشغل شعوب العالم بعد نهاية الحرب الباردة، إذ تتضاعف أهميتها اليوم أكثر من أي وقت مضى، ومع أن الثقافة لها دور في حياة الشعوب، وفي تحديد ولائها وتحالفاتها إلا أنها ليست بهذه الصورة التي يصوّرها هنتنغتون، ذلك (( أن الهمَّ الأساسي للشعوب، والسبب العميق والأول للنزاعات ليس الثقافة، الدين والحضارة، إن المشاكل والأزمات هي قبل كل شيء ذات طابع سياسي )) بحسب شريف، فالغرب يريد الهيمنة والسيطرة، والإسلام يقاوم مشاريعه التوسعية بكل ما أوتي من قوة، أمّا الصين فيسعى إلى إثبات الذات، واقتسام مناطق النفوذ معه، أي مع الغرب.
2 – سعى هنتنغتون إلى جلب كل الاختلافات والفوارق الدقيقة بين الثقافات والحضارات، لكي يثبت حالة الصراع والصدام التي يؤسّس لها، ولكي يجعل من الحضارة الغربية حضارة منقطعة عن غيرها، ومكتفية بذاتها، مع أن التاريخ يفضح هذه الرؤية الصدامية، وهذه النظرة المتحيزة، ويقرّ بأن هناك أزمنة تعايش وفترات تناغم، وكل حضارة تدين للثقافات والحضارات الأخرى. في هذا السياق، يقول شريف مؤكّداً الطبيعة التفاعلية، ونافياً الرؤية التصادمية بين الحضارات: (( بطبيعة الحال، كانت هناك فترات عنف بين الثقافات والحضارات، لكنها ليست السّمة الدائمة، فقد كانت هناك أيضاً أزمنة تعايش وتناغم ))، ذلك أن التكامل والتأثير المتبادل والتفاعل هو السّمات البارزة في حياة الحضارات، فكل واحدة تأخذ من الأخرى، وتتفاعل معها.
3 – من بين الفرضيات الخاطئة التي يسوّقها هنتنغتون، عندما كتب قائلا: (( في القرن العشرين، انتقلت العلاقات بين الحضارات من فترة سيطرة التأثير وحيد الاتجاه لحضارة بالخصوص على الأخريات، إلى مرحلة تفاعل كثيف متعدد الاتجاهات بين جميع الحضارات ))، فهذه الفرضية بحسب مفكرنا تقوم على مغالطتين أساسيتين هما:
الأولى: أن الغرب منذ العصر الصناعي لم يستطع خلق حضارة، بمعنى ثقافة متعمّقة، نموذج حياة عالمي ومتعدد، يلبي الحاجات الأساسية للإنسان. الثانية: لا توجد اليوم حضارة حقيقة، قادرة على إنتاج المعنى، والمعرفة المطابقة لقيم خالدة، وعندما يسعى البعض إلى تأسيس أطروحة كاملة على صدام الحضارات فهذا هو التناقض بعينه، ذلك أنه (( لم تعد هناك حضارة حية عاملة ))، أمّا حضارة الغرب فهي عاجزة عن إيجاد نظام إنساني، وعن إنتاج المعنى من وجود الإنسان، لأنها، ببساطة، تتغذّى على بقايا (( آثار ثقافات، موروثات تقاليد، مرجعية تغرق شيئاً فشيئاً في اللامفهوم، أو ليست قادرة على الاستجابة إلى مجموع الحاجات )).
ومع أن مصطفى شريف، لا ينفي عودة الديني وتأثير الهويات في مطالب الشعوب بصفة أو بأخرى، إلا أن الذي يسيطر ويحكم ويقرر اليوم هو " العالمي " والسوق، وعلى هذا الأساس، فإنه لا يوجد " صدام حضارات " كما يسوّق بذلك هنتنغتون وغيره، لأن هذه الدعوى في الحقيقة إلهاء، وخدعة، الهدف منها إخفاء الأزمة الحقيقية، التي تعصف بالنظام السياسي والاقتصادي العالمي، وعجزه عن احتواء الآخرين، خاصة المسلمين، الذين يقاومون الغطرسة الغربية واستكبارها، ذلك أن المسلمين، بحسب شريف، هم (( الذين يقاومون أكثر، ولو بطريقة سيئة، أي بطريقة غير عقلانية وعنيفة لأقلية من بينهم، إذ أن الغالبية العظمى للمسلمين تتمنى المشاركة في تشكيل عالم أكثر عدلا سياسياً، وله معنى على الصعيد الأخلاقي، هذا هو الرهان )).
4 – لقد ساق هنتنغتون في كتابه مزاعم تفتقد للبرهان والدليل، ويرفضها الواقع ويفضحها من ذلك عندما يصف الديمقراطية بأنها (( الشكل السياسي الذي تفضّله الحضارة الغربية )) والديمقراطية كما يعبّر عنها مصطفى شريف عبارة عن " وهم " حتّى المواطن الغربي أصبح يشك في مثل هذا النظام، وأصبحت لا تغريه شعاراته ومغرياته، ولكي يغطي هنتنغتون على فشل الديمقراطية الغربية في احتواء الآخرين، وفي إغراء الجيوب المقاومة، ينصب نفسه قاضياً، بحيث يحاكم الثقافة الإسلامية، ويجعلها السبب في تراجع فكرة الديمقراطية في العالم الإسلامي إذ يقول: (( إن المقاومة الكبيرة التي لقيها الغرب في مجهوداته لفائدة الديمقراطية جاءت من الإسلام )). هنا، لا بد من الاعتراف بأن العالم الإسلامي اليوم، يظهر وأنه أكثر مقاومة للفكرة الديمقراطية، ولعل ذلك يرجع في الأساس إلى أسباب لا علاقة لها بالإسلام، فنصوصه تمجّد الحرية، واحترام الرأي الآخر، كما أن المقصد الأسمى الذي تسعى إليه أحكامه هو تحقيق العدل، وعليه يمكن تلخيص أسباب ذلك، كما يقول شريف، في: (( غلق أبواب الاجتهاد، وانقطاع العلاقة بين العقل والإيمان، وأولوية القوّة على الحق في التاريخ المعاصر للمجتمعات العربية )) دون أن ننسى دعم الغرب للأنظمة المتخلفة والمناهضة للديمقراطية.
* صدام الحضارات: تضليل وتمويه بناءً على ما سبق، فإن صدام الحضارات دعاية للتضليل والتمويه، وهي في التحليل الأخير (( ثمرة منطق حرب بلا اسم، ومؤشر على الحقد )) ابتكره العقل السياسي والاقتصادي الغربي من أجل تحويل انتباه الرهانات السياسية والاقتصادية، والتلاعب بتطلعات الشعوب وأشواقها، وإن عبّرت هذه الأطروحة عن شيء، فإنما تعبّر عن " أزمة حضارة " يعيشها العالم اليوم، فبعد أن أزاحت العولمة والحداثة الأديان، وقيامهما بتعميم الدنيوية والقدرة على التحرر، وهذا بحسب شريف شيء إيجابي، لكن في المقابل، أنكرت الروحي والحق في الاختلاف، وفرضت معياراً وحيد النمط للحياة ( التجارية ) وهذا، بطبيعة الحال، مشكل كبير. إن محاولة فرض النموذج الغربي وعولمته بالقوة دون احترام خصوصيات الآخرين وقيمهم هو الذي أدى إلى مقاومة عنيفة ومتطرفة، وأدى إلى تعميم التطرف والعنف كطريق للحصول على الحقوق المشروعة، مما أثّر سلباً في كثير من الأحيان في قضايا العالم العادلة، وعليه، قد يكون العنف المستشري اليوم في العالم في بعض حالاته نتيجة أفكار إيديولوجية أو دينية، ولكن معظمه، كما تدل على ذلك تقارير بحثية وإعلامية رصينة، هو رفض للظلم ومقاومة للمشروع الغربي، الذي فشل في إيجاد نظام إنساني عادل.
* الحوار كترياق وحتّى يتفادى العالم من الصدام الحضاري، يطرح " مصطفى شريف " طريقاً مزدوجاً يتخذ الطابع الدفاعي والإبداعي في الداخل، من خلال أفكار جديدة مستعينة بإعلام سليم يعبّر عن الذات الإسلامية الحقيقة الرافضة لكل ما يؤدي إلى الصدام وفوبيا الخوف من الإسلام: (( الدفاع والإبداع بأفكار سليمة، وإعلام سليم ضد دعاية الصدام بين الحضارات والإسلاموفوبيا، في الوقت نفسه، العديد من المفكرين يطلبون من المسلمين النقد الذاتي حتى لا نعطي فرصة للعدو والفئات المغرضة لتشويه صورتنا )) أمّا مع الخارج، فيجب انتهاج الحوار كبديل عن الصدام، لأنه (( المفتاح الذي يجعل أي واحد يفهم أية سياسة نريدها، السّلم، التعاون ))، شريطة أن يكون حواراً بناءً ومثمراً لا يعرف اليأس ولا الفشل، لأن الهمَّ الأكبر من ذلك كله هو تحقيق السّلم والعدل، وإيجاد المعنى المفقود من الحياة والوجود، في هذا السياق يحدد شريف شروط نجاح الحوار حتى يكون ترياقاً ناجعاً ضد ثقافة الصدام ب: (( حوار سلمي، صريح، ومنفتح، تارة نتفق حول مفاهيم معينة، أهداف معينة ومناهج، وتارة أخرى، تختلف الآراء، حوار بدون فشل، بدون يأس، حوار دائم النّضج، والذي نجد فيه كل ما نراه يفضي إلى الالتقاء )). وعلى هذا الأساس، يشكّل الحوار الترياق الوحيد لإنقاذ العالم من الصدام واللاتفاهم، ومن منطق الحرب دون عدو محدد، الذي يريد أمثال هنتنغتون وغيره من المتطرفين، من كل جانب أن نتقوقع فيه. سعدون يخلف