الجزء الأول استنكر شيخ زاوية الهامل محمد المأمون القاسمي، في حديثه المطول مع "الحوار" ما يقوم به الدخلاء والانتهازيون الذين ينتحلون صفة الزاوية، ويستغلّون عنوانها في أغراض دنيوية، داعيا إلى توحيد جهود المؤسّسات المعنية، سعيا لتطهير ساحات الزوايا من الذين يسيئون إلى رسالتها. كما سألنا ضيفنا عن وضعية الأئمة، فتحدّث عن مهمّتهم النبيلة، ورسالتهم الجليلة، ودورهم في تنوير الرأي العام، وتفقيه الناس وتوجيههم في أمور دينهم ودنياهم، وغير ذلك من المهام الموكلة إليهم؛ مشيرا إلى الحقوق التي يجب أن تكفلها لهم الجهات المعنية، من أجل ترقية حياتهم المادية، وتحسين ظروفهم المعيشية. *فضيلة الشيخ.. أنت شيخ الزاوية القاسمية، وترأس كذلك الرابطة الرحمانية للزوايا العلمية.. فهلاّ حدّثتنا عن وضعية الزوايا في الجزائر.؟ الحديث عن الزوايا حديث عن رسالتها الأصيلة، كما يعرفها العارفون بحقيقتها، باعتبارها منارات قرآنية، ومعاهد علمية، أسّست على التقوى من أوّل يوم. أسّست على القرآن لنشر رسالة القرآن، وإصلاح النفوس بهدايته. الزوايا الأصيلة عمادها العلم والمعرفة، وسلوك الطريق باستقامة واعتدال؛ وهو منهج الإسلام. الزوايا رسالتها ربانية وإجازتها ربانية. ما من شيخ من الشيوخ الذين عمروا الزوايا الأصيلة في الجزائر إلاّ وله مرجعية روحية وعلمية. شيوخه علماء ربّانيون، سندهم الروحيّ والعلمي متصّل برسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه المنارات التي انتشرت في أرض الوطن عمرها الصالحون بالقرآن وعلوم القرآن. تعنى بالعلوم الشرعية عموما، وعلوم اللغة العربية، باعتبارها لغة القرآن، ومفتاح معرفته، والوسيلة لاستنباط أحكامه، والوقوف على أسراره. الزوايا التي نتحدّث عن رسالتها، بمعناها الصحيح، ومفهومها الشامل، هي التي تسعى إلى إصلاح المجتمع، بالدين القيم والتوجيه الراشد. ومن أجلّ أعمالها رسالتها الاجتماعية، ببعديها: البعد الأول يتمثّل في الرعاية والكفالة للفئات المستحقّة لهذه الرعاية؛ ومنهم اليتامى والأرامل، والفقراء والمساكين، ومنهم المرضى وعابرو السبيل؛ بما تمدّهم به من مساعدات، وتكفل لهم من حاجات. والبعد الثاني يتمثّل في الإصلاح الاجتماعي، فهي تسعى إلى إصلاح ذات البين؛ تؤلّف بين الفرقاء، وتصلح بين المتخاصمين. خطابها جامع، يؤلّف ويحبّب ويقرّب بين الناس، ويمتصّ كلّ خلاف قد ينشأ بين الناس. هذه هي الزوايا التي نشأنا في رحابها، وأخذنا العلم من شيوخها؛ ولا يجد الناس فيها إلاّ صلاحا وفلاحا، ومثابة وأمنا. أما تلك التي انحرفت عن سواء السبيل، ولا أثر للصّلاح فيها، أو تلك التي انتحلت صفة الزاوية، وتستغلّ عنوانها، فهي أصلا غير معدودة منها. ونحن نتبرأ من حالها، ومن كل الطفيليين والدخلاء، الذين يظنّون أنّ الزاوية مجرّد بناء يُشاد، أو سجلّ تجاري يُفاد، أو عنوان يُدَّعى من هذا أو ذاك؛ وهو ما شهدناه، منذ مطلع التسعينات، حيث تهيّأت للناس ظروف خاصة أغرت بعضهم؛ وجعلتهم يتجرّأون على السعي لمشروع الزاوية، كما يقبل أحدهم على أيّ مشروع تجاريّ؛ وأصبح تعاملهم مع مشروع الزاوية أشبه ما يكون بالتعامل مع السجلّ التجاريّ. لقد كنت أطلقت هذا التعبير، منذ أزيد من ربع قرن؛ وحذّرت من عواقب هذا التوجّه؛ ودعوت إلى قطع الطريق على المتاجرين باسم الزوايا، ووضع حدّ للمسيئين إلى سمعتها، وتطهير ساحاتها من أشواك الجاهلين العابثين بمصداقيتها. * أتريد القول من خلال كلامك، إنّ هؤلاء يتاجرون باسم الزاوية؟ – ذلك ما كان، وما هو حاصل الآن. هؤلاء الدخلاء الانتهازيون ينتحلون صفة الزاوية، ويتاجرون بعنوان الزاوية؛ وليس لهم من همّ ولا غرض سوى تجارة الدنيا والظفر بمتاعها القليل. هذا ما يدفعهم إلى مسعاهم؛ وهو ما أساء كثيرا إلى هذا الرصيد العظيم والميراث التليد؛ وهذا ما أعطى خصوم الزوايا والمناوئين لرسالتها فرصة سانحة للنيل من سمعتها، والطعن في مصداقية رسالتها وشرف رجالها؛ وهي التي ارتبط بها تاريخ الجزائر، منذ قرون. التاريخ العلمي والتربوي والثقافي والاجتماعي؛ وكذلك التاريخ الوطني والجهادي. هذا التاريخ، بكلّ أمجاده، وفي مختلف أبعاده، ارتبط بالزوايا ارتباطا وثيقا. لقد كانت هذه القلاع الربانية عبر القرون، وما زالت إن شاء الله مصابيح هداية، يجد الناس في رحابها السكينة والطمأنينة؛ ولا يستمعون من منبرها إلاّ للكلمة الهادية، والخطاب الجامع. ولذلك أقول: ينبغي التمييز بين الأصيل والدخيل. وفي تقديري أنّ الإعلام له دور كبير، بإعطاء الرأي العام هذه الحقائق، حتى يظهر للناس الحقّ من الباطل، ويتميز الطيّب من الخبيث. لقد قلت في مناسبات سابقة: إننا نهيب بالمؤسّسات المعنية أن تتعاون معنا في جهودنا الرامية إلى تطهير ساحة الزوايا من الطفيليين والانتهازيين الذين يعيثون فيها فسادا، ويعكّرون أجواءها الصافية؛ وهي التي يلتمس الناس في رحابها حياة روحية صافية، أساسها تقوى الله، وإيصال الخير إلى الناس، وحبّ الخير لكل الناس، بعيدا عن زخرف الدنيا وفتنها المادية الطاغية. * في الآونة الأخيرة ظهرت حركة في وسط الأئمة الذين يشتكون من التهميش. فما تعليقكم على هذا؟ ؟ – أنا أقول إنّ الإمام صاحب رسالة، هو في المسجد يقوم على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ويؤتمن على أشرف رسالة، هي رسالة المسجد. الإمام قدوة للناس؛ فهو الّذي يهديهم ويرشدهم، ويفقّههم في أمور دينهم ودنياهم. هو الذي يصلح بينهم إذا تفاسدوا، ويقرّب بينهم إذا تباعدوا. هو من يغذّي القلوب بغذاء القرآن، ويصلح النفوس بهداية الإيمان. خطابه المسجدي يفترض أن يكون جامعا مؤلّفا؛ وتسري روحه في محيطه الاجتماعي؛ فينتفع به من يرتاد المسجد، بما يرقى بحياته الروحية، ويصلح حياته المادية. هذه بعض صفات الإمام الذي يؤدّي رسالته وكفاءة وإخلاص. وقد عرفنا أمثلة صالحة من هؤلاء الأئمة. كانوا بحقّ مصابيح هداية في وسطهم الاجتماعي؛ واستطاعوا أن يؤلّفوا بين القلوب، ويجمعوا الناس حولهم. وهذا كلّه، إنما يتحقّق في الإمام، حين يكون على قدر من الكفاءة والأهلية لرسالته؛ وهو ما يعطيه مصداقيته، ويحفظ له سمعته. أما الحديث عن تهميش الإمام، فأنا لا أعتقد ذلك واقعا؛ ولا ينبغي أن يقال في حقّ الإمام إنه مهمّش. وعلى الإمام أن يتذكّر دائما أنه حامل رسالة؛ ويجب أن يكون في مستوى هذه الرسالة، ويتحلّى بأخلاق هذه الرسالة. لا شكّ أنّ للأئمة حقوقا وحظوظا من الدنيا، كبقية العاملين من الناس. قد يستحقّون ترقيات؛ وقد ينتظر بعضهم تسوية وضعيات. قد يمضي بعضهم مدّة طويلة قبل أن تسوّى وضعيتهم الإدارية؛ وقد لا يحظون بترقية مادية ولا معنوية. فمن حقّ الأئمة، في هذه الحالات، أن يسعوا من أجل تحصيل حقوقهم، بالوسائل المشروعة، التي تتناسب مع مكانتهم، وتحفظ لهم سمعتهم. عليهم أن يراعوا في مطالبهم أن تكون بطريقة مناسبة، وأسلوب حضاريّ، كما هو مطلوب في جميع الناس؛ ولكنّه مطلوب أكثر في رجال يأتمّ بهم الناس. وأنا هنا، مثلما أدعو الجهات المعنية إلى مزيد من الرعاية لحقوق السّادة الأئمة، وإعطائهم ما يستحقّون من حظوظ مادية ومعنوية. كذلك أدعو إخواني الأئمة إلى ما أدعو إليه نفسي. أدعوهم إلى أن يرتقوا بخطابهم، وينهضوا برسالتهم على خير وجه مستطاع. وأهيب بهم أن يحرصوا دائما على أن تكون للناس فيهم الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة. حاورته: سعيدة. ج