للشاعر الدكتور طلال الجنيبي (الشعر هو ما يحدث حين لا شيء آخر بالإمكان)- تشارلز بوكاوفسكي. وحينما نظن أنه لم يتبق لنا سوى الكلمات سنكتشف الكون كاملا. في هذا الشعر الذي سيرافقنا منذ البداية ويجعلنا نتأمل فضة الماء التي تحوّلت إلى كلمات تحت ضوء القمر، وكأن الصبح يتنفس الحياة شعرا، وكأن الندى كلمات يلمع فيها الضوء المعنى، هذه الكلمات التي غنتنا نبضا يسري في نسغ القصيدة حيث تزهر اللغة وسيينع قطافها بعد حين، فهي تمضي ببهائها الشعري الكامل لتحتضن مشاعرنا، وتروض كل هذا الموج من الوجد، وتقترب من الروح وتلامسها وتعبر إليها مباشرة، فهي تعرف معنى الاقتراب والوصول. والشاعر طلال الجنيبى هو هكذا قريبا من الروح في ديوانه (على قيد لحظة)، الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، والحاصل على جائزة أفضل ديوان شعر في الإمارات عام 2017، والذي يتضمن حوالي 50 قصيدة متعددة الأغراض، فالشاعر صائد للحظات التي تنفلت منا، وهو المرهون (على قيد لحظة)؛ وهذا العنوان لا يعني الثبات في ذات اللحظة، والقيد لا يعني السكون بل الديمومة والاستمرارية إلى آنية اللحظة الشعرية، كما تحيل إلى ذلك الدلالة اللغوية، فهو في لاحظ لحظته الشعرية يعرفنا كيف يهطل الشعر بقدر اعتصامه في القصيدة، فيعيده الى غنائيته التي انبثق منها بعدما غربته الحداثة طويلا، ويعيد للرومانسية وجهها الحقيقي، فقصائد الديوان مكتظة بأحاسيس ومشاعر معبره عن وجد الشاعر العاطفي وصانعه لجمال الوجود، ينقلنا فيها بقدرته الفائقة في التعبير من حالة شعورية إلى أخرى على نحو نلاحظ معه التماس والتوتر النفسي والعاطفي بين الشاعر وكلماته، فيقول في قصيدته (أحدث عنك) وهي مفتتح ديوانه. أحدث عنك جميع الفصول أحدث عنك ليالي السهر أحدث عنك ثنايا الحنين وأبحث عنك في شتى الصور وارحل فيك إذا ما تلاقى نهار بليل وهل القمر فأسأل عنك بغير سؤال لينساب لحن رقيق الأثر إلى أن يقول أسافر فيك بغير رحيل وأرحل فيك بغير سفر وأبحر فيك بغير شراع بغير ابتلال بماء غمر ويواصل القول احدث عنك شموس الوجود وأنت الطريق ونور البصر فلا يدرك المرء عمق السؤال عن التو ق إلا إذا ما نظر أسلوبيا، أعاد الشاعر تشكيل عناصر موسيقى الإيقاع وجعلها تتناغم مع شجن الكلمات ليساعد في ابتكار نوع جديد من البصمة الصوتية، الموسيقى تنسجم مع اللحظة التي كتبت فيها القصيدة كأنها كتبت توا؛ فالنص يعكس قدرة الشاعر على التأثير والتمييز بفرادته الأسلوبية أو بصمته الصوتية التي ابتكرها من ناحية الإلقاء، وقدرته على الإدهاش وإقناع المتلقي بالمزاج الشعري الخالص. وسنكتشف في ما يلي من الشعر هذا التتابع العذري والشغوف للكلمات كأننا بين نغمتين متجاورتين في قطع موسيقية تتماوج في هدوء طويل من الاطمأنينة بينما يتوه المحيطون بك لحظتها مرتبكين فيقول في قصيدة (جناح العنفوان) أحلق بين سرب من أمان لعلني أتقي وهجا يراني ليحملني شعور عبقري بحركة جناح العنفوان شعور عبقري هذا الوصف الملهم، والواسع الدلالة كالإبحار في فضاءات رحبة حيث لا وصف للوصف، فكل النهايات مفتوحة، وهذه المسافة صعودا إلى أعالي الموجة كشهقة الإدهاش التي هي قيد لحظة بين الشعر والشعر، وهذه هي ديمومته الأبدية، فلا سر في القصيدة إلا القصيدة ذاتها، لذا منح الشاعر هذا الشعور العبقري جناحا من العنفوان، مع كل هذه الكلمات البسيطة والأنيقة والمفعمة بالشعر والأمل والمتحررة بذاتها، القادرة دوما على الوصول إلى فكرتها الواسعة الأفق. يقول الشاعر طلال الجنيبي في أحد لقاءاته الصحفية (إن الشعر يمس العدم فيبعث فيه الحياة، ويؤكد أن الشعر لغة النفس والشاعر هو ترجمان النفس)، لذا لا يضع الجنيبي حدوداً بين حياته التي كان عليه تطويعها مع إيقاع كلماته وبين شعره الذي يبدو متسقا تماما مع شخصيته إلى أقصى حدود حضوره، فهذا الشغف بالذات الشاعرة ما كان ليتم من دون مرآة تعكس صورتها، أو صفحة ماء كما في حال نرسيس، وهذا هو الحال في القصيدة حيث الشاعر سلبت لبه الكلمات، إذ أن حياته لم تكن سوى تجربته الشعرية الملهمة وعطائه المتواصل وإبداعه المتجدد، فيقول في قصيدة (جوهر الإنسان)، وهذا النص مقرر ضمن مناهج اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم في دولة الإمارات، لما تحمله من قيم أخلاقية سامية. جوهر الإنسان بذلٌ وعطاءٌ ومشاعرْ فاستزدْ من كل خيرٍ ولتكنْ بالعون حاضرْ كن جميل الروح شهماً كن غني النفس شاكرْ قبل أنْ تنطقَ حرفاً اجعل الفكر يبادرْ وليكُنْ قولكَ نفعاً وليكنْ لفظك عاطرْ عاون الناس لتغدو بعطاء الخير قادرْ واجب الإنسان دوماً أن يلبي ويناصرْ لن يضيع الخير يوما فارتقِ درب المآثرْ ويكمل الشاعر مشروعه الأخلاقي والفلسفي، فيقول في قصيدة (لذات العقول)، وهي عبارة عن إجابة معرفية لأسئلة فلسفية، فهو حين يسأل يجاوب يا سؤالا لا يطول عن جواب قد يطول هل تنفست المعاني؟ هل تذوقت الذهول هل تحدثت بصوت فيه نفح من خمول عن رصيد للحنان عن سكون عن فضول؟ عن شعور صاغ سحرا جال في كون يصول عبر ما تحمل نفس فوق ما يرضى القبول وفي قصيدة (إحساسنا الأبدي)، نرى أن هذه القصيدة حدث أن ولدت في لحظتها الشعرية وتناسلت في الكلمات لتكون حياة أخرى حياة تستمر في ديناميكيتها في الولادة من جديد تدون حياتها الجديدة، كنظرات الغيوم ترعد في البرية، لا يتطلب سوى حضورها في الكلمات لتكون هي القصيدة، فهي لا تبتلع رغبتها في تأكيد حضورها كاليقين، فيقول الشاعر في قصيدة (إحساسنا الأبدي) أشتم فيك برغم البعد عطر غدي بين الأماني التي تنثال من جسدي عبر العبير الذي ينساق في شَغفٍ ليزرع الجنة الخضراء فوق يدي تحت الشعور الذي يجتاح أزمنةً من الرسوخ ليرخي عقدة الوتدِ لتشعر الروح أن الروح صومعة اختارها كاهن ينتابه جَلَدي ليعجن الطيب في محراب وحشته ويخبز الذوق كي يقتاته خلدي فيحتفي العطر مزهواً يراقصني مراوداً كالشذى إحساسنا الأبدي أن اللحظة الشعرية هي مطلق الشعر السابق على تدوينه بالكلمات، وعلى التدوين أن لا يقيد هذه اللحظة ويوثقها في القصيدة إلا بكلمات مثلها، ومسافة الزمن بين اللحظة والتدوين سواء كانت بوعي أو خارج منطقة الوعي، تحيلك إلى الشعر المحض الذي ولدت منه القصيدة، فهي تقف بين زمنين زمن كانت فيه لحظة شعرية وزمن حضورها في الكلمات لكن حلمها الأبهى أن توجد في خيال المتلقي (في زمن لم يولد بعد زمن في الخيال لا زمان له) لتولد فيه من جديد في زمن محاذي لزمنها زمن يضاهي البدايات ليبهرنا الوصول إلى أقصى المعاني، فيقول الشاعر في قصيدة (استغاثة كمان) نداؤك صوت تحمل وزري ورجع حنينك أطلق أسري صرخت فلما استغاث الكمان أجاب الزمان وما عاد يجري حنانيك كيف يغيب الأوان ويكسو ثياب إليها التعري ويستنطق الصمت صوت الزوايا ويستعذب الظلم نهج التحري هنا نتسائل أي زمن ستخلقه موسيقى الكمان، وقوسه يمر على الأوتار بين بداية هي النهاية ونهاية هي البداية، وهكذا هو قوس الكلمات يمر على أوتار القصيدة ليخلق موسيقى المعاني. ربما يعتقد البعض أن حياة القصيدة قصيرة حسب كلماتها التي ستعلن نهايتها، لكنها أبدية في مطلق تلك المعاني كإكسير الحياة تختصر حضورها الكثيف، فهي كالطبيعة حية دائما من أجل لا أحد تنتقل من المعنى إلى المعنى ومن الخيال إلى الخيال ومن التأويل إلى التأويل، فلازالت تلك القصائد تحتضن زمنها القادم من بعيد كأشرعة بيضاء بلون الضوء تبحر بحرية في بحر أزرق دافئ تحت سماء تبتسم بزرقة دافئة أيضا وريح زرقاء شفيفة من بقايا أشعة الشمس والأفكار، لتؤكد قدومها المتتالي وهي تدخل زمننا دون تعجل، عارضة صوره كالمرايا المتعاكسة التي نرى أنفسنا فيها، كأنها تخبرنا بأنها ولدت توا وهذه لحظتها الشعرية التي تحملها معها دوما، وهي لا تتخلى عن هذا الإبحار حتى وأن كانت على قيد لحظة، فيقول الشاعر في قصيدة (سطور الحياة)، والتي استل منها عنوان ديوانه على قيد لحظة… توقفت بين سطور الحياة لأرقب إطلالة الكائنات وانظر كيف تثور العباد على بعضها في صراع (الفتات) فيا (لجهالة) أهل الحياة على قيد لحظة… على قيد لحظة… تنفسني خاطر مستتر فلم يصطفيني ولم ينتظر فلما تذكر وقت السبات تعلق في قارب الأمنيات فلما اختار عذري.. ولم يعتذر على قيد لحظة. وضعنا الشاعر على قيد لحظة، للالتحاق باللحظة الشعرية الكونية بحثا عن الكلمات المفقودة والتي تهرب كالظل الذي يمتد عبر تموج الفكرة إلى الضفة الأخرى عبر أزرق الرؤيا وأخضر التأمل. يعرف كانط "الجميل هو ما يتمثل من دون مفاهيم بوصفه موضوع رضا كلي"، وهذا الرضا الكلي هو تمام الكمال بين الشاعر وقارئه. وفي قصيدة (لغة الصمت)، سنجد هذا الرضا الكلي والمعبر عن الجميل يتحقق، فهذه القصيدة سيمفونية بنسيج رقيق من الإيقاعات المتناغمة المنسجمة مع السياق تؤرخ لأبجدية الصمت، ربما هي لغة العيون أو تدفق الأفكار، حيث التأمل في لحظة الشجن، فيقول الشاعر طلال الجنيبي في قصيدة (لغة الصمت) يغشاني الصمت إذا انطلقت في الكون حمائم أشجاني ومضت تختال على فنن ربضت في موطن أفناني فكان الحسن يسامرني فيذوب الحزن بوجداني وكأن الشوق يحاورني لأجيب الشوق بتحناني وكأني أطياف حملت ترنيمة صدق تغشاني تتغلغل في داخل نفسي لترابط دوما بكياني.. سنجد في خلفية النص الكلمات بتلقائية تستحضر الإحساس بكثافة اللحظة، وتتحول إلى نغمات مضمرة كاللمس على أصابع البيانو تعطي المرء إحساسا إيقاعيا يتدفق ويتحول إلى قطرات مطر تنهمر على أرض يباب. والناظر لتجربة الشاعر “د. طلال الجنيبي” في ديوانه (على قيد لحظة)، سيجده يتمتع بحيوية فريدة وقصائده تعبر عن فائض فتنتها والشعر فيه كما هو لا ينقطع انتسابه إلى أصله المطلق المكتمل في مستحيل جماله العابر لحدود كونه وخياله الممتد في سيولة المعاني، وعليه أن يتأمل هذه اللغة الآسرة باتساعها المذهل، وهي تنحل بكل ما تحتويه من بلاغة في الشعر، فيمنحها إيحاءات شعورية من روحه الوهاجة وأيونيته التي تجعل من الكلمات شعرا كاملا، فالشعر هو الحالة الأيونية للكلمات وعليه أن يشعرنا بأننا لسنا وحيدين وأن الحياة كأشياء كثيرة تحدث لمرة واحدة.